الخطاب الدعوي السوي هو الذي يجمع ما بين العلم الصحيح والعاطفة الصادقة، يربط ما بين الماضي والحاضر، ولا يعيش في الماضي ويتوقف عنده ويكتفي بذكر الأمجاد والبطولات والعبقريات.
فضيلة
الدكتور محمد العبدة هو رئيس تحرير مجلة البيان البريطانية سابقًا، حاصل على
الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة جلاسكو - بريطانيا، ومتفرغ حاليًا لممارسة
الدعوة الإسلامية والكتابة في شؤون الفكر والدعوة والتاريخ. وله إنتاج بحثي ثري.
من
أبرز مؤلفاته:
1. دروب النهضة، أحاديث في الثقافة وشؤون
الأمة.
2. قيام الدول وسقوطها، نصوص مختارة من مقدمة
ابن خلدون.
3. مالك بن نبي، مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي.
4. حركة النفس الزكية، كيف نستفيد من أخطاء
الماضي؟!
5. تأملات في الفكر والدعوة.
6. دروس التاريخ.
7. وذكرهم بأيام الله.
رواحل: بدايةً نرحب بكم سعادة الدكتور في منصة "رواحل" التي
تتشرف بلقائكم..
في البداية وبعد مرور فترة من ظهور تيار الدعوة بمختلف أطيافه
واتجاهاته كيف تقيّم هذه التجربة؟! وما أثرها على واقع المجتمعات المسلمة؟! وهل
استفادت منها الجماهير بصورة فردية وجماعية حقيقية؟!
لا
شك أن ما سُمي بتيار الصحوة وما ذكرتم من تيار الدعوة؛ لا شك أنه أفاد في أمور
كثيرة؛ فقد انتشر العلم الديني على نطاق واسع، خاصة بوجود الجامعات الاسلامية التي
أُسست في هذه الفترة (وقد ضعف زخمها الآن)، وامتلأت المساجد بجيل الشباب، وزاد
الوعي بواقع المجتمعات الإسلامية، كما زاد الوعي بواقع الغرب وحملاته الثقافية
المضادة.
ورغم
كل هذا فقد كان جانب النهوض الحضاري ضعيفًا للأسباب التالية:
1-
تغلّب الجانب العاطفي في الخطاب على جانب البحث والتعمق في المسائل ومعرفة أسباب
الخلل.
2-
طغت الحزبية الضيقة على بعض هذه التجمعات التي تمارس الدعوة وتريد النهوض بالمسلمين،
وهذا مما أضعف جانب الاستفادة من كل طاقات الأمة.
3- كان الخطاب يميل إلى العمومية دون الدخول في التفاصيل، وتظهر أحيانًا السطحية والسذاجة في تناول الشؤون السياسية.
رواحل: ما رأي فضيلتك في الخطاب الدعوي الآن –سواء الخطاب العام أم
الخاص أيضًا بطبيعة الحال-؟! وهل يفي هذا الخطاب باحتياجات الجماهير والمتربين في
ظل المتغيرات والتحديات الحالية؟!
لا أعتقد أن الخطاب الدعوي الآن يفي باحتياجات الجماهير؛ فهو في العموم ليس خطابًا تأسيسيًا يعمق في نفوس المسلمين القضايا الكبرى والقيم الأساسية ومعرفة الأصول، لا يزال الخطاب دفاعيًا اعتذاريًا؛ فمثلًا يريدون إثبات صحة القرآن من خلال ما يسمونه الإعجاز العلمي، يتكلمون كثيرًا عن نقائص الغرب ليهربوا من الحديث عن مشكلاتنا -نحن المسلمين-، ولا يعطون المسلم حصة من العلم تجعل لديه مناعة من تأثير الأفكار المنحرفة والعقائد الفاسدة.
رواحل: لكن الاتجاه السائد -أو بالأحرى الظاهر على القنوات ووسائل
الإعلام في فترة ما قبل ثورات الربيع العربي- كان يركّز على اتجاه واحد وهو
الاتجاه الوعظي والقصصي، فما أبرز ملامح هذا الخطاب في رأيك؟! وبقدر ما نشر من
ثقافة معرفية دينية؛ هل كان له تأثير نفسي سلبي على المتلقين؟!
نعم كثر هذا الاتجاه الوعظي القصصي، وخاصة في جانب التخويف وليس في جانب الرجاء، وهذه الطريقة وإن استفاد منها بعض الناس ولكنها ليست هي الطريقة المثلى؛ فهذا الاتجاه في الأصل يجب أن يكون ضمن نطاق محدود، ويجب أن يجمع بين الخوف والرجاء، وأن يعتمد على أحاديث صحيحة، ولا يأتي بروايات غريبة، ولكن الواقع أن هؤلاء القصاص يأتون بالغرائب غير المقبولة، وهذا كان له أثر سلبي، فطبقة المتعلمين والمثقفين الذين يصلُّون الجمعة مثلاً ينفرون من هذا الخطاب، ويتأسفون على الفرصة التي ضيعها الخطيب وكان بإمكانه أن يأتي بأشياء أكثر إفادة.
رواحل: تفريعًا على هذا المعنى؟! هل يعتني المحاضرون والمربون بمراعاة
الجانب النفسي للجماهير؟! بمعنى آخر هل تتعرض الأفكار والأخبار الواردة عن السلف
لعملية فلترة وتنقية لاستكشاف مدى مناسبتها وأثرها الإيجابي أو السلبي على جمهور
المدعوين؟!
الحقيقة أن الأفكار والأخبار الواردة عن السلف لا تتعرض غالبًا للتنقية واختيار المناسب والصحيح منها للجماهير اليوم، وهذه نقطة مهمة جدًا أثرتموها -جزاكم الله خيرًا-، فنحن نرى الواعظ أو الخطيب يأتي بكلام لـ"مالك بن دينار" مثلًا يتحدث عن زهده لا يصلح لواقعنا اليوم، بل هو ليس صحيحًا أصلاً بالمفهوم الاسلامي، وهكذا يتحدثون عن الذي يختم القرآن في ليلة أو ركعة، حتى إن المتلقي أو السامع يشعر أنه بعيد جدًا عن هذا الأفق السامي ويستصغر نفسه وحاله.
رواحل: للتغلب على هذه السلبيات -من وجهة نظرك- ما أهم ملامح الخطاب
الدعوي السوي الذي يسهم في تكوين أفراد وقادة أسوياء؟!
الخطاب
الدعوي السوي هو الذي يجمع ما بين العلم الصحيح والعاطفة الصادقة، يربط ما بين
الماضي والحاضر، ولا يعيش في الماضي ويتوقف عنده ويكتفي بذكر الأمجاد والبطولات
والعبقريات -وإن كان لابد من ذكرها-، ولكن لتكن مهمازًا للحاضر والمستقبل.
والخطاب السوي يعالج المشكلات المعاصرة من خلال العلم ومعرفة الواقع، خطابًا يتعود من خلاله المسلم على التفكير السليم بحيث ينظر للأمور بطريقة صحيحة.
رواحل: وهل يكفي الخطاب العام في ترسيخ مثل هذا النموذج السوي؟! أم لا
بد من إجراءات وأنشطة أخرى أعمق؟!
لا ينبغي الاكتفاء بهذا الخطاب العام فقط، بل لا بد من أنشطة أخرى مثل المشاركة في الندوات وورشات العمل والمؤتمرات والقراءة المستمرة ودراسة طبيعة الحضارة الغربية.
رواحل: لكن لماذا لم يظهر أنصار هذا النموذج والمتبنون له بصورة مكثفة
بين الجماهير؟! لماذا آثروا العزلة بين مجموعات صغيرة وبالتالي محدودية التأثير،
تاركين الساحة لنموذج آخر ربما ليس على الدرجة الكافية من الوعي والمنهجية
والعمق؟!
كما
ذكرتم عن أن البعض آثر العزلة تاركين الساحة لنموذج آخر، هذا صحيح أو أكثره صحيح؛
ولهذا أسباب، منها: عندما يعلو صوت النموذج الآخر ويُستمع له ويشجَّع من قِبل
أطراف أخرى، ويملك بعض وسائل الإعلام، وبعض الناس يميلون إلى الشيء المبهرج المغلف
بقالب زاهي؛ فهذا له أثر.
وهناك
سبب آخر مهم: وهو أن أهل الحق أحيانًا لا ينشرون ما عندهم اعتمادًا على أن ما عندهم
صحيح، ولا يُمدحون أو يُذكرون أمام الآخرين، فالرموز من الدعاة والعلماء يظنون أن
هذا من المدح المذموم، وتعلمون قول الإمام الشافعي: "كان الليث بن سعد أفقه
من مالك، ولكن أصحابه لم يقوموا به". يقصد الشافعي -رحمه الله- أن تلاميذ "مالك"
نشروا مذهبه ونشطوا به بعكس "الليث".
ومن الأسباب ربما تسارع التكنولوجيا الحديثة؛ ما يجعل جيلًا لا يستطيع أن يلاحقها كما جيل الشباب، فيظهر وكأنه انزوى، ومع ذلك يبقى السبب المهم وهو: لماذا لم يجدِّد النموذج الأول في الخطاب وفي الوسائل؟! فهذا لا نجد له تبريرًا.
رواحل: من الأمور التي أصابت كثيرا من المراقبين لأوضاع الحركات
الإسلامية في العقد الأخير بدهشة وصدمة كبيرة؛ هذه التحولات العقدية الخطيرة لشباب
كان يؤمَّل فيهم أن يكونوا من قامات العمل الدعوي والإسلامي في المستقبل، ففي رأيك
ما أسباب هذه التحولات؟! هل هي مجرد قناعات عقلية مجردة وتغيرت أم للخطاب الدعوي
أثر فيها كذلك؟!
سؤال
مهم، وقد أصبتم في توصيف الحالة، أعني التحولات العقدية الخطيرة، والذي أراه: أن
عدم التجديد في عرض العقيدة الإسلامية والخاصية الفكرية لأهل السنة من أحد الأسباب،
وأضرب مثالًا على ذلك: المشايخ يركزون على توحيد العبودية أو الألوهية، ولا شك أن
هذا هو الأصل، ولكننا نلاحظ أن القرآن الكريم أكثر من الحديث عن توحيد الربوبية،
وذكر عظمة خلق الله وعجائب الكون؛ فهذا مما يرسخ الإيمان. ثم موضوع الولاء والبراء
-وهو مهم أيضًا- لا يُعرض من خلال الواقع الآن... وهكذا.
ومن
الأسباب كذلك: أن الخطاب كان عامًا كما ذكرتم، وهمه مدافعة العلمانية والشيوعية
والليبرالية، ولم يرسخ المفاهيم الإسلامية الكبرى بشكل كافٍ، هذا عدا عن سذاجة
سياسية متناهية وصدامات مع الأضداد في غير وقتها.
هذا
جانب، وفي الجانب الآخر: فإن تدفق المعلومات من خلال شبكة (الإنترنت) الصحيح منها وغير
الصحيح؛ أصاب بعض الشباب بالغرور، وظنوا أنهم يعرفون كل شيء، وتطاولوا على أهل
العلم، وأصبحت الساحة الثقافية في حالة تشوش وخلط، وليس هناك مؤسسات أو جمعيات
علمية متخصصة تتولى الدفاع وتبين الحقائق.
إضافة تعليق