وقع في خاطري كيف أن كثيراً من عباد الله الخاشعين يهتم بتدبُّر المعاني العظيمة في صلاته، في قيامه وركوعه وسجوده...إلخ، ولا يلتفت إلى ما يقوله في انتقاله بين الأركان من (التكبير)؛ فانداحت الدلالات العميقة في رُوعي لهذه التكبيرة العجيبة (تكبيرة الانتقال). وما دام أن (الخشوع) هو روح الصلاة، فإني أحسب أن معرفة المعاني والدلالات للصلاة، هي: (روح الروح). لقد أطلق الفقهاء عبارة: (تكبيرة الانتقال) أو (تكبيرة النقل) على التكبير الذي يكون في التحول من ركن إلى ركن في الصلاة، عدا الانتقال من الركوع للقيام؛ فقد شُرِع فيه: (سمع الله لمن حَمِده)، ولعل حكمة ذلك أن هذا القيام القصير إنما هو إكمال لما بدأه المصلي من القيام قبل الركوع، والذي كان أساسه سورة الحمد: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢]؛ فناسب في الإكمال بعد الركوع استجابة الحمد. إن المسلم يردد (تكبيرة النقل) في صلواته الخمس المكتوبة تسعاً وثمانين مرة يومياً عدا تكبيرة الإحرام، وقد سميت بذلك للتفريق بينها وبين (تكبيرة الإحرام) التي تكون في ابتداء الصلاة؛ فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة وتَرْكها مبطل للصلاة (ولو ناسياً)، بينما تكبيرة الانتقال واجبة على أرجح الأقوال، كما هو عند الحنابلة، وإن كان الجمهور يرون استحبابها. وكل ذلك يجعلنا نتساءل: لماذا اختار الله التكبير في النقل بدلاً من التسبيح أو الحمد أو التهليل؟ وهل نحتاج في الانتقال إلى ذِكْر أصلاً؟ ولعلِّي أقف هنا مع عشر دلالات تربوية:
1 - ملء الفراغ: حياة المسلم ليس فيها فراغ عبثي؛ فما بالك إذا كان في ذات العبادة؟ {فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧ - ٨]؛ فحتى الوقت الذي يُعَدُّ بالثواني أو أقل في الانتقال بين الركن والركن (بين السجود والجلوس) و (بين القيام والركوع)...إلخ، حتى هذا الوقت الضئيل لا بد أن يُملأ بالطاعة والعبادة؛ وإن كان هو في عبادة. حتى قال بعض العلماء: إنه يُستحَب إطالة التكبير بالمد بمقدار وقت الانتقال لئلا يخلو جزء من الذكر. ومقصودهم: مدُّ اللام في لفظ الجلالة (الله)، ولو زاد عن حد المد الطبيعي فلا بأس به، أو أُدخِل فيه ما يسمى في علم (المقامات) بـ (القرار) أو (الجواب)؛ فلا بأس به أيضاً والأمر في ذلك واسع، لكن نحذِّر من مدِّ (أكبر) إلى (أكبار) أو مدِّ الألف في بداية اللفظين؛ فإنها تُحيل المعنى، وإن كانت لا تبطل صلاة من لم يقصد إحالة المعنى. إنه درس رباني للحفاظ على أوقاتنا المهدرة وأزمنتنا المضاعة خارج الصلاة؛ فيا لله كم مرت علينا من لحظات، بل ساعات وأيام، طارت منا سدى!
2 - الاقتران بين الحركة والكلام: تأمَّل كيف أن القول ها هنا جاء مقترناً بالعمل؛ فهذا الالتصاق جاء ليؤكد أن شريعتنا قائمة على الحركة الدائبة بالدين. إن ديننا يمقت كثرة الكلام بلا عمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٢ - ٣]. وإن من عجيب تكبيرة الانتقال أنها تكون مصاحبة وموافقة للحركة حتى إن بعض الفقهاء رأى أنه: إن قالها وهو مستقر سواء قبل انتقاله أو بعد انتقاله، فإنها لا تجزئه. ولو جزءاً منها، بل ربما بطلت صلاته. وألزموه بقولها في حال انتقاله بين الركنين. هذا وإن كان فيه نوع تعسير (والراجح أن في هذا الأمر سَعة)، إلا أنه يدل على اتفاق الفقهاء على أن محلها هو وقت الحركة للانتقال. ومن غرائب اجتهاد بعض الأئمة الجهلة - أعني: في إمامتهم في الصلاة - تأخيرهم التكبير حتى يدخلوا في الركن التالي؛ حرصاً منهم على حماية صلاة المأمومين من المسابقة للإمام، ثم هم لا يخشون على صلاته!
3 - الاستعانة والاستقواء: والمقصود ههنا هو الاستعانة بذكر الله من (التكبير) على حركة الانتقال، وذلك أن السكوت وقت الانتقال قد يُضعِف الحركة، ولكن صوت (التكبير) يبعث حيوية وقوة في الحركة: ألم ترَ أن كثيراً من العُجَّز إذا أرادوا القيام من قعود طويل قالوا بصوت: (بسم الله) استعانة بهذا اللفظ على الحركة، بل حتى لاعبو الرياضات القتالية إذا أرادوا استجماع قوَّتهم صاحوا بصوت يثير اندفاعاً لحـركتهم... لا شـك أن التفـاعل بين (التكبير) و (الانتقال) يساعد النفس المؤمنة في خفة الحركة العبادية، وهو نوع من الاستقواء بالذكر على العبادة. كما أن من أسرار التكبير أن يشعر المصلي أنه يأوي إلى ركن شديد، ويستعين بـ (الكبير) الذي قهر كل شيء بكبريائه وعظمته؛ فلا يركن إلى سواه، ولا يستعين إلا به؛ وما الدين إلا عبادة واستعانة: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥]، كما أن الاستعانة بالصبر لا تكتمل إلا بالاستعانة بروح الصلاة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: ٥٤].
4 - الاستحضار والاستحياء: إن في النوايا خفايا وأسراراً، و(تكبيرة الانتقال) تحيي استحضار الوقوف بين يدي الكبير الجبار، حين تأخذ المصلي الوساوسُ وتهيم به الأفكار؛ فيقوم بالقلب الحياء من غفلته عن ذكر القهار. ولذلك ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي للمصلي استحضار قَصْد الذكر حين (تكبيرة النقل) حتى لا يظن ظانٌّ أنها ليست من عبادة الأذكار، بل هي كالتشهد والتسبيح والاستغفار. ومن نوى أن (تكبيرة الانتقال) لإعلام المأمومين من خلفه فقط دون قَصْد الذكر، لم تجزئه عند جمهور علماء الأمصار. ومَنْ تدبَّر لفظ (التكبير) علم بشاعة الغفلة والذهول بتوافه النسيان، وهو يهتف باسم الله الأكبر، وقد قال الإمام ابن القيم: (إن العبد إذا وقف بين يدي الله - عز وجل - وقد علم أن لا شيء أكبر منه وتحقَّق قلبُه ذلك، وأُشرِبَه سِرُّه، استحيا من الله ومَنَعه وقاره وكبرياؤه أن ينشغل قلبه بغيره؛ وما لم يستحضر هذا المعنى فهو واقف بين يديه بجسمه).
5 - التعظيم: وأي شيء أعظم من لفظة: (الله أكبر) التي كان يرددها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد مرتفَعاً أو جبلاً، في إشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إلى استشعار عظمة الله عند رؤية عظيم في الدنيا، بل إن التكبير (مشروع في المواضع الكبار؛ لكثرة الجَمْع أو لعظمة الفعل أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة) كما قال الإمام ابن تيمية. إنها عبارة العظمة والكبرياء التي تبتدئ باسم الله الأعظم (الله) بما في هذه اللفظة من التفخيم للاَّم الممتدة، ثم لاحِظ معي نبع هذا الاسم من أقصى الجوف (الألف)، ثم هو يملأ الفم ليسير مسرعاً إلى طرف اللسان (اللام)، ثم ارتداده بقوة إلى أقصى الجوف مرة أخرى (الهاء)؛ إنه شيء عجيب والله! حين تجلجل تلك الفخـامة في كل أرجـاء المخـارج الصوتية؛ وإذا اقترن هذا الاسم الجليل (الله) بلفظة الصفة (أكبر)، فإنك تشعر أن (همـزة القطـع) قد قطعـت عنك التفكير فيما سوى (الله) لينتظر ذهنك استنطاق الصفة، ثم لتفاجئ النفس بضخامة الصفة (أكبر) بما فيها من شِدة (الكاف) السـاكنة الـمدوِّية، ثــم إقفالهـــا بـ (راء) الفخامة المتكررة، حامـلةً معها صـوت الرنين الضـارب في أعماق النفس. ثم يحار العقل: أكبر من ماذا؟ ماذا بعد (أفعل التفضيل)؟ أين المجـرور بـ (من)؟ لماذا حُـذِف؟ ويأتي الجـواب ببســاطة: لأن لله الكبرياء المطلق الذي لا ينازعه شيء فيه، وما هو الشيء الذي يستحق أن يوضع بعد (أفعل التفضيل) ولو كان (كل شيء)؟ ألم ترَ أن السيفَ ينقصُ قَدْرهُ إذا قيل: إن السيفَ أَمْضَى مِن العصا ومن حيث المعنى؛ فإن (الكبرياء) أكمل من (العظمة)؛ ولذلك لا يصح للمصلي أن يقول: (الله أعظم) بدلاً من (الله أكبر) خلافاً للأحناف؛ فيصبح التكبير في مجمله في غاية العظمة بقوة لَفْظه وجَرْسه، ورِفْعة معناه ودلالته. وهذا ما يفسر خوف أعداء الله في المعارك من سماع هذه العبارة؛ حتى ولو لم يفهموا معناها. إنها تربية للنفس على معرفة قَدْر الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: ٧٦]؛ فكل الأفكار والمفاهيم الساذجة ينبغي أن تتصاغر أمام المصلي (المكبِّر) في الصلاة، وهو تعظيم لقَدْر الصلاة أيضاً؛ فالله أكبر وأعلى وأجلُّ من تضييع الصلاة بملهيات الدنيا.
6 - طَرْد الشيطان: كم يحرص الشيطان وتتحرك ألويته لإضاعة روح الصلاة؛ حتى لا يُكتَب للمرء إلا جزء منها بقَدْر ما عقل، ويأتي (التكبير) أثناء الصلاة ليكون أحد أقوى الأسلحة لدحر الشيطان ووسوسته. ألم يعلِّمنا الأمين - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان ينفر حين سماع الأذان؛ فالتكبير هو مقدمة الأذان وهو أُسُّ ندائه. فإذا ما سمع الشيطان: (الله أكبر) هرب بعيداً عن المصلي، بل يتصاغر ويتحاقر حتى تنطفئ وسوسته؛ فإن كبرياء الرب - عز وجل - يقمع الشيطان وفِعْله. ولكن كل ذلك لا يحصل إلا إذا نطق المصلي التكبير وهو يفقه معناه، وهو قاصد لمبتغاه. أما إذا سيطر الشيطان عليه حتى لم يعد يُحسِن استخدام سلاحه، بل هو يحمله بلا فقه ولا دراية، فقل: على الصلاة العفاء، لا روح فيها ولا حياة، وكان أحق أن يُصلَّى على هذه الصلاة صلاة الميت.
7 - التجدد والتغيير: إن (تكبيرة الانتقال) تنقلنا من حال إلى حال، ومن عبادة الله بالقيام في الصلاة، إلى عبادته بالركوع ، ثم السجود والجلوس... إلخ. بل إنك تلحظ أن صلاة أصحاب الأديان الفاسدة تقتصر على حركة أو حركتين؛ فبعضهم يصلي وهو قائم فقط، وبعضهم وهو جالس، وبعضهم وهو ساجد، وبعض الديانات الفاسدة، صلاتهم بالكلام فقط. أما هذا التنوع في حركات الانتقال فلا يوجد إلا في شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -. إن (تكبيرة الانتقال) تدفع المسلم في صلاته إلى تغيير حركة عبادته في الصلاة؛ ليعيش في روضة من الحركة الدائبة، وفي جو من التجدد الدائم. وهذا التنوع داخل عبادة (الصلاة) يعطينا انطباعاً مهماً بأن هذا الدين يطلب منا أن نعبد الله بطرق مشروعة شتى، وأن لا نقتصر على نمط واحد، حتى لا يصاب (العابد) بالملل؛ «فإن اللـه لا يمـل حتى تملُّوا»[1]، ولذلـك ينبغـي للمسلم أن ينـوِّع في حيـاته وسائل التقرب لـربه، وذلك - بالطبع - وَفْق ما جاء مرغَّباً به في شريعتنا.
8 - الفاصل الذهني: هذا (التكبير) أيضاً يضع فاصلاً ذهنياً ومساحة زمنية للسباحة في ذِكْر آخر. ولو افترضنا أن هذه الانتقالات في الأذكار كانت بدون فاصل (التكبير) فإننا سنلاحظ تداخل الأذكار بعضها في بعض، وقد يختلط على المصلي، فيقول الذكر الخاص بالسجود في جلوسه، وهكذا... فهذا التكبير الفاصل بينها يضع حدّاً لانتهاء الذكر القَبْلي؛ أي: قبل التكبير، وابتداء الذكر البعدي؛ أي: بعد التكبير ومع أن (تكبيرة الانتقال) هي ذِكْر بحد ذاتها إلا أنها تصبح مثل (اللازمة) التي تقطع وتبدأ.
9 - الاستعداد: تكون (تكبيرة النقل) كأداة للتنبيه لما يليها؛ فتُشعِر المصلي بأهمية الاستعداد لما هو آتٍ، وأنه باستطاعته أن يستمر في صلاته ويقوِّي صِلَته بربه، فـ (الله أكبر) تعطي اندفاعة نفسية للمواصلة والتهيؤ، كما يستخدمها المجاهد في سبيل الله في ساح الوغى؛ فيشعر بنشوة تعتريه للثبات والاستعداد والاستمداد من رب السماء. أما إذا كان المصلون في جماعة، فقد اتفق العلماء على أن الإمام يجهر بالتكبير ولو كانت الصلاة سرية، وشذ فيه الخلاف، وأنكر الصحابة على بعض بني أمية الذين تركوا الجهر بالتكبير؛ لأن تكبير الإمام ههنا فيه استدعاء لحركة المأمومين بالاستعداد للانتقال: «فإذا كبَّر فكبِّروا، ولا تكبِّروا حتى يكبِّر»[2] في متابعة دقيقة وانتظام عجيب لا تجد مثله في الدنيا. بل أجاز الإسلام أيضاً (المسمِّع)، وهو الذي يرفع صوته بالتكبير بعد تكبير الإمام إذا لم يسمعوا؛ حتى يستعد المأمومون جميعاً للانتقال في لحظة واحدة، وقد أسهمت (مكبرات الصوت) في زمننا في تغطية هذه المهمة. فيا لله! لو أن الإمام لم يُشْرَع له الجهر بالتكبير، فكيف سيكون الخبط والمناوشة في الصلاة؟
10 - التفاؤل: إن في التكبير معنى الرفعة والنصر والعلو والتمكين، ومن عجيب التكبير أن فيه تفاؤلاً بتحقق الهداية التي طلبها المصلي بقوله: «اهدنا الصراط المستقيم» وقد قال الله في آيتين بالكتاب: «لتكبروا الله على ما هداكم»، وهما وإن كانتا في الصيام والحج، إلا أن في ذلك سِراً عظيماً يدل على أن التكبير مُعِين على الهداية. كما أن المصلي حين يردد (تكبيرة الانتقال) يشعر بمعية الله الكبير؛ فمِمَّ يخاف؟ فالله - سبحانه - أكبر من كل شيء ذاتاً وقَدْراً وعزة وجلالة... هذا المعنى الذي يصبٌّ في نفسه قضية الثقة بالله وحُسْن الظن به؛ فلا يرى لما هو صغير أن يكون عقبة في حياته، ولا يخاف من مستقبل قد أوهمه التفكير المادي بظلمته. فالله أكبر من أن يتركه سدىً وقد تشبث بعلائق وعمود الدين، بالصلاة لرب العالمين. والله المستعان...
[1] أخرجه أحمد في مسنده. [2] أخرجه مسلم.
إضافة تعليق