الأستاذ وليد الرفاعي داعية وكاتب ومهتم بالشأن التربوي، حاصل على درجة الماجستير في علم النفس التربوي، وعمل مديرًا لأكاديمية (نما) التعليمية، وسبق أن قدّم العديد من الحلقات والدورات التربوية في عدد من القنوات الفضائية والمحافل والمؤتمرات،
الأستاذ وليد الرفاعي داعية وكاتب ومهتم بالشأن التربوي، حاصل على درجة الماجستير في علم النفس التربوي، وعمل مديرًا لأكاديمية (نما) التعليمية، وسبق أن قدّم العديد من الحلقات والدورات التربوية في عدد من القنوات الفضائية والمحافل والمؤتمرات، كما أن له إنتاجًا ثقافيًا وتربويًا بارزًا؛ منه كتاب (مهارات المربي) الذي يقع في ثلاثة أجزاء.
مرحبًا بكم أستاذنا الكريم في مجلة
رواحل في عددها الخامس الذي يتشرف بلقائكم..
رواحل: نراك كثيرًا ما تدمج في محاضراتك ودوراتك التربوية والدعوية ما بين الأدلة الشرعية والقناعات النقلية والخطاب العاطفي وما بين الحوار العقلي والمنطقي وأدوات التأثير النفسية، فيخرج المستمع بحالة من الرضا الشامل بما سمع، فهل ذلك مقصود من قبلكم؟!
الحمد لله والصلاة والسلام على
رسول الله، صلى الله عليه وسلم. بعيدًا عن الشق الشخصي في السؤال؛ دعنا نقرر أن
الدمج ما بين مخاطبة العواطف والمشاعر وبين مخاطبة العقل هو أسلوب قرآني مميز،
والشيء الملاحظ أن أي خطاب عاطفي لا يخضع إلى منطق عقلي سرعان ما يهتز ويتزحزح، وفي
المقابل أي خطاب عقلي بعيد عن الخطاب العاطفي فإنه قد يعسر هضمه ابتداءً، وخاصة
على الفئات غير المتخصصة من الناس..
إني أشبّه ذلك بالفانوس؛ العاطفة هي شعلة النار، والعقل هو الزجاجة التي تحوطها وتحميها من الانطفاء، لا فائدة لأحدهما دون الآخر؛ فالعاطفة وقود الألفاظ ولهيبها، والمنطق والعقل والحجة هو حقيقتها وديمومتها وقيمتها..
رواحل: هل ترى أن مخاطبة
العقل صارت الآن ضرورة بسبب طغيان المادة والانفتاح المعلوماتي والمعرفي الكبير؟!
ألا يكفي في إقناع الناس والتأثير فيهم مخاطبتهم بالخطاب الشرعي والعاطفي فحسب؟!
ابتداءً الخطاب الشرعي ليس خطابًا
عاطفيًا محضًا، بل هو خطاب تمتزج فيه العاطفة بالمنطق، ولكن لعلك تقصد الخطاب
العقلي المجرد، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التسطيح الحاصل في بعض الطرح الشرعي
المعتمد على العاطفة فحسب -من البعض- هو أمر بالغ الخطورة؛ لأنه باختصار لا يحمي
المتلقي من أية شبهات من هنا أو هناك، ويسيء للخطاب الشرعي ولتصور الناس عن الدين
ابتداءً.
فالانفتاح المطلق الحاصل يفرض علينا خطابًا متينًا قادرًا على الرد على التساؤلات ومواجهة المنطق بالمنطق، ولم يعد من المجدي الاتكاء على مبدأ التسليم تحت ذريعة الخطاب الشرعي؛ لأن هناك من يتلاعب بالنص الشرعي ويجعله في مسار آخر غير صحيح. العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، هذه القاعدة الذهبية تعطي لكل من العقل والنقل وزنه، وتصلح هذه الخصومة المفتعلة بينهما.
رواحل: كثير من
المنتسبين للدعوة يقللون من هذا المسلك العقلي في مخاطبة الناس، ويرون - حسب
اعتقادهم - أن أئمة السلف والعلماء المتقدمين لم يكونوا مهتمين بهذا الخطاب، وإنما
كان جل تركيزهم على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، فهل هذا
صحيح؟! وكيف كانت طريقة الأئمة الكبار في الدعوة إلى الله وتربية الناس وزرع
القيم؟!
لا بد أن نقرر أن لكل مجتمع خطابه
وأدواته، فحتى لو انتهينا إلى أن السابقين من السلف كان مرتكز خطابهم هو الدليل
الشرعي وليس المنطق العقلي فهذا لا يدعو إلى سحب ذلك على كل زمان وحالة، هذا من
جهة، ومن جهة أخرى ليس صحيحًا هذا التعميم في الوصف، فخطاب السابقين من أئمة الدين
كان مليئًا بالمحاكمات العقلية والمنطقية، بل إنه مما نفخر به من تراثنا هو الجهود
الضخمة التي بذلت وأنتجت معارف تساعد على التفكير المنطقي وتنظيم عمل وحدود العقل
في العلوم الشرعية كأصول الفقه ومقاصد الشريعة، ناهيك عن بعض أبواب المنطق
والفلسفة السائغة.
ولا ينبغي هنا أن نسحب هجوم السلف
على بعض متكلِّمة وفلاسفة زمانهم على أنه رفض للخطاب العقلي بالجملة؛ فهذا خلط
خطير ومسيء، فالرفض منهم إنما كان لأولئك الذين جعلوا العقل (الظني) حَكَمًا على
النص (القطعي)، بل أهملوا النص تمامًا واستبدلوه بمحاكمات لا يصح وصفها بالعقلية
بقدر ما هي خليط من الافتراضات والتوهمات المختلطة ببعض المحاكمات العقلية
الناقصة. وفي تقديري أن هذه الثنائية الحدّية في النظر إلى تراث السلف على أنه في
طرف مقابل تمامًا للعقل هي أكبر إساءة ممكن أن تنسب لتراثهم..
ولسنا ننفي هنا وجود نقولات لآحاد
السلف وليس لمجموعهم تحتاج إلى تمحيص وتدقيق وربما رد كذلك، ونقد مثل هذه المقولات
والآثار هو خدمة لتراث السلف، وليس في ذلك حرج أو رفض لمجموع نهجهم وطريقتهم؛
فالعبرة تبقى للأعم الأغلب.
وأخيرًا.. لا بد من الإشارة هنا إلى أن تعزيز الخطاب العقلي المنطقي ينبغي ألا يكون على حساب مبدأ التسليم للنص والأمر الشرعي، فلا تستقيم قدم الإسلام إلا على ظهر الاستسلام، والخطاب الشرعي الذي يعزز الاستسلام (الواعي) هو الخطاب الأكثر إلحاحًا في زماننا هذا..
رواحل: نعايش أحيانًا
بعض المشروعات الدعوية والتربوية طويلة الأمد تستمر لسنوات أو ربما عقود، وتؤتي في
النهاية بثمرة جليلة تعود بنفع عظيم على المجتمع، إلا أنه في الفترة الأخيرة نلاحظ
أن حالة من الملل تسيطر على الكثيرين من ديمومة بعض الأعمال والمشاريع التي ربما
لا تستمر عدة أسابيع أو أشهر، فهل العمل الدعوي والتربوي -لاسيما في زمننا
المعاصر- يحتمل أن تستمر فيه بعض المشاريع لعدة سنوات؟! أم أن العمل الذي يتربى
فيه الناس على الأخلاق والقيم والمبادئ الراسخة يحتاج إلى استمرارية وتواصل؟! كيف
يمكننا أن نجمع بين حاجات المجتمع السريعة التي أثرت في شخصية الأفراد وبين ما
تحتاجه الدعوة والتربية؟!
سؤال جميل؛ بالفعل أصبح الواقع
المعاصر يفرض ديناميكية أسرع وأسلس في كل شيء؛ فالتغييرات التي تحدث أصبحت أعجل من
أن تقابل بفتور وهدوء كبير، وحتى على مستوى الخطط الإدارية الاستراتيجية طويلة
المدى، فقد باتت قليلة الجدوى، وتخلت عنها الكثير من الكيانات والمؤسسات؛ لأن
الواقع متغير ويفرض نفسه باستمرار، إلا أن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من وجود رؤية
استراتيجية بعيدة المدى، بينما قد تتغير وتتكيف وسائلنا باستمرار..
الاستجابة المطلقة للحاجات والمتغيرات السريعة يفقدنا التركيز، ويجعلنا صدى ضعيفًا ومتقطعًا لما حولنا، والانعزال الكامل عما حولنا بحجة الانكفاء على مشروعات استراتيجية بعيدة المدى يجعلنا أحيانًا خارج التاريخ، وربما يجعل مشاريعنا منتهية الصلاحية، أو كمن جوّد طبخته وحسّنها ولكن بعد أن مات الجائع!! وعلى التوازن قامت الدنيا.
رواحل: تحوّل كثير من
الدعاة والمربين إلى ميدان افتراضي للدعوة وترك الميدان الواقعي، حيث بات تويتر
وفيس بوك وسناب شات وغيرها من وسائل التواصل هي الميدان الأساس لكثير من الدعاة
والمربين، مع اعتزالهم للعمل الميداني على الأرض رغم امتلاكهم أدواته، كيف ترى أثر
ذلك على مستقبل الدعوة؟!
لست مع التباكي على وسائل دعوة
معينة لمجرد أنها سابقة أو قديمة؛ فالتأثير الإلكتروني دعويًا بالغ الأهمية، وخاصة
في ظل محدودية الوسائل الأخرى عن الوصول لبعض الشرائح..
ولكن لعلكم تلمحون إلى بعض
المجالات التي يبقى لوجود الداعية أو المربي بشخصه أثر مضاعف، وخاصة الجوانب
التربوية التي للمعايشة الشخصية أثر مضاعف فيها، وفي كل خير..
دعونا نعترف أن هناك تحولاً مجتمعيًا
كاملاً يحدث، وأن العالم الافتراضي الإلكتروني أصبح هو المتحكم بالعالم الحقيقي
على الأرض، وأن أجيالنا الناشئة تعيش تحت تأثير ووطأة ذلك العالم الافتراضي
بإيجابياته وسلبياته..
لم يعد هناك خيار بالانكفاء، واقتحام الدعاة والفضلاء لتلك العوالم الإلكترونية محمدة وليست مذمة، ولكن يبقى أن يكون ذلك الدخول واعيًا ومؤثرًا، لا أن يتحول مع الزمن إلى حصد مكاسب شخصية دون تأثير حقيقي، بل ربما كان التأثير عكسيًا؛ فيصبح (ما يطلبه الجمهور وغير الجمهور) هو الغالب بصورة غير مباشرة بالطبع.
رواحل: كثير من الدعاة
لديه قناعة بما لديه من مهارات في الوعظ أو الخطابة أو غيرها، ولا يسعى لتطويرها
بحجة أن ما لديه يكفيه، رغم تعدد مشارب الباطل وألوانه وأنواعه، هل نقنع بما لدينا
من أساليب قديمة حتى ولو كانت مؤثرة أم نتطلع للتطوير؟! وما أثر تلك القناعة على
العمل الدعوي والتربوي؟!
قديمًا كان الإنسان محصورًا في
بيئة ضيقة لا يسمع إلا لشيوخها وعلمائها، أما الآن فأصبح العالم كله يخاطب ابن
القرية عبر جهاز صغير يحمله في جيبه، إنه أشبه بسوق ضخم يعرض الجميع فيه بضاعته،
والغلبة للأكثر قدرة على الجذب.
دعونا نعترف أن عقول أبنائنا تسرق من بين أيدي آبائهم الذين يعيشون معهم في بيت واحد، بينما قد يوجههم أشخاص عابرون للقارات، وما فتنة بعض المتشددين والتأثير بالغ الخطورة الذي أحدثوه على عقول شباب المسلمين إلا مثالاً حيًا لذلك.
رواحل: وهل غياب
المؤسسية الدعوية أحد أسباب عدم التنوع في التخصصات الدعوية وخروج غالبية الدعاة
على نمط واحد بلا توظيف لبذرة الإبداع التي قد تكون لدى كل منهم؟!
الناس أبناء مجتمعاتهم، ومجتمعاتنا
العربية قامت على مبدأ الرمزية الشخصية بشكل واضح، وهذا أضعف الكثير من المشاريع
الجماعية التي أصبحت في حقيقتها عملاً فرديًا بصورة جماعية، وليس العكس..
بالفعل نحن بحاجة إلى دعاة متخصصين في مجالات شتى؛ فمفتاح التميز هو التخصص، وكما أن دور الطبيب العام يتضاءل أمام دور الطبيب المختص، فكذلك الحال عند الدعاة، وبنظرة سريعة على الساحة الدعوية نجد الأثر الرائع الذي ينتجه وجود دعاة متخصصين كأمثال (ذاكر نايك) وشيخه (أحمد ديدات) رحمه الله، وغيرهم..
رواحل: كيف ترى مستقبل
الدعوة والتربية النسائية في بلادنا؟! ولماذا لا نرى داعيات ومربيات متميزات
وشهيرات كما هو الحال في مجتمع الدعاة؟! وكيف يمكن حل هذه المشكلة من وجهة نظرك؟!
الداعيات المميزات موجودات، ولكن
نظرًا لخصوصية المرأة فلن تجد الصدى الإعلامي لهن كحال الدعاة الرجال، ولكن في
المقابل ما من شك أن الحاجة دائمًا أكبر من الموجود..
في تقديري أن الخطاب الدعوي للمرأة
حصرها في زوايا العفة والشأن الشخصي الخاص، وهو استجابة طبيعية للهجمات التي
تستهدف حياء المرأة وحجابها، ولكنه أفرز في المقابل قصورًا في هذا الخطاب، وأوجد
مساحات كثيرة فارغة استطاع غيرهم ملأها بشكل سلبي.
النساء شقائق الرجال، ولا بد أن
تتسع دائرة الخطاب الدعوي النسائي ليوائم احتياجات وتطلعات المرأة المسلمة الفاعلة؛
فالمرأة على مدار التاريخ هي محور نزاع دائم بين مشاريع الخير والشر، وتوسيع دائرة
التأثير الإيجابي للمرأة ليتجاوز صلاحها الشخصي وأحكامها الفقهية الخاصة أمر بالغ
الأهمية، ففاعلية المرأة في المجتمع وتحقيق ذاتها وأثرها الإيجابي هي مساحات فارغة
يتم استغلالها بشكل سلبي من الأطراف المسيئة، بينما يتم إهمالها والتشاغل عنها في
الخطاب الدعوي لدينا.
إضافة تعليق