كان رمضانهم قرآنيًّا بامتياز!

في شهر رمضان من سنة 1347هـ ألَّف العلامة البحر عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى- كتاب «المواهب الربانية من الآيات القرآنية»، وفرغ منه في الثامن والعشرين من نفس الشهر.

وفي شهر رمضان من سنة 1365هـ ألَّف كتاب «القواعد الحسان لتفسير القرآن»، وفرغ منه في السادس من شهر شوال.

وفي شهر رمضان من سنة 1368هـ ألَّف كتاب «تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن»، وفرغ منه في ثالث العيد[1].

ثلاثة كُتب في الدراسات القرآنية ألّفها العلامة السعدي في شهر رمضان، وربما بدأ ببعضها قبل رمضان، لكنّها بلا شك استغرقت جهده في رمضان. هذه صورة واقعية لكيفية العيش مع كتاب الله في رمضان.

إن الاعتناء بالقرآن الكريم في شهر رمضان تلاوةً وتدبرًا ومدارسةً، ونحو ذلك من وجوه الاعتناء: سُنَّة محكمة ثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أخرج البخاري (ح6) عن ‌ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  ‌أجود الناس، وكان ‌أجود ما يكون في ‌رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من ‌رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم  ‌أجود بالخير من الريح المرسلة». وفي بعض الألفاظ: «يعرض عليه القرآن».

وهذا الاعتناء بالقرآن متعلّق بالاقتران الكبير بين شهر رمضان والقرآن في كتاب الله تعالى؛ فقد قال -عز وجل-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]؛ فللقرآن المُنزَّل من عند الله صلة عظيمة بهذا الشهر المبارك. وقال الله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ 1وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ 2 لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ 3 تَنَزَّلُ الْـمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ 4 سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: ١ - ٥].

فهل سيكون لنا في شهر رمضان مزيد اعتناء بالقرآن؟

الوظائف القرآنية في رمضان

هكذا كان الأئمة وأهل العلم يصنعون في رمضان؛ يعيشون مع آياته ومعانيه، فيفتح الله عليهم من الفهم والعلم والعمل أضعاف ما بذلوه له، وكانوا يرونه موسمًا لإحداث نقلة قرآنية فذة، فيزكّي القرآن نفوسهم، ويطهّر أرواحهم ويغذّي عقولهم ويزيد من معرفتهم بالله تعالى، فأصبح هذا الشهر حاضنًا للكثير من المشاريع القرآنية الخاصة والعامة، كلّ بحسبه.

ففي باب الاستكثار من التلاوة ذكرت لنا كتب التراجم الكثير ممن كان يستكثر من تلاوة القرآن في شهر رمضان، كقول إبراهيم النخعي: «كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين»[2]. وبلغ الحال بالإمامين أبي حنيفة والشافعي أنهما وغيرهما كانوا يختمون القرآن في كل يوم من شهر رمضان مرتين[3]؛ أي أنهم يختمون القرآن ستين مرة في شهر رمضان.

وقد كانوا -رحمهم الله- على تفاوت في مقدار الازدياد من التلاوة، غير أنهم جميعًا جعلوا من شهر رمضان فرصةً لهذا العمل، ففرَّغوا أنفسهم لذلك، ومَحْوَرُوا عيشهم في رمضان وفقًا لهذا المشروع، كما ذُكِرَ عن قتادة بن دعامة السدوسي أنه كان إذا جاء ‌رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة[4].

وطائفة أضافت إلى الاستكثار عبادةً أخرى، وهي الصلاة؛ فجعلت شهر رمضان فرصة لقيام رمضان والاستكثار من قراءة القرآن في ذلك القيام، كما حكى عمران بن حدير عن أبي مجلز أنه كان يؤمّ بالحي في ‌رمضان، وكان يختم في سبع[5].

وذكر الفقيه عز الدين عمر بن دهجان البصري المالكي أن أبا العباس أحمد بن سلمان الحربي ‌‌المقرئ كان يُصلّي التراويح كل ليلة بعشرة أجزاء من ‌القرآن، فإذا كان النصف من ‌رمضان صلى كل ليلة بنصف الختمة، وكان ينصرف من صلاة التراويح وقد صعد المسحِّرون المنارات[6].

ولعل بعضهم يضيف إلى ذلك اعتناءه بالتدبر والتأمل في كلام الرحمن؛ فتتفجّر في قلبه المعاني والإشارات، فيعمد إلى تقييدها وكتابتها ودراستها، قال المزني: «كان الشافعي إذا دخل شهر ‌رمضان يقوم الليل يصلي، فإذا مرَّت به آية تصلح لبابٍ من أبواب الفقه يرجع ويُسلِّم، ويُسْرِج السّراج ويُثْبتها، ثم يطفئ السراج ويعود إلى الصلاة، ثم يفعل ذلك في الليل مرارًا كثيرة»[7].

وبعضهم يجعل من قيام رمضان وصلاة التراويح فرصة لتثبيت حفظه لكتاب الله، فيصلي بالناس إمامًا، فيُراجع القرآن ويُثبّت حِفْظه، ويمتحن قدرته على استذكار آياته، وهذا معروف مشهور، قال ابن خزيمة: «استأذنتُ أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولًا حتى آذن لك. فاستظهرتُ القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة. ففعلت، فلما عيّدْنا أذن لي فخرجت إلى مرو، وسمعت بمرو الروذ من محمد بن هشام، فنُعِيَ إلينا قتيبة»[8].

وبعضهم -كقتادة وغيره- يوجّه نشاطه التعليمي في تدريس القرآن في شهر رمضان، أو يجتمع بطلابه لتلاوة القرآن ومدارسته؛ كما فعل زبيد اليامي وغيره.

هذه نُتَف من أخبار الأئمة وأهل العلم والصالحين في جعل رمضان موسمًا قرآنيًّا، تدلّك على نظرة الصالحين إلى شهر رمضان وكونه موسمًا قرآنيًّا، وهو باب كبير من أبواب العلم والسلوك يستحق الجمع والدراسة، فإن من واجبات الأمة، أفرادًا وجماعات، أن يُعنَوا باستعادة القرآن في حياتهم، وأن يزكّوا أنفسهم وأرواحهم وألسنتهم وعقولهم ومجالسهم وبيوتهم ومساجدهم بالنظر فيه وتلاوة آياته وتعلُّم أحكامه والاهتداء بتوجيهاته، فهل تظن أن حالهم بعد رمضان كحالهم قبله؟ وهل تظن أن القرآن لم يُغيِّر نفوسهم وبيوتهم ومجتمعاتهم في رمضان؟

وقد جزتُ بك إلى الأئمة والعلماء من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، لتنظر في تنوُّع اجتهاداتهم في التعامل مع القرآن في رمضان، ولتنظر طرائقهم في النظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم  في التعامل مع القرآن في رمضان، وقد مرَّ بك أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يُدارس جبريل القرآن، وقد كانت هذه المدارسة فيها من الجهد ما فيها، من إثبات ناسخ وترتيب آيات وسور، والإقراء بحروف العرب، ونحو ذلك، فلما كان العام الأخير تمت «العرضة الأخيرة» المحكمة.

قال ابن كثير: «والمراد من معارضته له بالقرآن كل سَنة: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى؛ ليبقى ما بقي، ويذهب ما نُسِخَ توكيدًا واستثباتًا وحفظًا، ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره -عليه السلام- على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم -عليه السلام- اقتراب أجله، وعثمان -رضي الله عنه- جمع المصحف الإمام على العرضة الأخيرة. وخص بذلك رمضان من بين الشهور؛ لأن ابتداء الإيحاء كان فيه؛ ولهذا يُستحب دراسة القرآن وتكراره فيه، ومِن ثَم اجتهاد الأئمة فيه في تلاوة القرآن، كما تقدم ذكرنا لذلك»[9].

رمضان هو شهر الوحي، وشهر الاهتداء بأنواره، وشهر التزكية به، وهو هكذا شرعًا وقدرًا، أما شرعًا فكما سبق، وأما قدرًا فقد ورد ما يفيد ذلك، فقد قال الله -عز شأنه-: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: ٣]. وأخرج الإمام أحمد في مسنده (ح16984) عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «أُنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأُنزلت التوراة ‌لستٍّ ‌مضين ‌من ‌رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأُنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان». فانظر إلى تلك العلاقة الكونية الوثيقة التي تصل بين شهر رمضان وما أنزل الله من الكتب على رسله؛ لتدرك أهمية الاعتناء بكتاب الله تعالى في هذا الشهر المبارك.

مشاريع قرآنية في رمضان

مرَّ بك -في ثنايا الحديث عن حال سلفنا وأئمتنا مع القرآن- عددٌ من المشاريع القرآنية في شهر رمضان، ولعله قد ساورك شيء من الإحباط والشعور بالعجز تجاه تلك القامات العالية، ولذلك أود أولًا أن أخبرك بأنه ينبغي لنا معرفة أحوالهم لا لنكون نسخة خالصة من أحدهم، فأكثرنا عاجز عن بلوغ تلك القمم الشاهقة، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، لكننا نستطيع أن نقتدي بهم في طريقة تفكيرهم في جعل شهر رمضان موسمًا قرآنيًّا بامتياز، ثم نقتدي بالعزيمة الصادقة في الاجتهاد في إصلاح العلاقة مع كتاب الله تعالى.

فهذا ما أردته؛ أن تفكّر بجدية في كيفية استثمار هذا الموسم العظيم في إنعاش قلبك وعقلك بالقرآن، وفي إحداث نقلة إيمانية قرآنية في رمضان، وفي تقديم القرآن إلى أهل بيتك ومسجدك ومجتمعك باعتباره كتاب هداية وإصلاح.

فاشحذ همتك، واعقد نيتك، وصحِّح عزيمتك، وإياك أن تكون من المغبونين الذين يهل عليهم الهلالان ولم تتفتق عقولهم عن معاني كلام الرحمن، ولم يتذوقوا حلاوة آيات الكتاب، ولم تزكو نفوسهم بتوجيهاته، ولم يَرِدُوا ذلك المشرع الرويّ، ولم يصدروا عن سوقه بأجلِّ المغانم والصفقات.

ودونك بعض الأفكار المستنبَطة مِن فِعْل سلفنا الصالح، والتي يمكن تحويرها وتهذيبها ليتكوّن منها مشروعك القرآني في رمضان؛ أملًا بأن يكون لك شفيعًا وحُجَّة عند الله تعالى، وأن يكون بابًا لك إلى تحصيل التقوى في رمضان، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. ونسأل الله من فضله.

1- مشروع الاستكثار من تلاوة القرآن

حرص الأئمة والعلماء والصالحون على الاستكثار من تلاوة القرآن في نهار رمضان وليله، وإضافةً إلى ما مرَّ بك من أحوالهم فإن الحافظ ابن رجب حكى بعض أحوالهم في هذا الباب، وعقّب عليها تعقيبًا مهمًّا فقال: «قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وكانت عائشة -رضي الله عنها- تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه. وإنما ‌ورد ‌النهي ‌عن ‌قراءة ‌القرآن ‌في ‌أقل ‌من ‌ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضّلة كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يُطلب فيها ليلة القدر أو في الأماكن المفضَّلة كمكة لمن دخَلها من غير أهلها؛ فيُستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره»[10].

ومعنى كونه مشروعًا لك في رمضان أن تجعل لك هدفًا محددًا من الختمات في رمضان أولًا، تفوق عادتك في غيره من الشهور، وأن تلزم نفسك وتركّز جهدك في تحقيقه ثانيًا.

2- مشروع الصلاة بالقرآن

والمقصود أن يكون لك وِرْد تقرؤه في صلاتك، مستكثرًا فيه من القراءة، وقد أخرج مسلم في صحيحه (ح756) عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الصلاة طول القنوت»؛ أي طول القيام، قال ابن عمر: «ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن»[11]. وذلك من أعظم صور قيام رمضان الذي ندب إليه نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لاحتوائه على الصلاة وقراءة القرآن والدعاء.

وإذا كان مشروعك في رمضان الصلاة بالقرآن؛ فيعني أنك لا تكتفي بصلاتك التراويح خلف الإمام، فتعمد إلى المزيد من الركعات قبلها بين العشاءين، أو بعدها في وسط الليل أو آخره، أو في الضحى أو في الظهيرة.

والأصل أن تكون صلاتك بالقرآن من محفوظك، وربما تطلَّب ذلك مراجعة جيدة قبل الصلاة، ويمكن قراءة القرآن في الصلاة بالمصحف لمن لم يكن حافظًا، وهذا مرويّ عن عائشة -رضي الله عنها-؛ فقد أخرج البخاري تعليقًا (1/518) أنها كانت تأتم بعبدها ذكوان، فيقرأ من المصحف.

ومعنى كونه مشروعًا لك في رمضان: أن تجعل لك هدفًا محددًا من الركعات يوميًّا ومقدارًا محددًا من القرآن، ثم تلتزم بهما حتى دخول العشر الأخير، فإذا دخلت العشر الأواخر من رمضان ضاعفت جهدك وزدت من الركعات، وزدت من مقدار التلاوة.

3- مشروع دراسة معاني القرآن وتدبُّره

وهو مشروع عظيم؛ لأن فَهْم كلام الرحمن من أعظم الغايات وأجلّ الأعطيات، قال الطبري: «إني ‌أعجب ‌ممن ‌قرأ القرآن ولم يعلم تأويله؛ كيف يلتذ بقراءته؟!»[12]. والحق أن كثيرين يلتذون بقراءته لوجود فَهْم عامّ لما يقرؤونه، ولاستشعارهم عظمة ما يقرؤونه، لكن شتان بين هذا وبين من أضاف إلى تعظيمه القلبي إدراك مراد الله من الآيات ومعرفة هداياتها واكتشاف كنوزها، وشتان بين القشور واللُّبّ.

ومن الطرق المعروفة أن يكون لك قراءة في كتاب أو أكثر في تفسير القرآن وبيان معانيه، بحسب مستواك العلمي، وبحسب خبرتك في قراءة كتب التفسير.

والمبتدئ الذي لم يسبق له ذلك يفضَّل له أن يقرأ المختصرات المطبوعة على هامش المصحف، مثل «التفسير الميسر» الصادر عن مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، أو «المختصر في التفسير» الصادر عن مركز تفسير للدراسات القرآنية. فيقرأ الآية ويقرأ معناها، متأملًا متمعِّنًا، ثم يربط بين المعاني في الصفحة الواحدة والصفحتين، وهلم جرا، ثم يستخرج ما فيها من الحِكَم والأحكام، ومن صفات الله وأسمائه وأفعاله، وما فيها من القصص والعِبَر والتوجيهات. وكثيرون يختمون القرآن كاملًا في رمضان بهذه الطريقة.

ومن الجيد أن يكون ذلك في مصحفه الخاص به، وأن يستخدم القلم والكتابة لتُعينه على القراءة الجيدة. وبعض الناس يكتب على مصحفه الخاص به، وهذا لا بأس به على الراجح من أقوال العلماء؛ وذلك لأنه خاصّ به، ولأن خطّه لا يمكن أن يختلط بخط الطباعة فيلتبس على القارئ، وحبّذا لو أشار إلى ذلك في أول المصحف.

ومشروع التفهم والتدبر الخاص بك لا يشترط فيه أن يكون لجميع سور القرآن، إلا من أطاق ذلك، فيمكن أن يكون هدفك في رمضان هذا العام جزءًا أو جزأين أو أجزاء، أو سورة مثل سورة البقرة أو آل عمران أو يوسف أو الكهف أو النور، ونحو ذلك، وعليه فإنه يستحسن أن تضيف إلى التفسير المختصر كتابًا آخر أو أكثر.

ومن الكتب المقترحة لذلك: «تيسير الكريم الرحمن» للعلامة السعدي، وكتاب «تفسير القرآن العظيم» للحافظ ابن كثير، فإن كنت ذا دُرْبة ودراية بكتب التفسير فيمكن أن تضيف إلى ذلك: كتاب «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، أو ما تشاء من كتب التفسير المتنوعة المشارب.

ويمكن أن يكون مشروعك التدبري: تتبُّع موضوع ما في كتاب الله، ودراسته من خلال كتب التفسير، سواء في الجانب الفردي؛ كالتوبة، وإصلاح القلب، والدعاء، ونحوها، أو في الجانب العام كضعف الأُمّة وموانع النصر، والتكافل الاجتماعي، والجريمة في المجتمع، ونحوها.

ويمكن أيضًا أن يتم مشروع التفهم والتدبر مع مجموعة من الأصحاب، يجلسون ويتدارسون كتاب الله تعالى، وفق خطة تحقّق هدفهم.

وحين نذكر التدبر فأشير إلى أن التدبر عملية عقلية تعالج النص القرآني الذي فهمت معناه، فلا يكون تدبُّر إلا بعد الفهم، لذلك فإن كتب التفسير تُعدّ بوابة للتدبر.

ومعنى كونه مشروعًا لك في رمضان: أن تجعل لك هدفًا محددًا من السور والأجزاء، أو هدفًا محددًا من كتب التفسير، وتصبّ جلّ اهتمامك بمطالعتها ودراستها، وفق خطة معقولة. وستجد نفسك عند انسلاخ الشهر وقد ارتقيت في مدارج الفهم، وتدربت على التدبر والرجوع إلى كتب التفسير، وستجد نفسك قد عايشت كلام الله تعالى، وامتزجت روحك بمعانيه وهداياته، وزكت نفسك بعرضها عليه. وهذا نجاح وأيّ نجاح.

4- مشروع مراجعة القرآن واستذكاره

والمقصود مراجعة المحفوظ وإتقانه للحافظين، وذلك بأن يستهدف مراجعة القرآن كاملًا أو بعض أجزائه.

لا شك أن كثيرًا من الحُفّاظ لديهم برنامجهم المعتاد -في رمضان وفي غيره- لمراجعة كتاب الله، ومستقلّ ومستكثر، لكنّ شهر رمضان يعد فرصة للإتقان، وموسمًا للاستذكار، وهم المقصودون بهذا الطرح.

والمقترح لمن سبق له إتمام حفظ القرآن، وليس له برنامج مراجعة ثابت، أن يراجع ما لا يقل عن خمسة أجزاء، مراجعة إتقان وإجادة، وليست مراجعة رخوة.

وأفضل ما يُثبِّت حفظ القرآن: الصلاة به، فيكون عمل المُراجع يتراوح بين إعادة الحفظ، والتسميع على مقرئ، والاستماع للوسائط الصوتية، والصلاة بما حفظه، خاصةً في العشر الأواخر.

وأقوى من هذا أن يؤم المصلين لصلاة التراويح والقيام من حِفْظه؛ فإن هذا يجعله يركّز على المراجعة والإتقان. ويستطيع -من خلال الإمامة- أن يراجع عشرة أجزاء على الأقل في شهر رمضان، فيكون قد ختم القرآن إمامةً في ثلاث سنوات، وبعض الحفاظ يصلّي بنصف القرآن فيختمه إمامةً كل سنتين، وبعضهم يصلي بالقرآن كاملًا كل عام، فيا لهذا الفوز والنجاح!

‌وقد قال ‌إسماعيل ‌بن ‌عبد ‌الملك: «‌كان ‌سعيد ‌بن ‌جبير ‌يؤمّنا ‌في ‌شهر ‌رمضان ‌فيقرأ ‌ليلة ‌بقراءة ‌عبد ‌الله ‌بن ‌مسعود، ‌وليلة ‌بقراءة ‌زيد ‌بن ‌ثابت، ‌وليلة ‌بقراءة ‌غيره، ‌هكذا ‌أبدًا»[13].

ومعنى كون ذلك مشروعًا لك في رمضان: أن تجعل لك هدفًا محددًا من كتاب الله، ثم تحدّد الوسيلة المناسبة، وحبّذا إمامة المصلين في رمضان، فإنها باب كبير في إتقان المحفوظ وإصلاح النفس؛ لما تستلزمه من تفرُّغ وتركيز وبُعْد عن الملهيات والعلائق وانقطاع عن الناس.

5- مشروع مدارسة القرآن

ومدارسة القرآن اجتماع على كتاب الله قراءةً وتسميعًا ومراجعةً وتعليمًا وتفقهًا وتزكية، وتتطلب رأسًا لهذا الاجتماع، فيعمدون إلى كتاب الله تعالى أو أجزاء منه فيتدارسونها بينهم، وقد أخرج مسلم في صحيحه (ح2699) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ‌ويتدارسونه ‌بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».

وقد كانت عادة الشيخ محمد بن عثيمين أن يجلس عقب صلاة التراويح في الحرم المكي، كل ليلة، فيفيض في شرح وتدبُّر بعض الآيات التي قرأها الإمام في صلاته.

وكما تكون المدارسة في مكان واحد وبطريقة مباشرة في المساجد والبيوت، كذلك يمكن أن تكون المدارسة «عن بُعْد»، عن طريق تطبيقات التواصل المتنوعة.

وكما تكون المدارسة في كتاب الله تعالى، كذلك يمكن أن تكون في التفسير أو في علوم القرآن، أو في أصول التفسير، أو في الكتب التي تتناول سورًا أو موضوعات قرآنية تحليلية.

ومعنى كون ذلك مشروعًا لك في رمضان: أن تصنع برنامجًا قرآنيًّا جماعيًّا تجعل له هدفًا محددًا من كتاب الله، أو من الكتب القرآنية، وتحدّد نقاط المدارسة، وطريقة لإدارتها. ثم تركّز على هذا العمل، وتجتهد في إنجاحه.

رمضان شهرك الأول

والمقصود من هذه المشاريع القرآنية في رمضان تحصيل التقوى واستعادة المنزلة التي تليق بكتاب الله في نفسك ومجتمعك؛ فرمضان شهر استعادة القرآن إلى مكانته في هداية النفوس وترقيق القلوب وتزكية الأرواح.

إن الله -عز وجل- مَنَحنا في كل عام شهرًا نروّض نفوسنا فيه بأنواع العبادات، ليكون رمضان منطلقًا لنا فيما بعد من الشهور؛ في الاستقامة وحُسْن التعامل مع كتابه العزيز، وكأن هذا الشهر المبارك يقول لك: «خذ الكتاب بقوة»، وكأنه يمسح الغبار عن مكان القرآن في قلبك، وكأنه يصنع مأدبة حافلة فيدعو الناس إلى الاجتماع عليها وترك ما سواها، ولذلك ينبغي ألا ينسلخ الشهر إلا بنجاحات قرآنية قد تحقّقت فيه، وعزائم صادقة للاعتصام به وتعهّده وحفظه وفهمه والعمل به.

رمضان شهرك الأول في إصلاح علاقتك بكلام الرحمن، في الاعتناء به وبأحكامه وتوجيهاته، فإذا انسلخ الشهر ولم تأخذ نصيبك من كتاب الله تعالى سماعًا وتلاوةً وتعلُّمًا ومدارسة ومشاريع.. فمتى يكون ذلك؟

إن السنين تُطوَى، وإن الأعمار تنقضي، ولا يزال كثيرون يُسوّفون، ويؤخّرون القرآن عن أولويات اهتمامهم؛ فلا تدري لعل الله كره انبعاثهم فثبَّطهم! فإن كتاب الله عزيز يتطلّب عزائم صدق وانبعاثة حق، فاجعل من توبتك في رمضان إصلاحَ علاقتك بالقرآن، واستعادته في أولويات اهتمامك، لا سيما في عصور الفتن والمدلهمات، واختلاط الثقافات والمجتمعات.

ويبقى السؤال المهم: ما هو مشروعك القرآني في رمضان؟ وما هي الخطوة العملية التي تكون بها استعدت القرآن في رمضان؟

اللهم بلِّغنا رمضان. ووفِّقنا فيه للصيام والقيام وتلاوة القرآن.

[1] انظر: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة، ص44 وما بعدها.

[2] سير أعلام النبلاء 4/51.

[3] مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، للذهبي ص23، ومناقب الإمام الشافعي للبيهقي 1/280.

[4] سير أعلام النبلاء 5/276.

[5] سير السلف الصالحين 3/957.

[6] بغية الطلب في تاريخ حلب 2/764.

[7] مناقب الشافعي 1/244.

[8] سير أعلام النبلاء 14/371.

[9] تفسير القرآن العظيم 1/72.

[10] لطائف المعارف ص318.

[11] فتح الباري لابن رجب 9/195.

[12] معجم الأدباء لياقوت الحموي 6/2453.

[13] وفيات الأعيان 2/371.