تمهيد:

في عالمٍ يتزاحم فيه أصحاب المشروعات والرؤى المختلفة لكسب الجماهير والتأثير عليهم؛ وتتفنَّن الدول ومراكز التأثير العالمية المدعومة بالقدرات الإعلامية والتقنية المتخصصة في قراءة مزاج الجماهير العام -بل وحتى المزاج الفردي كذلك!- وُتبدع في التوجيه للهدف المطلوب في مهارةٍ بالغة ومكرٍ كبير قد لا ينجو منه حتى بعضُ من يظنُّ نفسه في حصانةٍ منهم!! في ظل ذلك تُلحُّ الحاجة لرواد التغيير والإصلاح إلى قراءة سلوك الجمهور.. قراءةً تستحضر طبائع الشعوب مع استصحاب سنن التغيير الكونية والشرعية.

الجماهير والتأثير:

الجماهير ليست دائمًا في موقع المفعول به؛ أو التابع كما قد يظهر؛ بل إنَّ المزاج العام «للجماهير» يضغط على النخب في مختلف تخصصاتهم الشرعية والاقتصادية والسياسية…؛ فيضطرُّهم لوجهات واهتمامات -وربما لمواقف- تتناسب مع هذا المزاج إيجابًا أو سلبًا؛ فهم يمثلون دورًا مشتركًا بين المؤثِّر والمتأثر؛ ممّا يعني أنَّهم شُركاء حتى في توجيه الدفة بشكل غير مباشر!

وإذا كانت النخب والساسة هم قادة التغيير، فإنَّ الجماهير هُم أداتُه التي لا يتم إلا بها .. وأي تأثير على مستوى النخب الفكرية أو القيادات المجتمعية؛ لا يُصاحبه تأثير شعبي وجماهيري واسع سيصيب مشروع التغيير بالعجز والشلل؛ ويحوله إلى حركة فلسفية؛ تُقدِّم في أحسن حالاتها إرثًا نظريًا، ومخزونًا معرفيًا فحسب.

فلا مناص إذًا لأي مشروع إصلاحي يسعى للتغيير والتأثير الشامل من أن يرفع اهتمامه بالجماهير؛ بدءًا من فهم طبيعتهم، وإدراك همومهم؛ وانتهاء بتجويد خطابه الدعوي الموجّه لهم بشكل عام.

قيادة الجمهور:

الناس مشارب شتى؛ تتباين اهتماماتهم وثقافاتهم ومستوياتهم، إلا أنَّه عندما يُحسَنُ ضبط بوصلتهم ينصهروا ليكونوا أشبهَ بالشخص الواحد؛ فالناس بعضهم تبعٌ لبعض؛ القائدُ فيهم قليل، والممحِّص الواعي أقل، وإنما هم «كإبل مائة» ينقادُ مجموعهم لآحادهم؛ ومن اللافت أنَّ الوعي الشخصي للفرد يضعُف كلما انخرط في كيان أكبر منه! وكأنَّه يتخفف من إعمال عقله تسليمًا لعقول الآخرين أو تأثرًا بالهالة التي يفرضها التوافق الجماعي على أمرٍ ما.

وكلما زادت قاعدة الجماهير اتساعًا زادت سطوتها على الفرد وعقله؛ فتصبح الكثرة العددية بمفردها مؤشرًا على صحة ما تجتمع عليه؛ مهما بَدَت أدبيّاتُها ضعيفة أمام المحاكمة العقلية الصحيحة! وهي شُبهة تقع بسبب افتراض استحالة اجتماع هذه العقول على الخطأ؛ بينما لا تستحضر تبعية الناس بعضها لبعض؛ فمائة شخص ليسوا مائة عقل بالضرورة؛ وإنما قد يكونون عقلاً واحدًا ومائة تابع!([1]).

وفي حركة الجماهير غالبًا ما تكون التبعية لأصحاب المَلَكات القيادية المُبادِرة على حِساب أصحاب القُدرات الفكرية الحَذِرة؛ وهذا ما يجعل الحراك الجماعي في كثيرٍ من حالاته منخفض الوعي والتمييز.

ومن الظواهر الاجتماعية الملفتة أن سلوك الفرد في إطار جماعة يختلف عن سلوكه بعيدًا عنها؛ فالتيار «الجمعي» يضغط باتجاه الروح العامة له؛ حتى يفرز ما يمكن أن نسميه مجازًا «سلوك أو أخلاق الجمهور» مما يعني أنَّ التنبؤ بسلوك الناس الجماعي قد لا يكونُ متناسقًا مع سلوكهم الفردي؛ وإنَّما مع مسار الجماهير وما توجِّهه له!

وفي المقابل لا تَسْلَم حتى النُّخب أيضًا من تأثير تلك السطوة لـ «سلوك الجمهور» حيث يمتدُّ أثره عليها لتنصهر في سلوك ربَّما يكون غير متناسب مع مستواها الفكري والأخلاقي!!

وغالبًا ما يكون «سلوك الجمهور» أسوأ من «سلوك الفرد» كلما ضعفت الرقابة الخارجية والسلطة الضابطة له؛ فالمبادئ ظاهرة الأثر على التحكم بسلوك الأفراد ولكن سلوك الجماعات لا بدَّ للتحكم فيه من بروز دور السلطة؛ وربَّما هذا ما يفسر التشديد التشريعي في ضبط الأدوار الجماعية من مستوياتها العليا المتمثلة في الإمامة العظمى وحقوق ولي الأمر، وصولًا إلى التوجيه للتأمير في السفر في حق الثلاثة فأكثر.. ومرورًا بما بينهما من ضبط عبادات الناس الجماعية كإمامة الصلاة مثلًا. وهو ما يجعل المجتمع المسلم محاطًا بجملة من التشريعات التي ترفع مستوى «الضبط» فيما قد يفسِّره خصومه بأنَّه حالة من حالات «الكبت» له! غافلين عن أنَّ الكبت هو الحيلولة دون ظهور السلوك غير المرغوب فيه بالمنع أو القهر؛ دون معالجة دوافع ذلك السلوك في النفس مما يبقي التطلع له قائمًا؛ أو يؤدي إلى خفاءه علنا وظهوره سرًا.. أمَّا الضبط فيهتم بتعزيز القناعة بترك ذلك السلوك في النفس؛ مع تضييق فرص الوقوع فيه في الواقع.

فالكبت هو التعامل مع ظاهر السلوكيات، بينما يتعامل الضبط مع جذورها ودوافعها.

بين المبادئ والمصالح:

تتفاعل الجماهير غالبًا مع دعوات المبادئ والأخلاق والتدين؛ إلا إذا مَسّت تلك الدعوات مصالحها المباشرة! فإنَّها تنحاز غالبًا لمصلحتها الشخصية أو الجماعية على حساب القيم والمبادئ!، وتتباين الجماهير في ذلك ولا شك؛ فكلما زاد «النبل الجمعي» «والانتماء الديني» خرجت الجماهير من أسر «المصلحة الآنية الذاتية» إلى «المصلحة الاستراتيجية الجماعية» فارتفاع الروح الجماعية هي إحدى مؤشرات الوعي لدى الشعوب.

 وكثيرًا ما يتم خلط المبادئ بالمصالح لتسويغ تبني الناس لها؛ أيًا كانت وجهة هذه المبادئ؛ فالعلاقة بين الدين والمصلحة المادية قد تستغل لسهولة جعل الدين جسرًا لتحقيق المصالح من خلاله؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه﴾ [التوبة:34].

ولذلك غالبًا ما تكون صدمة الجماهير بعد انجلاء هذا الاستغلال لهم باسم الدين كبيرة؛ تفقدهم توازنهم وتؤدي بهم إلى نبذ كل ما هو ديني ومقدس، أو التشكيك به، أو حصره في زوايا ضيقة بعيدا عن الحياة في أحسن الأحوال؛ وهو بالضبط ما حصل من جماهير الأوروبيين مع الكنيسة في القرون الوسطى.

وربما فسر هذا شيء من تشديد الشريعة على تخليص الدين وعلمائه من أي شائبة أو مصلحة دنيوية؛ قال عليه الصلاة والسلام (مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ)([2]).

بل إنَّ جعل أوّل من تُسعَّر بهم جهنم يوم القيامة هم: القارئ والمجاهد والعالم والمتصدق كما في الحديث الصحيح([3]) هو أمر يستحق التأمل! ذلك أن هؤلاء يمثلون الصورة النهائية المثلى «لأهل الدين»! ولكنه فساد النية المفضي إلى تحقيق المصالح الذاتية من خلال هذا المقام السامي!!

ولقد سبق فرعون إلى اللعب على وتر الدين في كسب ولاء الجمهور عندما علّل معاداته لكليم الله موسى عليه السلام بقوله: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)!

وبعيدًا عن الاستغلال السيء للدين والمبادئ؛ فإن القيادة الدعوية التي تتكئ على بذل الناس وتضحيتهم في سبيل تحقيق المصالح الدعوية المشروعة؛ مقابل المساس بذواتهم أو مصالحهم الدنيوية المباشرة؛ تراهن مراهنة شبه خاسرة عند الأغلب من الجماهير وبالرغم من أنَّ الشريعة كلَّها مصلحة، إلا أنَّ الناس تتفاوت في إدراك ذلك؛ كما إنَّ المصالح الشرعية تُراعي مع مصالح الدنيا مصالحَ الدين ومعادَ العباد في الآخرة من جهة، وتُوازن بين مصلحة مجموع الناس ومصلحة أفرادهم من جهة أخرى؛ بينما ينحاز غالب الناس إلى مصالحهم الدنيوية المباشرة؛ على حساب المصالح الأخروية والجماعية؛ فيتمحورون حول آحادهم على حساب الكل؛ ففي أجواء ضعف التدين الغالبة تدور الناس حول ذواتها غالبًا؛ وليس من صالح الدعوات التعويل على تضحيات الجمهور لمجرّد أنَّها تملك الحق ما لم تربهم عليه، فبعمق التربية تتمايز الدعوات.

روح الجماهير:

روح الجماهير وإنْ بدت هادرة قوية إلا أنَّها ملولةٌ لا تُطيق المشاريع الطويلة؛ فتستعجل غالبًا اقتطاف الثمار؛ والتعويل عليها في مشاريع التغيير إنَّما يكون في تحقيق قفزات ونقلات آنية لقضايا كلية كبرى، لا في مشاريع استراتيجية عميقة وطويلة المدى؛ فذلك شأنُ النخب؛ وغالبًا ما تخدع روح الجماهير القوية والقصيرة الجماهير نفسها؛ فتستشرف لما هو فوق طاقتها؛ وقد يعول رواد الإصلاح عليها من آمال التغيير ما تعجز طاقة الجماهير عن دعمها و التماهي معها طويلًا.. ولعل في قصة بني اسرائيل مع نبي لهم شاهدًا على ذلك ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 246]([4]).

وكما أنَّ الشيطان يكمن في التفاصيل؛ فإنَّ النزول بالجماهير عن المشتركات الكبرى لها إلى القضايا التفصيلية يؤدي بها إلى التشرذم والافتراق. فلا يُفرِّق حراكًا مجتمعيًا ضخمًا أمرٌ مثلَ محاولةِ جمعِ أصحابه على رؤية مستقبلية مفصلة أو مواد تفصيلية للدستور، وإنَّما يكون جمعُ الناس على الحقائق الكلية التي تكون أشبه بالمنارات الظاهرة للجميع، وعبر التأكيد عليها من خلال التكرار بصُورٍ مُتباينة، ومن ثمَّ يَتبعُ الناسُ بعضُهم بعضًا في عدوى ظاهرةٍ وتقليدٍ واعٍ وربما غير واع أيضًا.

ونظرة سريعة في أنموذج الخطاب الشيعي -كمثال على الخطاب الجماهيري الذي نجحَ في تحشيدِ جمهورٍ واسعٍ من مريديه وأتباعه رغم هشاشةِ محتواه ومضمونه- يُلحظ هذا التركيز على قضايا كلية قليلة ومُحدَّدة يجتمع عليها الصغير والكبير، مع التأكيدِ والتكرارِ الحادِّ عليها في كلِّ مناسبةٍ لتكون أشبهَ بالسِّمة الظاهرة والشعارِ البارز لأصحابها؛ ومن ثمَّ سريان العدوى في تبني مضامين هذا الخطاب ومواقفه بصورة شبه عمياء لدى السواد الأعظم من جمهوره!!

وقد كان عليه الصلاة والسلام يجمعُ الناس على الكلِّيات ويرتفع بالصحابة عن كثيرٍ مما يحتمل أن يكون سببًا لتفرقهم رغم وضوح الحق فيه؛ ففي موقفه من عبد الله بن أُبيّ وطعنه بالنبي ﷺ والصحابة في موقفي الإفك وغزوة بني المصطلق اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يتجاوز الحَدَث لما بعده؛ على أنْ يُناقشه مع صحابته ويقرِّر الحقَّ فيه؛ وذلك لما في الأخذِ والردِّ فيه من مظنَة النزول لقضايا غير متَّفقٍ عليها بين الصحابة أو لم يكتمل البناء التربوي لبعضهم فيها بعد؛ فتكون سببًا في إحياء النزعة العصبية والخروج بالأمور عن الضبط العام.

وقد يفسرُ هذا شيئًا من تأخر الكثير من تفصيلات الشريعة إلى مراحلَ متأخِّرةٍ من حركة الأمّة في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم؛ حيث ركّزت الشريعة على بناء التصوُّر العقدي للأمّة في الكليات الكُبرى والذي انعكس إلى جمعِ الأمة في روحٍ واحدةٍ تتقلّص معها فُرص الاختلاف أو التباين؛ على عكس الكثير من تفصيلات الشريعة التي يتباين واقعُ الناس وطاقتُهم وتربيتُهم للانصياع والامتثال لها.

عاطفة الجماهير:

ذاكرة الجماهير قصيرة؛ تلتصق بآخر مؤثِّر؛ وهذه سمة من سمات التفكير الجمعي؛ وهي بالمقابل متطلِّبة تُكثر الشكاة، وسريعة التقلب في ولائها وتبعيتها؛ وهذا سِرٌّ من أسرار تمرُّدها وتقلُّبها كذلك؛ فالجماهير تحتاجُ دومًا أن تشحن ذاكرتها بالجديد المعزز لكسبها؛ سواء أكان هذا الجديدُ مصالح شخصية أو منجزات واقعية، وقد تكون منجزات وهمية يصنعها إعلامٌ خادع!

تلعب العاطفة دورًا مِحوريًا في التأثير على مزاج الجمهور؛ وغالبًا ما يكون أثرُها أبلغ من تأثير المنطق والعقل؛ وهذا ما يجعلُ من استدعاء المؤثِّرات العاطفية لُعبة المستبدِّين دومًا في خداع شعوبهم.

وإذا استحضرنا الخيارات المفتوحة في استخدام الوسائل الخسيسة في التعامل مع الجماهير عند أصحاب المشاريع السيئة؛ نظرًا لانعدام الخطوط الحمراء لديهم، والخيارات المحدودة بالمقابل عند أصحاب المشاريع النبيلة؛ نظرا للانضباط الديني والأخلاقي، فإنَّ هذا يعني أنَّ أدوات استثمار الجماهير لدى الطرف الأول أعلى وأقوى.. إلا أنَّ عاملًا من عوامل التأثير البالغ في الجماهير قد يُعدِّل الكفة قليلًا لصالح أصحاب المشروعات النبيلة؛ وهو تأثُّر الجماهير بالنموذج والقدوة، ويبقى أنَّ القدوة هنا قضيةٌ نسبيةٌ تشمل كلَّ من تمثّل ما يدعو الناس إليه؛ فَفَعل ما يقول، وضحى في سبيل ما يعتقد حقًا كان أم باطلًا.

إلا أنَّ التحدي الحقيقي الذي تفرضُه الجماهير هو الاستعداد للتنكُّر الذي تحملُه للقُدوات والرموز؛ ذلك أنَّ المناخ الجماهيري غالبًا ما يكون ملائمًا لاستنبات الشائعات؛ والقُدرةُ على ضبطِ الألسُن فيه ضعيفةٌ ومحدودة، ومع وجود الكيد الإعلامي الضخم تُصبح المَهمَّةُ أكثرَ سهولة فيُشيطَن الرُّوادُ والشُّرَفاء ومشاريع الإصلاح بكلِّ سُهولةٍ لوُجود القابليةِ النفسية لتقبُّل ذلك؛ وهذا ما يُساعدنا في فهم الكيفية التي شُوِّهت بها رموزٌ تاريخية بكلماتٍ طائشة التُقطت بالألسُن لا بالآذان.

ولاء الجمهور:

تعشق الجماهيرُ الرموز، وتخضعُ للأقوياء، وتنساقُ للمُبادر؛ وهذا يعني أن اصطفاف الجماهير أو انصياعهم لا يرتبط بالضرورة بصاحب المبدأ.. وإنَّما بصاحِب الكاريزما والنفوذ والقوة، وهو انصياعٌ فطري من حيث الأصل، ولكن قد تفسُد بعض الفطر فتنصاعُ للأقوى الذي يُمارس قوَّته وسطوته وظُلمه عليها! وهو تشويهٌ نفسيٌّ عميق ينمو لدى الشعوب التي يطولُ استعبادها؛ فتتحوّل إلى حالة شبيهة بـ «المازوخية» والتي يستمتع معها صاحبها بالعنف تجاهه بل ويستدعيه ويطلبه؛ وهو ما يُفسِّر تأبّي بعض الجماهير عن الاستجابة لدعوات التحرُّر والكرامة فتصطفُّ مع جلّادها ومُستعبدها! حيث يصعبُ عليها تفهُّم خطاب العزّة بعيدًا عمّن ألفت التذلل له!! وغالبًا ما يذهب الأحرارُ ضحايا استنقاذ حياة وكرامة الجماهير على يد الجماهير نفسها! حالُهم كحالِ أنبياء بني إسرائيل الذين قُتل كثيرٌ منهم على يد أقوامهم الذين جاؤوا لاستنقاذهم.

وهذه النفوس المريضة والتي عاشت في أكناف الذلِّ واستحسنته أوجدت ردَّة فعل سلبية عند بعض روّاد التغيير والإصلاح، جعل بعضم يقتنع بأنَّه «لو أمطرت السماء حرية.. لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات»([5])، وأنَّ «الثائر لأجل مجتمع جاهل هو شخصٌ أضرم النيران بجسده كي يُضيء الطريق لشخص ضرير!!«([6]) وهي معانٍ ينبغي أن تكون دافعة في اتجاه الجِدِّ في رفع الجهل عن الناس، وبثِّ الوعي فيهم ليتهيَّؤوا للعيش مع المعاني السامية؛ لا أن تكون دافعة نحو ترك هذه الجماهير غنيمةً باردةً لمن يستخدمُها لصالحه، فيجعلها عدوَّة نفسها!

أخلاق الجمهور:

الجماهير خيّرة فوق ما يظنه البعض! كما أنَّها شريرة أيضًا فوق ما يظنُّه البعض الآخر!! إنَّها في الحقيقية طيِّعة بيد من يُحسن فَهمها وكسبها واستثمارها؛ وهي عندئذٍ تتماهى معه لأقصى صورِ الخير أو الشر؛ فتبدو ملائكية أحيانًا؛ وشيطانية في أحيان أخرى! وهنا تكمن المفارقة حيث الاستعداد العالي للوصول لأقصى صور الفجور أو التقوى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا7فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس:7-9]، ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم5 ثم رددناه أسفل سافلين﴾ [التين:4-5]([7]) إلا أنَّ اللافت جدًا ما أشارت إليه الفيلسوفة الألمانية (حنًّا آرندت) مما أطلقت عليه مصطلح (تفاهة الشر) انتهت فيه إلى أن الناس قد تفعل أسوأ الشرور بدوافعَ تافهةٍ وليست عميقة في النفس!([8]) ممّا يعني أنَّ قابلية الجمهور للتوظيف السيء عالية حتى لو كان نظير عوض منخفض، ومن هنا برزت ظاهرة الخيانة «بتوصيفاتها العصرية المختلفة» كحالةٍ يتم الاستعانةُ بها في إجهاض المشاريع الإصلاحية، عبر أناس يتمُّ استخدامُهم لتحقيق أدوارٍ سيِّئة رغم أنهم ليسوا بالضرورة أناسًا سيئين من حيث الأصل([9]).

فالدوافع الباعثة على فعل السلوك السيئ متعددة؛ فقد تكون في غاية السوء أحيانًا؛ مما يعكس رقة دين صاحبها؛ وقد تكون في غاية التفاهة أحيانًا أخرى مما يدل على سذاجة أو ضعف عقل صاحبها.

كما قد تكون بسبب سوء التقدير لتبعات السلوك والذهول عن آثاره الكبيرة نظرًا للإغراق في مؤثرٍ ما.. يُسيطر على واقع الشخص ممّا يدلُّ على سيطرة الأوضاع الخاصة على سلوك الكثير من الناس، تمامًا كما وقع من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في سلوك «أشبه ما يكون بالخيانة العظمى» عندما كاد أن يفشي أسرارًا عسكرية بإرسال رسالة للمشركين (يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ ﷺ: يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَعجل عليَّ، إني كنتُ امرًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ -أي حَلِيفًا- وَلَمْ أكن من أنفسها، وكان مَن معك من المُهاجرين مَن لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببتُ إذا فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عندهم يدًا يحمون قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ»، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)([10]).

فتصنيف الفعل: خيانة، والجزاء المستحق: القتل، وأما الفاعل: فصحابيٌّ جليلٌ سبق فضلُه من أهل بدر، بدأت القصة مُتهماً بالخيانة وانتهت وهو مشهود له بالتزكية العظيمة من الله، أمَّا تصنيف الدافع وهو شاهدنا هنا: فهو الرحمة والشفقة على أهل بيته لا المكر والخيانة بالمسلمين.

علامة فارقة:

يظهر التمايُز بين فردٍ وآخر وبين شعبٍ وثانٍ.. عندما تُلبّى الحاجاتُ الرئيسة لهذه الشعوب، وهنا يبرُز دَور الوعي الحضاري والثقافي والأخلاقي ليكون عاملًا مؤثرًا في السلوك الجمعي، أمّا عندما يمسُّ الناسُ في احتياجاتهم الأساسية الأولية؛ فإنَّ سُلوكهم يتقاربُ إلى حدِّ التطابُق على اختلاف مشاربهم الحضارية ومستوياتهم الثقافية؛ وعندما تتوحَّدُ الاحتياجات وتندُر في نفس الوقت يشتدُّ التنافس وتعظُم الأنا، وأعظم الاحتياجات إلحاحًا على الإنسان هي احتياجاته الأولية الفسيولوجية والتي يتقارب السلوك الجمعي في سبيل تحقيقها إذا ما شعر فيها بالندرة حتى بين الفئات المتباينة في ثقافتها أو مبادئها؛ وفي المجتمعات النبيلة يكون الفقر عاملًا لظهور السلوكيات الحسنة عند الناس؛ كالإيثار والتعفُّف والكرم والصبر وغيرها، إلا أن ارتفاع حدّة الفقر والحاجة إلى مستوياتها العليا يُغيِّب كثيرًا من هذه المحاسن، فتطغى حالة من «التوحُّش» و«اللاإنسانية» لتكون الأعلى صوتًا في سلوك الإنسان! وكما أنَّ الضربة التي لا تكسر ظهرك تقوّيه؛ فإنَّ الضربة التي لا تقوّي ظهرك قد تكسره! وربما فسر ذلك جزءًا من علوِّ كعب الزكاة في الشريعة؛ واقترانها الكبير بالصلاة في كتاب الله؛ وصلابة النظام التكافلي الإسلامي الذي ضاعف من أسباب تقليل مساحة الحاجة والعَوَز قدر الإمكان.

وأخيرًا ..

تبقى جوانب فهم حركة الجماهير وتعاطيهم مع حركات الإصلاح والتغيير مجالًا بالغ الأهمية للغوص في أعماقه وإدراك أسراره؛ ففيه اختصارٌ الطريق؛ وحفظ للطاقات والجهود؛ كما إنها ترفع من مستوى الأداء لتحقيق أفضل النتائج؛ مما يخدم المقاصد الكلية للدين ويحقق المصالح الكبرى للناس. وما نحتاجه اليوم هو مزيج بين رؤية اجتماعية نفسية([11]) وبين استقراء سنني شرعي؛ مع استحضارٍ لأرقى أنموذج في الإصلاح والتغيير وهو النموذج النبوي الفريد. وصلى


([1]) كالأمثال الشعبية والعادات والأعراف والعادات التي يتلقّاها الناس بتسليم عالٍ وتمييز منخفض مهما بدت شاذّة أو خاطئة.

([2]) أخرجه أبو داود (3664)، وأحمد (8457) بمعناه، وابن ماجه (260) واللفظ له.

([3]) الحديث بطوله في صحيح مسلم عن أبي هريرة (1905)، وورد بألفاظ متقاربة في جامع الترمذي وصحيحي ابن حبان وابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([4]) يراجع بتوسع (في ظلال القرآن) سيد قطب حول الآية 246 في سورة البقرة.

([5]) تنسب إلى أفلاطون.

([6]) تنسب إلى الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.

([7]) للشيخ بسام جرار حديث مفيد حول هذا الموضوع في محاضرة بعنوان (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) على منصة يوتيوب.

([8]) ينظر كتاب (إيخمان في القدس: تقرير حول تفاهة الشرّ)، لكاتبته حنا أرندت.

([9]) كالشبيحة أو البلطجية أو المرتزقة، وهم كل أجير لعملٍ شائن مقابل مصالح مادية أو معنوية.

([10]) أخرجه البخاري (4274).

([11]) صدرت عدة مؤلفات في فهم السلوك الجمعي أو ما يمكن تسميته بعلم نفس الجماهير؛ وقد يكون الفرنسي غوستاف لوبون من أشهر من كتب في ذلك؛ حيث قدَّم العديد من المؤلفات التي اهتمت بدراسة الحضارات بشكل عام؛ ككتاب “حضارة الهند”، و”حضارة العرب” وغيرها، وقد توّج كتبه بكتاب (الجماهير: دراسة في العقل الجمعي( وهو آخر ما كتبه رغم اشتهاره بكتابه الآخر “سيكولوجية الجماهير” (1991م) والذي أثار جدلًا انتُقد به الكتاب لاحقًا في تفسيره للعديد من الظواهر في سلوك الجماهير.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة