العبء الأكبر في إصلاح حال المسلمين يقع على العلماء والدعاة وأهل الفكر، وإذا لم يكن هؤلاء قدوة في جميع أحوالهم وأقوالهم فلا يكون التأثير ولا تكون هناك آثار للتربية جلية واضحة.

مرحبًا بكم فضيلة الدكتور في مجلة رواحل في عددها الثاني الذي يَشْرف بلقاء فضيلتكم..

1- مرت مئة عام كأنها لمح البصر أو هو أقرب، مئة عام من البحث والتنقيب وسبر أغوار مؤلفات التراث للوقوف على أسباب نهضة وتقدم الأمة الإسلامية، مئة عام من التدقيق والتمحيص وتأليف الكتب وتربية الرجال، إلا أن النتيجة والمحصلة النهائية هي كما تعلمون، تزداد الأمور تعقيدًا، وتتكاثر على الأمة النكبات تلو النكبات، والنهضة التي كانت تبعد عنا ميلاً صارت تبعد أميالاً.. ماذا يحدث يا دكتور؟!

نعم، مرت مئة عام أو أكثر وحديث النهضة والإصلاح كان وما يزال، والذي كان يشكو منه رشيد رضا من تفرق المسلمين وضعفهم ما يزال، وما كان يقاسيه الكواكبي من الاستبداد زادت حدته، وكتب شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم، وقد كانت بعض البلدان دائنة لقوة اقتصادها فأصبحت مدينة لكثرة الاستيراد، والمطالب الكبرى التي كانت تطلب هي المطالب اليوم، سواء كان مطلب تطبيق الشريعة أو الحرية السياسية والتحرر من التسلط الأجنبي.

صحيح أن الصدمة الحضارية مع الغرب وتقدمه العلمي والاقتصادي والسياسي أيقظت المسلمين ليروا ما هم فيه من الضعف، ولكن عوضاً عن أن يكون البحث منهجياً عن أسباب قوة الغرب وأسباب الخلل عندنا، راح كل فريق ممن يريد الإصلاح يجري إلى صيدلية الحلول فيأخذ عشرات الأدوية لعشرات الأمراض دون تشخيص من الطبيب كما يعبر الكاتب الجزائري مالك بن نبي.

قامت جهود فردية وجماعية بعضها استمر ونجح وبعضها توقف ولكنها جهود لم تتكامل ولم تُرتب الأولويات، وانشغل بعض رواد النهضة بالردود على الهجوم الاستشراقي والتغريبي، وكانت في الغالب ردوداً اعتذارية ودفاعية ولم تنتقل إلى موقف التأسيس، وهو نشاط سلبي لا يدوم طويلاً أما التفكير المتأني في المشكلة وإيجاد الحلول لها فهو نشاط إيجابي. وسقط البعض في هوى الغرب، رفاعة الطهطاوي تكلم عن باريس (عاصمة الأنوار) بينما كانت المدافع الفرنسية تدكّ قرى ومدن الجزائر عام 1830م. ولم ينتبه هذا الجيل إلى خداع المصطلحات: فمفهوم التقدم أخذوه على عِلاته دون تحديدٍ لمضمونه، هل المقصود التقدم المادي فقط أم لا؟. لماذا استطاع المسلمون مقاومة أعتى الدول الاستعمارية في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلاديين؟ والجواب لأنه جيلٌ لم يخضع لعملية التغريب؛ فقد قاوم الأزهر الحملة الفرنسية، ولكن بعد أن تغربت مصر على يد محمد علي باشا دخل الإنجليز بسهولة، وتخرجت أجيال أصبح أكبر همهم أن يطالبوا الأمم المتحدة أن تمنحهم شيئاً من حقوقهم.

2- ما أسباب النهضة من وجهة نظرك، والتي كان ينبغي على المصلحين والمفكرين والقادة الاهتمام بها ووضعها في خانة الأولويات الأولى؟!

أولا: النهضة تحتاج إلى (جذوة)، إلى (توتر روحي) كما يعبر (مالك بن نبي)، الدين وحده هو الذي يستطيع أن يُشعلها وليس التفكير المجرد والنظريات المجردة.

فإذا قلنا إن علة الضعف هو الاستبداد فالسؤال يعود: ما سبب قبول الاستبداد؟ وأين التكيف بين الإيمان والإرادة؟ قد يكون المسلم صالحاً في شخصه ولكنه غير مصلح اجتماعياً وحضارياً، غير فعال في أعماله. العامل الذي ولد الحضارة في عصورها الزاهية هو العامل التربوي الذي كوّن الفرد وربط العقيدة بالسلوك والعلم بالعمل.

ثانيا: من أسباب النهضة: الشمولية، فالحل لا يبدأ من الفرد فقط ولا من المجتمع فقط، أو الدولة فقط، بل لا بد من التناغم والتفاهم بين هذه المحاور الثلاثة، فكما أننا لا يمكن أن نتقدم ببناء مدرسة فقط أو مستشفى فقط أو مسجد أو مؤسسة للتعليم أو لعمل الخير بل لا بد من تأسيس الكل، وضمن مسار واحد.

ومن هذا التناغم: إصلاح الأمر السياسي، والانشغال بالشأن العام، وليس كما تشاءم الشيخ محمد عبده من السياسة ومِن فعل (ساس ويسوس).

ثالثا: إن الحضارة الإسلامية قامت بالدين، وبالدين وحدَه، ولم تقم لأسباب اقتصادية أو جغرافية أو سياسية. والأمة الإسلامية أمة متدينة، والعلماء هم القادة الذين يرجع الناس إليهم، هؤلاء هم المكلفون بنشر العلم في جميع طبقات الأمة. وهذا شيء أساسي في النهضة، وذلك لحماية الأمن الثقافي وحتى لا يكون جمهور الناس على جهل بواقعهم وحاضرهم. وقد قصرت كل الجمعيات والمشاريع الإحيائية في إبراز هذا الدور الكبير للعلماء.

رابعا: خلال هذه الفترة التي نتكلم عنها نشأ تيار يريد اللحاق بالغرب (حلوِه ومُرّه) وهو ما يزال موجوداً حتى اليوم، وتيارٌ يريد التشبث بالهُوِية والثقافة الإسلامية مع الاستفادة من تقنية الغرب، ولكن هذا التيار الثاني الذي يمثل جمهور الأمة، هو أيضاً كان أسيراً، لمصطلحات الغرب: فالديمقراطية الغربية هي الشورى عندنا، والاشتراكية هي العدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان في الغرب نحن سبقناه إليها (مع الاختلاف في بعض المضامين بيننا وبينهم) وهكذا: المواطنة، والحرية.

فلا التيار الأول هو دارس للغرب على حقيقته ولا التيار الثاني درس الغرب بمنهجية وعمق.

وكان الواجب في مثل هذا الصراع الفكري توضيح هذه المفاهيم وبيان الحق فيها، وتأصيلها من خلال الثقافة الإسلامية، ولا نزال في هذا الهم حتى اليوم.

3- صناعة الإنسان.. هل تم تدمير البنى الأساسية للإنسان المسلم لدرجة عدم تمكنه من صناعة النهضة، أو حتى تقبُّلها ممن دعا إليها على مر العقود العشرة الماضية؟! هل المعضلة الأساسية هنا هي الإنسان؟!

لم يتم تدمير البُنى الأساسية للإنسان المسلم، والدليل أنه قادر على الانخراط مرة ثانية أو ثالثة في مشروع نهضوي جديد، وبقيت الأسرة المسلمة تحتفظ بروابطها وعلائقها، وما يزال التراحم بشكل عام في المجتمع الاسلامي، لم يتم التدمير ولكن تم التشوه والتشويش في الفهم والانفصام في الشخصية لكثرة المحاولات في تدمير الثقافة والعقيدة الإسلامية، وخاصة في مناهج التعليم التي وضعها أو شارك في وضعها المتغربون والعلمانيون فأصبح الطالب لا يدري عن تاريخه أو حضارته إلا نتفاً مشوهة.

ومن جهة أخرى لم تتمَّ تصفية تراثنا مما علق به من (إيرانيات وإسرائيليات) ومرويات موضوعة. وبعض روّاد النهضة الذين انحازوا إلى عقيدة الأمة وثقافتها كانوا في موقع الهزيمة النفسية، ولذلك أوّلوا الآيات والأحاديث لتتوافق مع مقولات الغرب أو هجومه على الإسلام. بل ذهب البعض وفي أيامنا هذه إلى تبني مصطلحات الغرب ولكن بعد أن يضع عليها لافتة (ليبل) أنها إسلامية !!

وقد حاولتْ حركات الإحياء الإسلامي استدراك هذا الأمر، وتربية الأجيال تربية قويمة. والأمر ما يزال في بداياته رغم مرور عقود على ذلك.

4- ذكرتم في أحد مقالاتكم أن الأمة تفتقد لمشروع متكامل ينتشلها من براثن عدوّها، بل ينتشلها من مستنقع نفسِها، مشروع متكامل يجمع أهل العلم والمال والإدارة والاختصاص.. كيف ترى ملامح هذا المشروع؟!

نعم المشروع المتكامل هو الذي يجمع بين أهل العلم والاختصاص من جهة وأهل المال والإدارة من جهة أخرى، أهل العلم للتفكير والتخطيط والتنظير، وأهل المال لمساندة هذا التنفيذ على بلوغه أهدافه. والمال شيء مهم جداً يجب أن يوضع في مواضعه وإلا كان سلبياً وعبئاً على الأمة، ولا أعني الدعم للمشاريع العامة ذات الفائدة لمجموع الأمة ولكن أيضاً استثمار المال في التنمية الفعالة.

وهكذا نجد في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أثرَ الدعم المالي من أمثال عثمان بن عفان رضي الله عنه في بناء الدولة في المدينة. والمقدم في هذا هم أهل العلم وأهل الاختصاص وهم الأدرى بالمشاريع النافعة للأمة، ومن أهم أسباب قوة الغرب في العصر الحديث هو هذا التسخير للمال في المشاريع الكبرى، ومساعدة الدولة لأصحاب المال في استثمار أموالهم، ومن تجاربنا الحديثة وجدت أنه في الحركة السنوسية كان التعاون واضحاً بين أهل العلم وأهل الإدارة والمال ولو بشكل بسيط.

وهكذا ابتعد الناس عن حياة الترف أو حياة الشظف.

ولا ننسى أن أعرق الجامعات في العالم الإسلامي كانت عملاً أهلياً وقْفياً، وهكذا في أوروبا أيضاً كجامعة (أكسفورد).

5- هل عجزت الأمة بكل مقدراتها عن إنجاز مثل هذا المشروع في مئة عام كاملة؟!

قامت مشاريع جزئية، وانتفعت جمعيات ومدارس من العمل الخيري وشُجعت بعثات علمية لدراسة تخصصات شتى تفيد الأمة، ولكن حسب اطلاعي وعلمي لم يتم إنجاز مشاريع كبرى يتعاون فيها أهل العلم والإدارة والمال، كما ينبغي، وتكون مشاريعَ ذاتَ نفع عام والأمة بحاجة لها، ولا أعتقد أن الأمة تعجز بكل مقدراتها عن إنجاز مشاريع كبرى، فالخير حاضر فيها، ولكن المشكلة في القيادة، القيادة التي تستطيع الجمع بين هذه الرؤوس الثلاثة، وفقدان القيادة هو أزمة حقيقية تواجه المجتمعات الإسلامية.

6- كيف يمكن إصلاح هذا العقل وهذه الروح اللذين دمّرهما الاستعمار؟!

إذا كان المقصود عملية التغريب أو اللحاق بالثقافة الغربية والحضارة الغربية، فلا شك أن التأثير كان واضحاً على بعض النخب وعلى الأجيال التي تأثرت بهذه النخب، وهذا يبعدنا عن مشروعنا وخصائص حضارتنا، والملاحظ أنه كلما ظهرت (تقليعة) فكرية في الغرب تلقفها من يسمون أنفسهم بـ المثقفين، وعندما يبدؤون بدراستها وتقليدها يكون الغربيون قد أظهروا (تقليعة) أخرى وهكذا يتنقلون من الرومنسية إلى البنيوية والتفكيكية.... الخ وهذا شيء مؤسف يدل على التبعية والتقليد الذي يتهربون منه بنظرهم. ولكن ليس التغريب وحده هو الذي خرّب الشخصية المسلمة فهناك أيضاً أشياء داخلية ليست هي من أثر الاستعمار بل من التخلف الحضاري والبعد عن التجديد والاجتهاد الذي أصاب الأمة، لأنه رغم عظمة هذا الدين دخل فيه من الشوائب ما عكّر صفوه مثل الفرق المنحرفة والعقائد الباطلة، والسؤال هو: كيف نحصّن أنفسنا وكيف يتم إصلاح الفكر والعقل حتى يكون المسلم قادراً على معرفة الحقائق، أي يكون عنده (الفرقان) ولا نتحول إلى تابعين متطفلين على موائد غيرنا.

أعتقد أن إصلاح الشخصية الإسلامية فكراً وعقلاً وروحاً (إذا صح التعبير) هو بالتمكُّن أولاً من القرآن الكريم تدبراً ودراسةً وفهماً، فهو الذي يصقل هذه الشخصية لتُدرك كل جوانب الحياة من منظار صحيح، وتصبح شخصية فعالة متوازنة، نعود إلى النبع الصافي، ونصفّي الفكر مما علق به من أمراض التخلف مثل: طغيان الأشياء أو طغيان الأشخاص أو حب الأمور السهلة، تتعامل هذه الشخصية مع الواقع من خلال النص الإسلامي، وعندئذ تعرف ماذا تأخذ وماذا تدع من الأمم الأخرى.

7- ألا يقع على كاهل المصلحين والمربّين والدعاة أنفسهم كِفْل كبير من هذا التراجع الناشئ لدى المسلمين؟! ألم يكونوا نظريين في أحيان كثيرة؟! بل ألم يكن أحيانًا واقعهم مخالفًا لما يدعون إلى تطبيقه في حياة المسلمين؟! ألم تكن حياتهم مليئة بالتناقضات التي تعود بالمتربين إلى المربع صفر؟!

لا شك أن العبء الأكبر في إصلاح حال المسلمين يقع على العلماء والدعاة وأهل الفكر، وإذا لم يكن هؤلاء قدوة في جميع أحوالهم وأقوالهم فلا يكون التأثير ولا تكون هناك آثار للتربية جلية واضحة. طبعاً نحن لا نستطيع أن نعمم، فهناك كثير من الدعاة والعلماء كانت لهم جهود طيبة ومخلصة في تربية الأجيال وفي عودة الوعي ونشر العلم بين صفوف الأمة، ولكن الذي يُنتقد هو أن هذا التعليم وهذا الإرشاد لم يكن متكاملاً في أحيان، ولم يكن سديداً في أحيان أخرى، هذا عدا عما ذكرتموه في السؤال وهو أن بعضهم كان نظرياً يتكلم خارجاً عن الواقع، وأفعاله مخالفة لأقواله، وهذا الذي أدى إلى الانطباع السيئ لدى عامة الناس عن بعض الدعاة والمشايخ.

إنه لا يكفي أن يكون المربي قدوة بل أكثر من ذلك، فهو محط أنظار الناس، ومحط أنظار الشباب خاصة. وهذا هو الشيء الطبيعي، والأمثلة كثيرة جداً في تاريخنا لهذا النموذج القدوة بل هذا ما يتميز به تراثنا.

8- كيف يمكن للمصلحين والمفكرين والدعاة أن يَصوغوا فكرًا جديدًا يتناسب مع الواقع المعيش وفي الوقت نفسِه ينجوا بأنفسهم من الآفات التي ظلت عالقة بأفكارهم طيلة السنوات الماضية؟!

الجديد الذي يجب أن يأتي به المصلحون والدعاة هو:

أولاً ــ المراجعات للماضي القريب، للأفكار التي تبين أنها قيلت في وقتها وأنها غير صالحة في وقتنا أو أنها في الأصل لم تكن من الدقة منهجياً، مراجعة صادقة ومتأنية لما كُتب وما طرح من شخصيات كبيرة ومحترمة، وهذا ليس تجريحاً لهم، ولكن الحق أحق أن يُقال.

ثانياً ــ التجديد لا يكون في الإسلام، فالإسلام دين ثابت واضح قارّ، ولكن التجديد يكون في العودة لفهم هذا الدين وما هي حاجتنا الآن، وذلك من خلال القراءات الكثيرة لكبار الأعلام قديماً وحديثاً وتطبيقها على الواقع.

هناك أعلام معاصرون كبار لا أرى أن المسلمين اليوم استفادوا كثيراً من علمهم وكتاباتهم مثل رشيد رضا وعبد الحميد بن باديس والطاهر بن عاشور والبشير الإبراهيمي ومحمد عبد الله دراز... وغيرهم.

ثالثاً: لا بد من الاهتمام بمقاصد الشريعة وقواعد الشريعة وإدخال ذلك في المنهج الإصلاحي التربوي، وذلك من خلال العلماء الذين تصدَّوا لشرح هذا المنهج مثل الطاهر بن عاشور وعَلّال الفاسي.

رابعاً ــ لا بد من دراسة التجارب التي حاولت تطبيق الإسلام عملياً في العصر الحديث وبيان أسباب إخفاقها أو نجاحها نجاحاً جزئياً.

كل هذا يساعد على صياغة منهج في العلم والعمل فيه تجديد وليس فيه خروج على ثوابت الشريعة ومقاصدها الأساسية. 

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة