جهاد بن عبدالوهاب خيتي
مقدّمة:
حادثة الإفك من الحوادث العظيمة التي عصفت بالأمّة الإسلامية في فجر تاريخها. ورغم أنّها حصلت في زمن النبوة؛ حيث كان الوحي ينزل مواكبًا للأحداث، وكاشفًا للغيب، ومؤيدًا للحق وفاضحًا للباطل؛ إلا أنّ الوحي لم ينزل في هذه الحادثة لأكثر من شهر؛ مما زاد من بلاء النبي ﷺ وأصحابه، وزاد من فتنة المنافقين في أنفسهم وامتداد شرّهم لتغلي به المدينة كلها.
حادثة الإفك هي كاسمها: إفكٌ وكذبٌ، رُميت فيها أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالزور والبهتان، لمجرّد أنّها جاءت متأخرة عن الجيش، حيث كانت مصاحبة للنبي ﷺ في غزوة المريسيع، وكان سبب تأخّرها أنّها فقدت عِقدًا فذهبت تبحث عنه، فارتحل الجيش دون أن يأخذوها معهم. وكان مع الجيش الصحابي الجليل: صفوان بن الـمعطّل رضي الله عنه، الذي كانت مهمّته التأخّر عن الجيش وتفقّد المكان الذي كان يعسكر فيه؛ فلعلّه يجد متأخّرًا بحاجة إلى مساعدة، أو يجد متاعًا نَسِيَهُ أصحابه أو سقط منهم فيلحقهم به. فلمّا رأى (أمّ المؤمنين) عائشة رضي الله عنها نائمة في مكانها استرجع، فاستيقظت عند سماع صوته، فأناخ لها راحلته، وتأخّر عنها حتى ركبت، ثم قادَ جَمَلَه وغذّ السير حتى لحق بقافلة الجيش حين توقّفت للراحة وقت الظهيرة، فرأى المنافقون هذا المشهد فبدؤوا يتكلّمون في عِرض النبي ﷺ.
ثم نزل الوحي مُبرّئًا أمّ المؤمنين عائشة وصفوان رضي الله عنهما، وفاضحًا المنافقين ومتوعّدًا لهم بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، ومعاتبًا المؤمنين الذين انخدعوا بكلام المنافقين وانساقوا وراءهم فخاضوا في الأمر دون علم أو تثبّت.
وقد روت أمّنا السيدة عائشة رضي الله عنها هذه القصة كاملة في حديث واحد طويل، بأسلوبِها الفصيح، وطريقتِها المتّزنة، وتسلسلِ أحداثِها الدقيق. وحديثُها مخرّجٌ في الصحاح والسنن[1].
واستنبط العلماء من هذه القصّة عشرات الفوائد العقدية والفقهية والتربوية ونحوها، إلا أنّني في هذه المقالة سأقتصر على ذكر بعض الفوائد التربوية التي تهم المسلمين أفرادًا ومجتمعات، متجاوزًا ما سواها.
الفوائد التربوية من حادثة الإفك:
١. التربية على العفّة:
العفّة هي كَفُّ النفس عن الفواحش، وضبط جماحها عن الإسراف في الشهوات، والترفّع بها عما يدنّسها. ومن أعظم مجالاتها: العفّة عن الزنا وما يقرِّب إليه.
والعفّة خُلُقٌ عظيمٌ، وواحدة من الفضائل الكبرى التي حثّ عليها الإسلام ووضع الأسس لتربية الأفراد والمجتمعات عليها، ونَوَّع في وسائل غرسها وتنميتها في النفوس بدءًا من سنّ الطفولة إلى مرحلة الشباب فما بعدها.
وعند تأمّل موضوعات سورة النور التي جاءت فيها آيات حديث الإفك نجدها تدور حول هذا الموضوع: تزكيةِ النفوس وتربيتِها على العفّة والطهارة والنقاء، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرةُ المسلمة من العفاف والستر والطهارة والنزاهة، والآدابِ الاجتماعية التي يجب على المؤمنين أن يتمسّكوا بها.
وقد تنوّعت وسائل هذه التربية لتشمل:
- الأمر بالعمل بشرع الله وفرائضه وحدوده، فهي كلها خير وهدى ونور.
- الموعظة والتذكير بواجبات ومقتضيات الإيمان، والتحذير من اتباع خطوات الشيطان، والانزلاق وراء مكايد المنافقين والكافرين.
- بيان وسائل الوقاية من الوقوع في جريمة الزنا وما يتعلّق بها، من خلال تشريعاتٍ تجنّب النفوس أسباب الإغراء والغواية مثل: مراعاة آداب الدخول إلى البيوت والاستئذان، وغضّ البصر، والتعفف، وعدم إبداء المرأة زينتها للأجانب، والحث على التزويج، وغير ذلك.
- تقبيح جريمة الزنا والقذف به، وكلّ ما من شأنه نشر الفاحشة في الذين آمنوا، وقطع علاقة من يفعل شيئًا من ذلك بجماعة المسلمين، وإنزال أنواع العذاب عليه في الدنيا بما فيها إقامة الحدود، والوعيد بالعذاب الأليم الشديد في الآخرة[2].
٢. حماية الفضيلة:
للإسلام منهجٌ فريدٌ في غرس الفضيلة وحماية المجتمع من الانحراف نحو الرذيلة والانسياق وراءها: بدءًا بضوابط العلاقة بين الرجل والمرأة، وانتهاءً بتحريم الزنا وتشديد العقوبة عليه، مرورًا بروادع إطلاق الألسن بالاتّهام بالزنا؛ الذي هو أحد الموبقات التي تسهّل ذكر الفاحشة، وتلطّخ سمعة الناس، وتسهّل عليهم ارتكابها إذا انتشر الاتهام بها؛ ولذا كانت العقوبة عليه شديدة تتناسب مع هذا الجرم وآثاره.
«فعقوبةُ القاذفِ ثلاثُ عقوبات لا عقوبة واحدة: الحدُّ، وعدمُ قبول الشهادة، والوصفُ بالفسق.
والعقوبة الأولى جسدية، وهي جلد ثمانين جلدة.
والثانية أدبية، ويكفي أن يُهدر قول القاذف فلا يُؤخذ له بشهادة وأن يُسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متّهمًا لا يُوثق له بكلام!
والثالثة دينية، فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم.
كلّ هذا لأجل القضاء على هذه الجريمة البشعة، وصيانة الأعراض من التهجّم، وحماية أصحابها من الآلام الفظيعة التي تُصبُّ عليهم بسببها؛ لأنّ ترك الألسنة تُلقي التهم على المحصنات -وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارًا- دون دليل قاطع، يترك المجال فسيحًا لكلّ من شاء أن يقذف بريئة أو بريئًا بتلك التهمة النكراء ثم يمضي آمنًا! فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجرَّحَةٌ وسمعتها ملوّثةٌ، وإذا كلُّ فردٍ فيها مُتّهمٌ أو مهدّدٌ بالاتهام، وإذا كل زوج فيها شاكٌّ في زوجه، وكلّ رجل فيها شاكٌّ في أصله، وكلّ بيت فيها مهدّدٌ بالانهيار، وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تُطاق؛ ذلك لأنّ اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرّجة من ارتكاب الفعلة أنّ جو الجماعة كلّه ملوّث، وأنّ الفعلة فيها شائعة؛ فيُقدِمُ عليها مَنْ كان يتحرّجُ منها، وتهونُ في حِسّه بشاعتُها بكثرةِ تردادها، وشعورِه بأنّ كثيرين غيرَه يأتونها! ومِن ثَمَّ لا تُجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه، والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الـمُوحي بارتكاب الفحشاء»[3].
٣. نَسَقُ المجتمعات الإسلامية الطهارةُ:
للمجتمعات الإسلامية بُنْيَةٌ خاصّةٌ ناتجةٌ عن التزام منهج الإسلام في غرس الفضيلة وحمايتها، فالحياء والحشمة، ونقاء العِرض والشّرف، والبُعد عن الفحش والتفحّش، والتزام الآداب العامّة التي تنضبط بضوابط الشريعة؛ كلّها سمات واضحة من سمات المجتمع المسلم، وهذا لا يعني عصمته من المعاصي والفواحش، لكنّها مستترة غير ظاهرة، ومَنْ يُظهرها فهو مجاهر فاسق خارج عن نسق المجتمع ونظامه.
والمنافقون يسعون لتعكير هذا الصفو الظاهر المؤثّر في الباطن، فيعمدون إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بوسائل متنوّعة، تبدأ بالدعوة إلى ما يسمّونه «الحرّية الشخصية» التي يريدون من ورائها إطلاق المرء من قيود الشريعة والأعراف، مرورًا بالحديث المعلن عن الفواحش سواء بالأحاديث العامّة أو الطرائف ونحوها واعتباره جزءًا من «الثقافة»[4]، وفي حال كان الطهر هو السائد في المجتمع فليس من وسيلة سوى الهمز واللمز والطعن في الأعراض والاتهام بالفواحش، وهذا الطعن هو صنيعة دجاجلة كل عصر وديدنهم مع الدعاة وخصومهم من أهل الصلاح، ولذا ابتلي به النبي ﷺ؛ ليكون قدوةً لنا، وليكون منهجه في التعامل مع هذا الأمر نبراسًا للأمّة في بقيّة دهرها.
ولذا كان الوعيد شديدًا لهؤلاء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾ [النور: ١٩].
٤. آداب التعامل بين الجنسين:
تعامل الرجل مع المرأة الأجنبية والمرأة مع الرجل الأجنبي يكون وفق الضوابط الشرعية والآداب الرفيعة؛ تضييقًا لمداخل الشيطان التي يدخل منها لإيقاعهما في حبائله؛ فهو حاضر في كلّ موقف ممكن، قال الصادق المصدوق ﷺ: (لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثَهُما الشيطانُ)[5]. ولا يسلم من وسوسة الشيطان أحدٌ، ولا تنفع «الثقافة» و«الرقيّ» و«الذوق» التي يزعم بعض من يريد ترك الحبل على الغارب في التعامل بين الجنسين أنّها عاصمةٌ من الزلل؛ فإنّ الشيطان يجري من كلّ إنسان مجرى الدم، يوسوس له ويغريه ولو بالفكر.
الالتزام بالضوابط الشرعية والآداب الرفيعة في التعامل هو ما كان من أمّ المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطّل رضي الله عنهما، تقول السيدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها: «وكان صفوان بن المعطل السُّلمي ثُمَّ الذكواني قد عَرَّسَ من وراء الجيش فادَّلجَ[6]، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائمٍ، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليَّ، فاستيقظت باسترجاعه[7] حين عرفني، فخمَّرت وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني كلمةً ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلتَه، فوَطِئَ على يدها فركبتُها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغِرينَ في نحر الظهيرة»[8].
لم يسألها صفوان رضي الله عنه عن حالها؟ ولا عن السبب الذي جعلها لا ترتحل مع الجيش؟ فقد فَهِم أنّه قد فاتها اللحاق بالجيش بغضّ النظر عن السبب. وأعلمها بوجوده بطريقة غير مباشرة من خلال استرجاعه، وعمل سريعًا على تيسير ركوبها على الجمل، وسار بها؛ فلا حاجة في كلّ ذلك لإيضاح الواضحات، ولا لفتح حديث يجرّ حديثًا. وهو يتعامل مع مَنْ؟ مع أمّ المؤمنين رضي الله عنها.
وهي بدورها لم تتكلّم بشيء؛ إذ لا حاجة للكلام، فالرجل معروف، ومهمّته معروفة، وقد قام بما ينبغي له القيام به دون طلب، فَلِمَ الحديث إذن؟
ليس في شيء من هذا جمودٌ أو تشدّد، بل محافظة على الحدود التي أقامها الله عز وجل وهو الذي خلقنا وأدرى بأنفسنا منّا. وليس في ذلك منعٌ للحديث أو التعامل بين الرجل والمرأة بإطلاق، بل هو منوط بالحاجة الداعية إليه، وبالطريقة التي لا يكون فيها مدخل للشيطان ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: ٥٣].
٥. التربية على مواجهة الفتن والأَزمات:
لقد كانت هذه الحادثة مناسبةً فريدةً لتربية المؤمنين على مواجهة الفتن وتحدّيها وحسن التعامل معها، وأيُّ فتنةٍ أعظم من الطعن في العِرض؟ وأيُّ مصيبةٍ أعظم من استهداف قادة الأمّة ورموزها؟ «فقد كلّفت حادثة الإفك أطهرَ النفوس في تاريخ البشرية كلها آلامًا لا تُطاق، وكلّفت الأمّة المسلمة كلّها تجربة من أشقّ التجارب في تاريخها الطويل، وعلّق قلبَ رسول اللّه ﷺ وقلبَ زوجه عائشة التي يحبها وقلبَ أبي بكر الصديق وزوجِه وقلبَ صفوان بن المعطل رضي الله عنهم شهرًا كاملاً؛ علّقها بحبال القلق والألم الذي لا يُطاق.
لقد كانت معركة خاضها رسول اللّه ﷺ وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام، معركة ضخمة لعلّها أضخم المعارك التي خاضها رسول اللّه ﷺ … والآلامُ التي تناوشهُ لعلّها أعظم الآلام التي مرّت به في حياته، والخطرُ على الإسلام من تلك الفرية من أشدّ الأخطار التي تعرّض لها في تاريخه»[9].
وقد ربّى الله سبحانه وتعالى المؤمنين من خلال هذه الحادثة على: الصبر وضبط النفس، وحفظ اللسان، وإحسان الظنّ بالمؤمنين، والحذر من مكائد المنافقين، والمحافظة على العفّة والطهارة.
وكان الرسول ﷺ قدوة في: الصبرِ رغم عِظَم المصاب وفداحة التُهمة، والحكمةِ في التعامل مع أطياف المجتمع وأنواع الخائضين في هذا الإفك، وحسنِ اختيار المستشارين، ومحاصرةِ الفتنة وقطع أسباب زيادتها، والحزمِ في تنفيذ العقوبات الصارمة القاسية على الخارجين المخالفين.
وليست هذه التربية محصورة في حادثة الإفك، بل في كل التشريعات التي جاءت بها سورة النور، ومن ذلك أنّه لـمّا أنزل الله عز وجل تشريع اللعان عند اتهام الرجل زوجته بالزنا، وسمع سعد بن عبادة رضي الله عنه هذا الحكم أخذته الغيرة فقال: «لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح» فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني[10]، من أجل غَيرة الله حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن)[11]. فالمسلم مأمور بالصبر والحزم معًا، وتطبيق شرع الله كما أنزله، لا أن ينجرف وراء عواطفه وغضبه.
٦. التعامل مع المتّهم بذنب:
يبقى المتّهم بريئًا إلى أن تثبت عليه التهمة، وحتى ذلك الحين فلا يُعامل معاملة المذنب، وهكذا كان حال النبي ﷺ مع عائشة رضي الله عنها؛ فعلى الرغم مما قيل في حقّها وانتشار هذه الإشاعة في المدينة إلّا أنّه كان يزورها كلّ يوم ويسأل عن أحوالها ولاسيما مع مرضها الذي ألمّ بها بمجرّد عودتها إلى المدينة، بل إنّه لم يذكر لها ما يتحدّث الناس به في أمرها حتى لا يزيد من مرضها، سوى أنّه لم يكن يُشعرها باللطف الذي كانت تعهده منه عندما تمرض؛ لعلّها تسأله عن سبب ذلك فيكون ذلك مدخلاً للحديث معها في هذا الموضوع. تقول رضي الله عنها: «فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني[12] في وجعي أني لا أعرف من رسول الله ﷺ اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله ﷺ فيسلم ثم يقول: (كيف تِيكم)؟[13] فذاك يريبني ولا أشعر بالشر».
أمر آخر غاية في الأهميّة: وهو مصارحة صاحب التهمة؛ بقصد الاستعلام منه وسماع قوله ودفاعه عن نفسه بعبارة محايدة ليس فيها تصريح بالاتهام ولا بالبراءة، مع فتح باب التوبة على مصراعيه؛ وهذا من شأنه أن يثيرَ لدى المتّهم نوازع التوبة والإنابة إذا كان قد اقترف الذنب حقًّا، أو تتفجّرَ في ملامحِهِ وعباراتِه ونبراتِ كلامه براهينُ البراءة التي لا تخفى على كلّ من يشاهده ويسمع كلامه، وهذا ما فعله النبي ﷺ مع عائشة رضي الله عنها، حيث قال: (أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه).
فما كان ردّة فعل أم المؤمنين رضي الله عنها؟
قالت: «فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قَلَصَ دمعي حتى ما أحس منه قطرة، … فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقونني، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨]، ثم تحولت فاضطجعت على فراشي».
٧. الأصلُ في المسلمِ السلامة:
الأصل في المسلم الذي لم يُعلم عنه سوء: السلامةُ والطهارة، وبراءةُ عِرْضه مما يخدشه.
وهذا الأصل مبنيٌّ على قاعدة شرعية كلّية، وهي: أنّ الأصل براءة الذمّة.
ومبنيٌّ كذلك على إحسان الظنّ بالمسلمين، وترك سوء الظنّ بهم والنظر بريبة وشكّ إلى أعمالهم ومواقفهم، فضلاً عن الحكم على سرائرهم ونيّاتهم. «فالاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدّق مؤمنٌ على أخيه وأخته في الدين، ولا مؤمنةٌ على أخيها وأختها في الدين قولَ عائبٍ ولا طاعنٍ»[14].
ومبني أيضًا على الأسس الشرعية في التعامل مع الأخبار ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين﴾ [الحجرات: ٦] .. «فحقُّ المؤمن إذا سمع قالةً في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظنّ لا على الشكّ، ثم ينظرَ في قرائنِ الأحوالِ وصلاحيّة المقام؛ فإذا نُسِبَ سوءٌ إلى مَنْ عُرِف بالخير ظنّ أنّ ذلكَ إفكٌ وبهتانٌ حتى يتّضح البرهان»[15].
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى المسلمين الذين خاضوا في هذه الحادثة، أو كان موقفهم «محايدًا» بقوله جل جلاله: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِين﴾ [النور: ١٢]، «أي: ظنّ المؤمنون بعضُهم ببعضٍ خيرًا: وهو السلامةُ مما رُموا به، وأنَّ ما معهم من الإيمان المعلوم يدفعُ ما قيل فيهم من الإفكِ الباطلِ»[16].
وقد طبّق أبو أيوب الأنصاري t هذا المبدأ، فعندما قالت له زوجته أمّ أيوب رضي الله عنها: «أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلكَ الكذبُ، أكنتِ فاعلةً ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله .. ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك»[17]. وطبّقته الأنصارية التي جاءت فجلست مع عائشة رضي الله عنها تواسيها، فهي تخبرها بمجالستها وببكائها معها أنّها لا تصدّق فيها قولاً[18].
والنبي ﷺ -رغم أنّه توقّف في البَتّ في هذه المسألة انتظارًا للوحي، وحتى لا يقال: برّأ أهله وصاحبه- عَمِلَ بهذا الأصل، فَعَن عائشة رضي الله عنها قالت: (قام رسول الله ﷺ على المنبر… فقال: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي[19]؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي).
بل إنّ عائشة رضي الله عنها قد عملت بهذا الأصل في حقّ مِسْطَح بن أُثَاثَةَ t، وهو أحد الذين انساقوا وراء المنافقين وتكلّموا في عِرضها، فأنكرت على أمّه سبّها له؛ لأنّه شهد بدرًا، فقد قالت: «خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح… فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبِّين رجلاً شهد بدرًا؟ فقالت: أي هَنْتاه[20]، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضًا إلى مرضي».
٨. الوَرَعُ خير عاصم من الآثام:
الوَرَعُ هو: اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرّمات[21]؛ فهو دافع للكَفّ عن المحارِم والتحرُّج من كلّ ما يوصل إليها.
وعامّة الصحابة رضي الله عنهم كانوا متّصفين بهذه الصفة؛ فحماهم الله عز وجل من الخوض في الإفك، باستثناء ثلاثة منهم فقط وقعوا في حبائل المنافقين فخاضوا وتكلّموا ثم ندموا وتابوا[22]، وإلّا فأين ذِكْرُ عمر وعثمان وكبار الصحابة في هذه الحادثة؟ وأين ذِكْرُ بنتَيْ رسول الله ﷺ وزوجاته؟ وأين ذِكْرُ المقرّبين منه والرواة عنه؟ لقد عصمهم الله جميعًا بالورع من الخوض في هذا الإفك.
قالت عائشة رضي الله عنها: «وكان رسول الله ﷺ سأل زينب بنت جحش، زوج النبي ﷺ عن أمري (ما علمت؟ أو ما رأيت؟) فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني[23] مِن أزواج النبي ﷺ، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها[24]، فهلكت فيمن هلك».
فالوَرَع خير خصال الدين، قال رسول الله ﷺ: (خيرُ دينكم الوَرَعُ)[25]، وهو سبيلٌ لترك الشبهات والبعد عنها (من حُسنِ إسلام المرءِ تركُه ما لا يَعنيه)[26]، والاستبراء للدين والعِرض، وسببٌ من أسباب كمال التقوى، و«الوَرِعُ دائمُ المراقبةِ للحقِّ، مستديمُ الحذر أن يمزج باطلاً بحقٍّ»[27].
وختامًا ..
ما أحوجنا -في هذا الزمان- لمثل هذه الدروس والعبر، والأخذ بها ونشرها بين أفراد مجتمعنا، وتنشئة شبابنا وفتياتنا عليها؛ فنحن نعيش في عالم كثُر فيه الفساد وانتشرت فيه الرذيلة، وأصبحت أحاديث ومشاهد الإفك والفجور والمجون متاحة للجميع من خلال وسائل الإعلام المتنوّعة؛ حتى بات كثير من المسلمين لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، وبدأت ملامح الفضيلة تتبدّل وتتغيّر.
ولا عاصم لنا بعد الله عز وجل إلا بالالتزام بشرعه، والأخذ بهدي نبيه ﷺ وصحابته رضي الله عنهم، والمبالغة في إغلاق أبواب الفتنة، والجدّ في العناية بالأسرة المسلمة وتربية أفرادها على الفضيلة، وتحصينهم من الشبهات والشهوات، وغرس القيم السامية في نفوسهم.
[1] ينظر: صحيح البخاري (٢٦٦١)، وصحيح مسلم (٢٧٧٠)، وكلّ ما لم أعزه من الحديث من رواية عائشة رضي الله عنها فهو جزء من هذا الحديث.
[2] ينظر: في ظلال القرآن، (٤/٢٤٩٥-٢٥٠١) باختصار وتصرّف يسير.
[3] في ظلال القرآن (٤/٢٤٩٠-٢٤٩١) بتصرّف يسير بتقديم وتأخير.
[4] بل حتى في الإعلام، من خلال تغطية أخبار الجرائم والانحرافات الأخلاقية، وتتبع الساقطين وتحرّكاتهم وأحاديثهم وفضائحهم، وسواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد فإنّه يؤدي للتطبيع مع هذه الأخبار والاعتياد عليها.
[5] أخرجه الترمذي (٢١٦٥) وأحمد (١١٤).
[6] «عرّس»: نزل آخر الليل في السفر للراحة، و«أدلج»: سار في الليل أو في آخره.
[7] قول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».
[8] أي نزلوا للاستراحة في وقت شدّة الحر.
[9] في ظلال القرآن (٤/٢٤٩٥-٢٥٠١) باختصار وتصرّف يسير.
[10] متّفق عليه: البخاري (٦٨٤٦)، ومسلم (١٧-١٤٩٩). وغَيْرَةُ الله: مَنْعُهُ من الفواحش.
[11] هذه الزيادة في الحديث الذي أخرجه مسلم.
[12] يجعلني أشكّ وأتوهّم.
[13] إشارة تنبيه للمؤنث.
[14] التحرير والتنوير، لابن عاشور (١٨/١٧٥).
[15] المرجع السابق.
[16] تفسير السعدي (ص ٦٥٦).
[17] تفسير الطبري (١٩/١٢٩).
[18] قالت عائشة رضي الله عنها: «فبينما هما جالسان عندي [تعني: أبويها] وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي».
[19] في رواية عند البخاري (٤٧٥٧) ومسلم (٥٨-٢٧٧٠): (أما بعد أشيروا علي في أناس أَبَنوا أهلي، وايمُ الله ما علمت على أهلي من سوء، وأَبَنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي) والأَبْنُ: التُهمةُ، يقال أَبَنَهُ يَأبُنُه ويَأبِنُهُ إذا اتّهَمَهُ ورماه بِخُلّةِ سُوءٍ فهو مأبون.
[20] لفظة تختص بالنداء، ومعناه: يا هذه، وقيل يا امرأة، وقيل يا بلهاء؛ كأنها نسبت إلى قلّة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم.
[21] التعريفات للجرجاني، ص (٢٥٢).
[22] وهذا يدلّ على أنّ مجتمع الصحابة لم يكن مجتمعًا ملائكيًا، فهم بشر يصيبون ويخطؤون، لكنّهم كانوا أقرب الناس إلى الحق، وأسرعهم استجابة لله ورسوله، فهكذا ربّاهم القرآن وهكذا أدّبهم رسول الله r، ومن أخطأ منهم فإنّه يسارع إلى التوبة كما تاب مَن وقع في الإفك.
[23] تضاهيني وتفاخرني بجمالها ومكانتها عند النبي r.
[24] تعني: حملتها الغيرة لأختها ضرّة عائشة رضي الله عنها على الخوض في هذا الإفك.
[25] أخرجه الحاكم (٣١٤)، والبيهقي في شعب الإيمان (١٥٧٩)، وحَسَّنَ إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (١/٧٢).
[26] أخرجه الترمذي (٢٣١٧)، وابن ماجه (٣٩٧٦)، وأحمد (١٧٣٢)، وحسّنه النووي وابن القيم والسيوطي وغيرهم.
[27] فتح القدير، للمناوي (٣/٤٨٧).
إضافة تعليق