في سياق الآيات التي فصَّلت خطة المعركة بين أهل الإيمان والمشركين؛ لم تكتفِ الآيات بتوضيح إجراءات المعركة، وإنما أضافت إليها عنصر الحذر والاحتياط. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعَا} [النساء: 71]، وقال عز وجل: {وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102].
الحذر من الأعداء - ولو كانت الظروف آمنة مسالمة - أول إجراء يمكن القيام به تجاههم. قال ابن عاشور رحمه الله: «وابتدأ بالأمر بأخذ الحذر. وهي أكبر قواعد القتال لاتقاء خدع الأعداء. ومعنى ذلك ألا يغتروا بما بينهم وبين العدو من هدنة صلح الحديبية، فإنَّ العدو وأنصاره يتربصون بهم الدوائر، ومن بينهم منافقون هم أعداء في صورة أولياء»[1]. والحذر في أصله اللغوي يعني الاحتراز عن مخيف[2]. وهذا الاحتراز مطلق، أيْ قد يكون بالسلاح وقد يكون بغيره، ولذا قال السعدي رحمه الله: «يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم ويُستدفَع مكرهم وقوتهم؛ من استعمال الحصون والخنادق، وتعلُّم الرمي والرُّكوب، وتعلُّم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يُعرَف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم، والنفير في سبيل الله»[3]. فالسعدي رحمه الله يضمِّن الحذر كلَّ ما يدفع مكرهم وقوتهم، وكلَّ ما يجعل أهل الإيمان في حالة من القوة والجاهزية.
وكل إجراءات الحذر والحَيطة المأمور بها معلَّلة بقوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَة} [النساء: 102]، فهم في تربص دائم بالمؤمنين! وهذا يعني أنَّ محبتهم للإيقاع بالمؤمنين وتمنيهم القضاء عليهم كامنة في نفوسهم، فهم ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض عليكم يا أهل الإيمان! أفلا تعون ذلك؟ وهذه الحقيقة التي قررها القرآن الكريم حدثنا التاريخ عن ديمومتها وثبوتها في نفوس الذين كفروا.
والذين كفروا يتوقعون من أهل الإيمان أنَّهم يغفلون عن سلاحهم العسكري وعن متاعهم وممتلكاتهم، فهناك ما يؤشر على احتمال وقوع الغفلة من أهل الإيمان، ولذلك ورد التحذير الثاني في سياق الأمر بإقامة الصلاة. قال ابن جرير رحمه الله: «تمنى الذين كفروا بالله، لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم. يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها، فيميلون عليكم ميلة واحدة. يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم جملة واحدة، فيصيبون منكم غرَّة بذلك فيقتلونكم، ويستبيحون عسكركم. يقول جلَّ ثناؤه: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا»[4].
والقرآن الكريم يحدثنا عن أمنية عظيمة للذين كفروا، إنها الميلة الواحدة! أيْ: مستأصِلة، لا يُحتاج معها إلى ثانية[5]. فهناك رغبة جامحة في استئصالكم يا أهل الإيمان، وحنين مدفون في الصدور، لا يطفئه إلا القضاء عليكم. وعلى القول بأنَّ هذه الآيات نزلت في السنة السادسة من الهجرة، وهي السنة التي وقعت فيها هدنة صلح الحديبية، ووضع الناسُ فيها السلاح، وانحازت القبائل إلى طرفي الصراع؛ فإنَّ هذا التحذير الذي جاء في وقتٍ آمن يدلُّ دلالة عميقة على عدم الثقة بالأوضاع الآمنة؛ فإنها تخفي دموية لا نظير لها، هذا من جانب. ومن جانب آخر فإنها تدل على وجوب الإعداد والحذر والجاهزية الدائمة لصدِّ العدوان ودفع الصائل، قال القرطبي رحمه الله: «وهذا يدلُّ على تأكيد التأهُّب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام؛ فإنَّ الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريطٍ في حذر»[6].
ليست المسألة مجرد عداء، إنها رغبة القضاء التام على أهل الإيمان، الرغبة التي تتوارثها الأجيال الكافرة تلو الأجيال.. إنها حقيقة قرآنية.
تالله! إنَّ العجب ليتملكني من هذا البيان القرآني الذي بيَّن وأوضح طريقة الاستعداد لمواجهة الأزمات المستقبلية، وخفايا الأوضاع الآمنة وحقائقها، وكمون الشرِّ في نفوس الذين كفروا. كما يتملكني العجب من بعدنا عن هذا الهدي القرآني: العظيمِ في تأسيسه لمعالجة المسألة، والرؤوفِ الرحيمِ بالمؤمنين منْ أنْ يؤخَذوا على غرَّة وغفلة.
ولقد صدق الله تعالى، ومن أصدق منه قيلاً! ففي المدة التي خضعت لبنود صلح الحديبية، وهي فترة الأمان ووضع السلاح بين المشركين وحلفائهم وبين أهل الإيمان وحلفائهم.. في تلك المدة نقض المشركون عقد الصلح بقتال حلفائهم لحلفاء أهل الإيمان، وقامت الحرب مجدداً وانتهت بفتح مكة الكبير.
عدو خلف الأسوار..
حينما عيَّر المشركون أهلَ الإيمان بأنهم يقاتلون في الأشهر الحرم، ردَّ الله تعالى عليهم قولهم وبيَّن لهم أنَّ كفرهم وصدهم الناس عن سبيل الله أكبر من هذا القتال، ثم قرَّر حقيقة قرآنية أزلية، فقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. فهم في دأبٍ لا ينقطع عن قتال أهل الإيمان، قال السعدي رحمه الله: «أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم، ويكونوا كفاراً بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك، ساعون بما أمكنهم»[7]. وتلاحظ في هذا التقرير الارتباطَ الشرطي بين استمرار قتالهم وبين ثبات المؤمنين على الدين، أيْ ما دمتم ثابتين على الإيمان والتوحيد فإنهم لن يتركوا قتالكم.
«إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين. إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم. فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج، ومن منهج قويم، ومن نظام سليم.. إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد. ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه، ويردوهم كفاراً في صورة من صور الكفر الكثيرة. ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين، وتتبع هذا المنهج، وتعيش بهذا النظام»[8].
وواقع الأمر أن المشركين حينها لم يقاتلوا أهل الإيمان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ما أشغلهم عنها من سني الجدب التي أنهكتهم، فبيَّن الله لأهل الإيمان أنهم مضمرون الغزو عازمون على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه[9]. ففيه تحذيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ولأهل الإيمان من بعدهم في كل وقت بأنَّ سكون المشركين وقعودهم عن قتالكم إنما هو لمانعٍ من الموانع العارضة، كالاستعداد للقتال أو للظروف الاقتصادية المانعة، أو لحيلة سياسية، أو لغيرها من الموانع، التي إنْ زالت انقضوا عليكم ولم يألوا جهدهم في القضاء عليكم.
ولقد دأب القرآن على التحذير من المشركين، والتنبيه على أنَّ عهودهم غير موثوقة. قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُتَّقِينَ 7 كَيْفَ وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ 8 اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 9 لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُعْتَدُونَ} [التوبة: ٧ - 10]. قال الرازي رحمه الله: «اعلم أن {كَيْفَ} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل كونه معلوماً، أيْ: كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إنْ يظهروا عليكم - بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق - لم ينظروا إلى حلف ولا عهد، ولم يبقوا عليكم. هذا هو المعنى»[10]. فالقرآن يثبت في هذه الآيات وغيرها أنَّ عهود المشركين لا يمكن الثقة بها بوصفها تكتيكاً يستخدمونه لحيلة حربية قادمة.
لقد حرصت قريش على استئصال شأفة المؤمنين الجدد، واستعدت لذلك أيما استعداد، فزحفت بجيوشها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في أحد، ومرة في الخندق، ولم تتوقف عن الزحف نحو المدينة إلا عندما شعرتْ أنها عاجزة عن تحقيق هدفها، ولقد حشدت القبائل والأحابيش عام الخندق، وأنفقت الأموال، وتحالفت مع اليهود في المدينة. إنهم لا يتورعون عن التحالف مع أحد ضد أهل الإيمان، ولو كان الشيطان ذاته، إن اقتضى الأمر ذلك.
وبعد فتح مكة دانت العرب لحكم الإسلام وأذعنت لسيادة محمد صلى الله عليه وسلم وأعلنت إسلامها وطاعتها، فما لبث أنْ مات صلى الله عليه وسلم حتى ارتدَّ كثير من قبائل العرب، وأعلنوا العداء لأهل الإيمان. ومعركة اليمامة ليست بخافية على القارئ، وما حدث فيها من مقتلة عظيمة.
ومنذ سقوط الدولة القيصرية في الشام، ورجوع الشام إلى الحضن الإيماني، منذ ذلك الحين والغرب الروماني يعد العدة ويغزو البلاد الإسلامية المرة بعد المرة، فيما يعرف بالحروب الصليبية. وإلى هذه الساعة! لم يفتأ الغرب النصراني يقاتل أهل الإيمان ويكيد لهم الدسائس والحِيل، ويوقع بهم أشنع المذابح.
ولقد أنشأ اليهود دولة تستبطن الكفر وتستظهر الإسلام، وتخادع المسلمين، وتفتك بجسد الأمة؛ تلكم دولة العبيديين الرافضية.
وأما المغول التتر فقد فتكوا بالمشرق الإسلامي فتكاً تشيب لذكره الرؤوس، وأسقطوا الخلافة العباسية، ودمروا المدن والعواصم والثغور.
إنها الحقيقة القرآنية في عداء المشركين الأزلي، والتي يقابلها التوجيه الرباني في أخذ الحذر والحيطة تجاه هذه الحقيقة.
لا تغتر يا مؤمن بمعسول الكلام الذي يُسمعوننا إياه، ولا تغتر بأكاذيبهم التي صنعوا منها أجهزة عالمية ضخمة، كهيئة حقوق الإنسان، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومنظمة الصحة العالمية، وهيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وصندوق النقد الدولي.. إلى غيرها من الكيانات التي تقوم بالتغطية القانونية على الجرائم العظمى. لقد حذرنا الله تعالى من أنهم لا عهد لهم ولا ذمة، ولقد أخبرنا أنهم يناورون ويتنقلون بين أنواع من الخطط، بغية تحقيق الإستراتيجية الكبرى لهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} [البقرة: 217]، ولذلك قال تعالى هنا: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة: ٨]، قال ابن جرير رحمه الله: «يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء. {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أيْ: تأبى عليهم قلوبهم أنْ يذعنوا لكم بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذِّر جل ثناؤه أمرهم المؤمنين، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم، حيث وُجدوا من أرض الله، وألا يقصروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه»[11]. وقال الرازي رحمه الله: «يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً طيباً، والذي في قلوبهم بخلاف ذلك، فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إنْ قدروا عليه»[12].
فهل لأحدٍ بعد هذا البيان الرباني أن يثق بالمشركين، أو يظنَّ أنه في مأمن من عداوتهم وقتالهم؟
إعداد قدر المستطاع
هناك أمرٌ بالحذر من مكائد الأعداء. وهنا أمر بإعداد العدَّة لملاقاتهم والظفر عليهم. قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. قال ابن جرير رحمه الله: «يقول تعالى ذكره: وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم أيها المؤمنون بالله ورسوله {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة}؛ يقول: ما أطقتم أن تعدُّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم من السلاح والخيل. {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم}؛ يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل»[13]. وقوله تعالى: {مَّا اسْتَطَعْتُم} فيه الحث على بذل الوسع كله في الإعداد، بكل ما يمكن، لذا قال السعدي رحمه الله: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تُعمل فيها أصنافُ الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات والبنادق والطيارات الجوية والمراكب البرية والبحرية والحصون والقلاع والخنادق وآلات الدفاع والرأي والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرَّمْيُ»[14]. ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الْـخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء. والحكم يدور مع علته؛ فإذا كان شيء أكثر إرهاباً منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد؛ كان مأموراً بالاستعداد به والسعي لتحصيله، حتى إنه إذا لم يوجد إلا بتعلم الصناعة وجب ذلك، لأنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[15].
ويلاحظ في هذه الآية الكريمة أنها تأمر بالإعداد لقومٍ بيننا وبينهم عهد مخافة خيانتهم، فكيف بعدوٍ نراه يتربص بنا الدوائر، ويتحين الفرص المتوالية للانقضاض علينا! ومع ذلك فإنَّ هذه الآية تحتمل العموم، كما قال ابن عطية رحمه الله: «ويحتمل أن يعيده على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت ثم استمرت الآية في الأمة عامة، إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار»[16].
كما أنَّ لفظة الإعداد تشير إلى الظرف الراهن، أي حالة الأمن والسلام، فالإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة[17]، حتى إذا جاء الظرف المقتضي للحرب تكون الأمة التي أطاعت أمر ربها في كتابه مستعدة للقاء العدو غير هيابة.
حين تنكب أهل الإيمان هذه الخطة الربانية أصابهم الذل والصغار، وهانوا على سائر الأمم، وسيموا الخسف والهوان والقتل والتشريد، وأحاطت بهم حيَل الأعداء ومكرهم، ووقعوا فريسة المؤامرات الدولية. المعادلة إذن في غاية الوضوح: إعداد القوة يعني رهبة العدو وخوفهم.
عدو آخر يدَّعي الإسلام
طالما الحرب خدعة، وأنها تحتمل المناورات، وتتغشاها الدسائس والمكائد والحيل فلنْ تبقى على وتيرة واحدة ومظهر واحد. بل سيتخللها عدد من الخطط المؤقتة والمرحلية المملوءة بالحذر وإظهار غير الواقع.
والتربية القرآنية تؤكد وجود أعداءٍ لأهل الإيمان، غير أولئك الذين ظهرتْ لنا عداواتهم، أيْ غير المشركين المعلنين بشركهم وكراهيتهم للإسلام. قال الله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].. نعم، الآية تشير إلى وجود عدوٍ لنا داخل الأسوار، ربما!
وسورة الأنفال تحدثت عن معركة بدر التي دارت بين مشركي قريش ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار. ففي هذا السياق تمت الإشارة إلى عدو آخر غير معروف، وليس هو من مشركي قريش. فمن يكونون إذن؟ هل هم اليهود الذين كانوا في المدينة؟ أم هم المنافقون؟ وقد أشارت آيات الأنفال إليهم قبل ذلك. أم هم عدو غير معروف؟
اختلف أهل التفسير في ذلك، قال مجاهد ومقاتل وقتادة: هم بنو قريظة. وقال السدي: هم أهل فارس. وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون؛ لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله[18]. وابن جرير رحمه الله يرى أنهم الجن[19].
ولابن عطية رحمه الله مناقشة رائعة لأقوال المفسرين، يحسن عرضها برغم طولها، يقول: «وهذا الخلاف إنما ينبغي أن يترتب على ما يتوجه من المعنى في قوله: {لا تَعْلَمُونَهُمُ}. فإذا حملنا قوله: {لا تَعْلَمُونَهُمُ} على عمومه، ونفينا علم المؤمنين بهذه الفرقة المشار إليها جملة واحدة، وكان العلم بمعنى المعرفة لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، لم يثبت من الخلاف في قوله {وَآخَرِينَ} إلا قولُ من قال: الإشارة إلى المنافقين، وقول من قال: الإشارة إلى الجن.
وإذا جعلنا قوله {لا تَعْلَمُونَهُمُ} مجازاً بيناً[20] أو نحو هذا مما نقيّد به نفي العلم عنهم، حسنت الأقوال، وكان العلمُ متعدياً إلى مفعولين. قال القاضي أبو محمد [هو ابن عطية]: هذا الوجه أشبه عندي.
ورجح الطبري أنَّ الإشارةَ إلى الجن، وأسند في ذلك ما روي من أن (صهيل الخيل ينفِّر الجن، وأن الشيطان لا يدخل داراً فيها فرس للجهاد)[21]، ونحو هذا، وفيه على احتماله نظر. وكان الأهم في هذه الآيات أن يبرز معناها في كل ما يقوي المسلمين على عدوهم من الإنس، وهم المحاربون والذين يدافعون على الكفر، ورهبتُهم من المسلمين هي النافعة للإسلام وأهله، ورهبة الجن وفزعهم لا غناء له في ظهور الإسلام، بل هو تابع لظهور الإسلام وهو أجنبي جداً، والأولى أنْ يتأول أنَّ المسلمين إذا ظهروا وعزُّوا هابهم مَن جاورهم من العدو المحارب لهم، فإذا اتصلت حالهم تلك بمن بَعُدَ من الكفار داخلته الهيبة وإن لم يقصد المسلمون إرهابهم، فأولئك هم الآخرون.
ويحسن أن يقدر قوله {لا تَعْلَمُونَهُمُ} بمعنى: لا تعلمونهم فازعين راهبين، ولا تظنون ذلك بهم، والله تعالى يعلمهم بتلك الحالة. ويحسن أيضاً أن تكون الإشارة إلى المنافقين على جهة الطعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم، وليستريب بنفسه كلُّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية، ولفزعهم ورهبتهم غناءٌ كثير في ظهور الإسلام وعلوه»[22].
على أيٍّ، إن هذا النوع من الأعداء غير بارز، فهو مختفٍ كامنٌ. قال ابن عاشور رحمه الله: «أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيداً، ويتربص بهم الدوائر، مثل بعض القبائل. فقوله: {لا تَعْلَمُونَهُمُ} أيْ لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام، وقد علمتموهم الآن إجمالاً. وقوله: {مِن دُونِهِمْ} مؤذنٌ بأنهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة، ولذلك ذكر {مِن دُونِهِمْ} بمعنى: من جهات أخرى، لأنَّ أصل (دون) أنها للمكان المخالف»[23].
ابن كثير والرازي رحمهما الله يصوبان القول بأنهم المنافقون[24]. قال الرازي: «والمعنى أنَّ تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار، فكذلك يوجب رهبة المنافقين». واستشهد ابن كثير لهذا المعنى بقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْـمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: ١٠١]. وربما يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {وَإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: ٤]؛ قال ابن جرير رحمه الله: «فإنَّ ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عينٌ لأعدائكم عليكم»[25]. وهذا يعني أنَّ المنافقين الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين ويقولون: لا إله إلا الله، ليسوا مقتصرين على عداوة القلب، بل هم مضمرون الشر لأهل الإيمان، ولكن عجزهم وضعفهم وعدم قدرتهم على المواجهة جعلتهم يتكفلون للعدو الأجنبي بما يسمى بالمهام القذرة كالجاسوسية، فهم يعملون في بلاد المسلمين لصالح المشركين.
وقال القرطبي: «وفي قوله تعالى: {فَاحْذَرْهُمْ} وجهان: أحدهما: فاحذر أنْ تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم. الثاني: فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك»[26]. فهو يضيف معاني أخرى للحذر من المنافقين، وهو الحذر من الثقة بهم، لأنهم مستمرئون للخداع، كارهون لأهل الإيمان، مضمرون الشر لهم. والحذر - أيضاً - من ممايلتهم الأعداء وموالاتهم ونصرتهم. والحذر من جهودهم الحثيثة في تخذيل أهل الإيمان.
وقال السعدي رحمه الله: «هم العدو على الحقيقة. لأن العدو البارز المتميز أهون من العدو الذي لا يشعَر به، وهو مخادع ماكر، يزعم أنه ولي، وهو العدو المبين»[27]. فهو يَسِمهم الخداع والمكر والاحتيال والكذب على أهل الإيمان، لذلك كانوا أحق بالعداء من غيرهم.
طوائف ضالة وحكومات مارقة وشخصيات منافقة، دأبت على رفع شعار الإسلام، وتدثرت بثياب أهل الإيمان، لكنها في واقع الأمر وحقيقته: عينٌ عليهم للمشركين، مخادعون ماكرون، يتحينون بأهل الإيمان الفرصة للإيقاع بهم، ويتربصون بهم الدوائر. وطوائف ومنظمات أخرى، ولربما دول وحكومات لا تدعي الإسلام، لكنها تدعي السلام والموادعة؛ وهي تنافق أهل الإيمان وتتربص بهم الدوائر.. هؤلاء هم الأعداء الحقيقيون، ونحن أول هدف لسهامهم، لذا أمر الله تعالى - والأمر يقتضي الوجوب - بالحذر منهم، وتفويت الفرصة عليهم، واليقظة لألاعيبهم.
التوجيهات العمرانية:
في سياق الحديث الدافئ المتعلق بأهل الكتاب، وقبل الولوج في التعقيبات القرآنية على غزوة أحد التي كانت فيها المواجهة مع مشركي قريش، تجد ضوءاً مسلطاً على عدد من التوجيهات الربانية، التي ناسب أنْ تُضمَّن بها الآيات في سورة آل عمران. كانت تلك التوجيهات بمثابة الخطة النافعة في علاقة أهل الإيمان مع أعدائهم المشركين. وهي خطة فيها عدد من الإجراءات الإصلاحية الداخلية. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ 100 وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 101 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ 102 وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 103 وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ 104 وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 100 - 105].
وتفصيل الخطة النافعة في مواجهة العدو الكافر، بحسب هذه الآيات، كالآتي:
- الحذر من طاعة المشركين، وأخذ مشورتهم وآرائهم: {إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}. والمراد من الفريق هنا: الرؤوس والأحبار[28]. ويدخل فيهم المستشارون منهم والهيئات العالمية التي لا تألو جهداً في تقديم الدراسات والاستشارات للمسلمين بزعم النصيحة. وهم والله الذي لا إله إلا هو إنما يسعون لنقيض ذلك. قال ابن جرير رحمه: «فتأويل الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله، إنْ تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتاب من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يضلوكم فيردوكم بعد تصديقكم رسول ربكم وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم كافرين؛ يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدقتموه من الحق الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جل ثناؤه أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأياً أو مشورة، ويعلمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوون على غل وغش وحسد وبغض). ونقل عن قتادة رحمه الله قوله: (قد تقدم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأمنوهم على دينكم ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداء الحسدة الضلال، كيف تأتمنون قوماً كفروا بكتابهم، وقتلوا رسلهم، وتحيروا في دينهم، وعجزوا عن أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التهمة والعداوة»[29].
- التمسك بهدى الله: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 101 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}.
- الاعتصام بالجماعة ونبذ الفرقة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}. قال ابن مسعود رضي الله عنه : «عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإنَّ ما تكرهون من الجماعة والطاعة خيرٌ مما تحبون في الفرقة»[30]. وابن عطية رحمه الله يفسِّر الفرقة بأنها التي لا يأتي معها الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى. ثم يقول: «وهذا هو الافتراق بالفتن، والافتراق في العقائد. وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشدَّ اختلاف؛ وهم يدٌ واحدة على كل كافر»[31].
- تحمُّل مسؤولية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ}، وذلك بأنْ يتحمل كل فردٍ مسؤوليته في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا يرى بعض المفسرين أنَّ «من» في الآية للصلة وليست للتبعيض. وهذا يناسب إذا اعتبرنا أنَّ على كل فرد مسؤولية ما تجاه ذلك؛ ولو صغرت. قال ابن كثير رحمه الله: «والمقصود من هذه الآية أنْ تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجباً على كل فردٍ في الأمة بحسبه»[32].
وابن جرير وكذا ابن كثير والسعدي على أنَّ «من» للتبعيض. قال ابن جرير رحمه الله: جماعة منكم[33]. وقال ابن كثير رحمه الله: «يعني المجاهدين والعلماء». تعليقاً على قول الضحاك رحمه الله: «هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة»[34]. وعلى القول بالتبعيض فإنَّ الآية تكون أمراً للأمة بأن «يكون منها علماء يفعلون هذه الأفاعيل على وجوهها، ويحفظون قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين لأولئك؛ إذْ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا يكون عالماً»[35]. وقال السعدي رحمه الله: «ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين، وتفقد أهل الأسواق ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة»[36].
إذن؛ يمكننا القول إن على الأمة مسؤولية عامة في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أهل العلم مسؤولية خاصة وشديدة في الدعوة إلى الخير ونشر العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن عطية رحمه الله: «والناس في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الولاة وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه قولاً. وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إنْ رأى أحد نازلة بديهة من المنكر كالسلب والزنا ونحوه فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة»[37].
وهذه الأعمال الاحتسابية سيقت في الحديث عن التعامل مع أهل الكتاب، لما فيها من تقوية ظاهرة للمجتمع المسلم وحماية هويته، مما سيكون له كبير الأثر في إرهاب أعداء الإسلام.
تلك خطة المواجهة مع أعدائنا من الذين كفروا، وقد أبان الله تعالى لنا كل ما نحتاجه من إجراءات الحذر والتحرز وخطط المواجهة والإعداد. فلله الحمد والمنة والفضل، وهو المستعان في كل ما يكاد لهذه الأمة، وعليه وحده التكلان.
[1] التحرير والتنوير 5/118.
[2] المفردات للراغب ص124.
[3] تفسير السعدي 1/322.
[4] تفسير الطبري 7/440.
[5] تفسير القرطبي 5/372.
[6] تفسير القرطبي 5/373.
[7] تفسير السعدي 1/160.
[8] في ظلال القرآن 1/702.
[9] انظر: التحرير والتنوير 2/331.
[10] التفسير الكبير 15/192.
[11] تفسير الطبري 11/359.
[12] التفسير الكبير 15/192.
[13] تفسير الطبري 11/244.
[14] أخرجه مسلم 3/1522 كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه، ح1917.
[15] تفسير السعدي 2/626.
[16] المحرر الوجيز 4/608.
[17] تفسير البغوي 3/371.
[18] تفسير البغوي 3/236.
[19] تفسير الطبري 2/59.
[20] في طبعة أخرى بدلاً عن «مجازاً بيناً»: « محاربين».
[21] لم يسند ابن جرير هذا القول لأحد، وإنما ساقه بصيغة التضعيف «قيل».
[22] المحرر الوجيز 4/613.
[23] التحرير والتنوير 10/57.
[24] تفسير ابن كثير 4/83. التفسير الكبير 15/156.
[25] تفسير الطبري 22/653.
[26] تفسير القرطبي 18/126.
[27] تفسير السعدي 4/1832.
[28] المحرر الوجيز 2/534.
[29] تفسير الطبري 5/632.
[30] تفسير البغوي 1/392.
[31] المحرر الوجيز 2/539.
[32] تفسير ابن كثير 2/91.
[33] تفسير الطبري 5/661.
[34] تفسير ابن كثير 2/91.
[35] المحرر الوجيز 2/544.
[36] تفسير السعدي 1/232.
[37] المحرر الوجيز 2/546.
إضافة تعليق