فداء محمود الشوبكي

من وجوه كمال الشريعة الإسلامية حماية حقوق الإنسان، ومنها: حق الأمن بأنواعه المختلفة، فالأمن والطمأنينة من الغايات النبيلة التي يحرص الإسلام عليها، وعلى رأسها الأمن الفكري المرتبط بجوانب الأمن الأخرى، ففي تحقيقه صلاح لجميع جوانب الحياة، ونمو وازدهار للمجتمع، وفي الاعتداء عليه فساد للحياة وإفساد للمجتمع، مع ما فيه من مخالفة للأمر الإلهي الذي يستوجب المساءلة.

والأخلاق المستمَدة من الدين تنظم سلوك الفرد والجماعة، وتنمي الضمير الفردي والجماعي، ولكن المدنية المتغيرة تؤثر في النمو الديني والأخلاقي للناس، وتسبب لهم الاضطراب والقلق؛ لذا كان لابد من معالجة تأثيراتها، ومن أنسب الأساليب المتبعة لتحقيق الأمن الفكري أسلوب الحوار التربوي فهو أسلوب مخاطبة العقل، ومواجهة الفكر بالفكر، وتقديم نموذج راقٍ للحوار، وقد نهجه الرسول ﷺ في حياته، فحاور الناس وجادلهم بالحكمة والموعظة الحسنة، كما سيتضح من هذا المقال.

مفهوم الحوار التربوي:

يعد الحوار أحد أشكال الاتصال، وفي امتلاك الإنسان لهذا الأسلوب قدرة على إقناع السامع والتأثير عليه وكسب تأييده وثقته[1].

والحوار التربوي فن من فنون الكلام وصيغة من صيغ التواصل وأسلوب من أساليب العلم والمعرفة، ووسيلة من وسائل التبليغ والدعوة، وطريقة للتفاهم وتبادل المعارف وتقريب وجهات النظر بين الناس[2].

ومن خلال النظر في تعريفات المختصين للحوار، يمكن تعريف الحوار التربوي بأنه: محادثة بين طرفين أو أكثر بأسلوب تربوي لبحث مشكلة عالقة، أو قضية بها خلاف بين المتحاورين بهدف تعديل الأفكار غير الصحيحة أو إزالة التناقض أو زيادة اتساق الفكرة وإقناع العقل بالأفكار السليمة حيث يعرض فيها كل طرف أفكاره وحججه، ويقدم الأدلة التي توضح فكرته، وتؤيد رأيه، لينتهي الحوار بالرضا والاقتناع برأي صاحب الحجة الأقوى بعيدًا عن أي عوامل خارجية.

أهداف الحوار التربوي:

الهدف الأساس من الحوار التربوي: هداية الخلق إلى الحق، لا غلبتهم أو إلحاق الهزيمة بهم، قال الشافعي رحمه الله في ذلك: «ما ناظرتُ أحدًا قط إلا أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويُعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بَيَّنَ اللهُ الحقَّ على لساني أو لسانه»[3]، فالحوار التربوي الهادئ مفتاح القلوب وطريق للنفوس وبه تحصل الدعوة فهو يعمل على[4]:

  • إيضاح الحق، وإزهاق الباطل.
  • الرضا والقبول والاطمئنان القلبي للحق، والدافعية للالتزام به.
  • المساعدة في كشف الشبهات ودفع الفاسد من القول والرأي واستكشاف الحقائق والإيجابيات والاستفادة منها.
  • بناء قيم عليا في نفوس المتحاورين والمستمعين.

الضوابط والآداب التي يجب مراعاتها عند الحوار التربوي:

حتى يكون الحوار هادفًا بين المتحاورين ينبغي الالتزام بما يلي[5]:

  • الرحمة بالخلق والحرص على هدايتهم.
  • الحكمة والموعظة الحسنة واللين مع المخاطبين.
  • فهم طبيعة المخاطب وذكر الحجج بعيدًا عن التجريح والألفاظ النابية.
  • حسن الاستماع للطرف الآخر، فالحوار مسألة تبادل للآراء.
  • إخلاص النية لله تعالى، ودفع حب الظهور والتميز والتعالي على الأنداد عن النفس[6].
  • الالتزام بموضوع الحوار وعدم الخروج عنه.
  • تحديد المصطلحات المستخدمة في الحوار وشرح مدلولاتها جيدًا.
  • التدرج في مناقشة المسائل بحسب أهميتها.
  • تلطيف أجواء الحوار بإسداء بعض عبارات الاحترام والتقدير للطرف الآخر.
  • عدم التسرع في الإقناع لأن ذلك يجرح مشاعر الطرف الآخر.

ويمكن القول إنه لابد من الحفاظ على وحدة الموضوع والهدف، والاتفاق على المسلمات، ودقة الوثائق وعدم التناقض في الكلام، كذلك الاحترام المتبادل، وحرية الرأي وعدم المقاطعة، والأمانة والمصداقية في الحوار.

الأمن الفكري:

وردت كلمة الأمن ومشتقاتها في كثير من الآيات فقال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥].

وقال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٩].

ويقول عز وجل: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: ٨٣].

ويقول: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٨١].

فالأمن الفكري مقياس التزام الأفراد بالمنهج الوسطي وحرية الرأي في التعبير مما يحفظ سلامتهم الفكرية والاجتماعية والدينية والسياسية ويبعدهم عن مواطن التهديد. وهو من المنازل العليا في مراتب الأمن من حيث أهميته وخطورته، فتصرفات الناس تنطلق من قناعاتهم الفكرية.

أهمية الأمن الفكري:

للأمن الفكري أهمية عظيمة في حياة الفرد والمجتمع؛ فهو وسيلة المحافظة على الأمة وشخصيتها، وعنصر أساسي في تقدم الشعوب، ويحدد تصور الإنسان للحياة ووجوده فيها، فالمساس به يمس المجتمع كله، واختلاله يؤدي إلى سلب هوية الأمة. وتحقيقه لدى الفرد يؤمن تحقيقًا تلقائيًا للأمن في الجوانب الأخرى كافة[7].

والأمن الفكري يستمد جذوره من عقيدة الأمة ومسلماتها، ولا يكتب النجاح للدعوة إلا في وجوده[8]، فهو مبعث أمان الأمة وعنوان تقدمها مرهون بسلامة عقول أفرادها ونزاهة أفكارهم، وحماية لوجود الأمة وتميزها عن باقي الأمم ويتطلب حماية جميع المنازل من الاختراق قدر الإمكان[9].

ومن أهميته أنه يؤدي إلى[10]:

  • تنمية مهارات التفكير فلا يحجم العقل عن السؤال.
  • التربية على الحوار الإيجابي.
  • تنمية المجتمع فلا تنمية مجتمعية بدون أمن فكري.
  • والأمن الفكري يتعامل مع الناس من خلال مسايرتهم من غير مصادمة، ويخفف من الجريمة في المجتمع.

مراحل تحقيق الأمن الفكري:

لتحقيق الأمن الفكري لابد من توافر المراحل التالية:

  • مرحلة التعليم والبناء الفكري.
  • مرحلة الوقاية.
  • مرحلة التقويم.
  • مرحلة العلاج.

وقد استخدم الرسول ﷺ مجموعة من الأساليب لتحقيق الأمن الفكري، ونتعرض هنا لبعض الأمثلة من سيرة الحبيب لاستخدامه الحوار التربوي الهادف في المراحل المختلفة للأمن الفكري:

المرحلة الأولى: التعليم والبناء الفكري:

حرص ﷺ على تعليم المؤمنين أمور دينهم من عقائد وعبادات وأخلاق وأمور الدين وذلك من خلال حواره مع الصحابة والإجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم عن الأمور التي أشكلت عليهم والإقرار بالصواب وتصحيح الأخطاء. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول ﷺ قال: (أتدرون ما الغِيبة؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذِكرُك أخاك بما يكره)، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: (إن كان فيه فقد اغتبتَه وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه) [11].

وفي هذا الحوار أسلوب تربوي فيه مخاطبة لعقول الصحابة مما يعمل على نشر الأمن في المجتمع.

كذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه في الحديث: بينما نحن جلوس مع النبي ﷺ في المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عَقَلَه، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي ﷺ متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبي ﷺ: (قد أجبتك). فقال الرجل للنبي ﷺ: إني سائلك فمُشدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تجدْ عليَّ في نفسك. فقال: (سل عما بدا لك) فقال: أسألك بربك ورب مَن قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: (اللهم نعم). قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: (اللهم نعم). قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: (اللهم نعم). قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي ﷺ: (اللهم نعم). فقال الرجل: آمنت بما جئتَ به، وأنا رسول مَن ورائي مِن قومي، وأنا ضِمامُ بن ثَعلبَة أخو بني سعد بن بكر[12].

فأسلوب الحوار الذي قام به الرسول ﷺ جعله يغير من فكره وينقل ذلك إلى قبيلته، وبذلك نشر الحق في المجتمعات.

كما رسم الرسول ﷺ صورة رائعة في حواره مع حاطب بن أبي بلتعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وخلاصته: أن الرسول ﷺ لما أجمع المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ﷺ من الأمر في السير إليهم. ثم أعطاه امرأة -زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب-، وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشًا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسولَ الله ﷺ الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، فقال: (أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم).

فخرجا حتى أدركاها بالخَليقة[13]، خَليقةِ بني أبي أحمد فاستنزلاها، فالتمساه في رحلها، فلم يجدا فيه شيئًا.

فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك: فلما رأت الجد منه قالت: أعرِض، فأعرَض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه.

فأتى به رسولَ الله ﷺ، فدعا رسولُ الله ﷺ حاطبًا، فقال: (يا حاطب ما حملك على هذا؟).

فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكنني كنت امرءًا ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم.

فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق.

فقال رسول الله ﷺ: (وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) [14].

المرحلة الثانية: الوقاية:

وهي اتخاذ الأساليب والإجراءات العملية لحماية الفكر من الانحراف، ومن الأمثلة على ذلك ما قام به الرسول ﷺ عندما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ التوراة حيث غضب الرسول ﷺ خوفًا من المفسدة التي ستسببها، وخوفًا من اختلاط الحق بالباطل، وبذلك يتم تجنب المفاسد قبل وقوعها، فعن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبيَّ ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكُتُب، فقال: يا رسول الله، إني أصبت كتابًا حسنًا من بعض أهل الكتاب، فغضب، وقال: (أمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيًا اليوم ما وسعه إلا أن يتبعني) [15].

وقد حرص أصحاب الرسول ﷺ على حماية أنفسهم والابتعاد عن الشبهات، مخافة الانحراف الفكري، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما يقول: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في الجاهلية في شر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم)، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: (نعم وفيه دَخَن). قلت وما دخنه؟ قال: (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر). قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: (نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها). قلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ فقال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا). قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)[16] وفي هذا الحوار التربوي وقاية لما قد يصيب المجتمع من ضلال فكري، وكيفية الوقاية منه.

المرحلة الثالثة: التقويم:

وهي تعني تقويم ما يراه الإنسان من أخطاء وتصحيحها وعدم الصمت حيالها ما دام يعلم عدم صوابها. عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قسم رسول الله ﷺ قسمًا، فقلت: يا رسول الله، أعط فلانًا فإنه مؤمن، فقال النبي ﷺ: (أو مسلم) أقولها ثلاثًا، ويرددها علي ثلاثًا (أو مسلم)، ثم قال: (إني لأعطي الرجل، وغيره أحبُّ إليَّ منه، مخافة أن يكبه الله في النار)[17].

ففي الحديث حوار دار بين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والرسول ﷺ حول كونِ الرجل الذي لم يعطَ مؤمنًا، ولكن الرسول يقوم الأخطاء ويبين أن هناك فرقًا بين الإيمان والإسلام فلا نحكم على الأمور بظاهرها، وبين له سبب العطاء لغيره من المؤلفة قلوبهم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي ﷺ فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فقال النبي ﷺ: (هل لك من إبل؟) قال: نعم، قال: (فما ألوانها؟) قال: حمر قال: (هل فيها من أورَقَ؟) قال: إن فيها لَوُرقًا، قال: (فأنى أتاها ذلك؟) فقال: عسى أن يكون نزعه عرقٌ، قال: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرق)[18]. ففي هذا الحديث تصحيح مسار السائل، وذلك مما يحقق الأمن الفكري للمجتمع، حيث إن الحوار مع هذا السائل أدى إلى إبعاد الشكوك عن قلبه، والتي وجودها كان من الممكن أن يسبب خللاً أسريًا، وبالتالي تفكك المجتمع.

المرحلة الرابعة: العلاج:

وهي آخر مرحلة من مراحل تحقيق الأمن الفكري والتي تكون بعد تقويم الفرد ومحاورته للتخلص من مشاكله الفكرية، فلا يمكن تركه دون علاج، لأنه قد يسبب تهديدًا للأمن والاستقرار ونشر الفكر المنحرف إذا لم تتم معالجته. وهذا العلاج على درجات:

  • التعريض: ففي الحديث كان النبيُّ ﷺ، إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءُ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ، ولكن يقولُ: (ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا)[19]، وفي ذلك حرص الرسول ﷺ على مشاعر الناس، ويستخدم التعريض ثم ينهى أو يأمر بالواجب، فيتعلم الجميع دون أن يتأذى المسيء.
  • التوجيه المباشر: عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: كنت في حَجر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تَطيشُ في الصَّحْفَة، فقال لي: (يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)[20].
  • التوبيخ: فعن المَعرور بن سويد رحمه الله قال: رأيتُ أبا ذرٍّ رضي الله عنه وعليه حُلّةٌ، وعلى غُلامه مثلُها، فسألتُه عن ذلك، قال: فذكر أنه سَابَّ رجلاً على عهد رسول الله ﷺ، فعَيَّرهُ بأمه، قال: فأتى الرجلُ النبيَّ ﷺ، فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: (إنك امرُؤٌ فيكَ جاهليةٌ، إخوانُكم وخَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه، فليُطعِمه مما يأكل، وليُلبِسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه)[21].
  • الترغيب والترهيب: ففي الأحاديث وصف للجنة والنار، والجزاء والعقاب وفي ذلك علاجٌ للانحراف الفكري، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: (ألا أُنبِّئُكُم بأكبرِ الكبائرِ) «ثلاثًا» (الإشراكُ باللهِ وعقوقُ الوالدَيْن وشهادة الزور -أو قولُ الزُّورِ-) وكان رسول الله ﷺ متكئًا فجلس. فما زال يكررها حتَّى قلنا ليته سكت[22].

وقد حرص الرسول ﷺ على حماية الشباب فكريًا، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه. مه. فقال: (ادنه)، فدنا منه قريبًا. قال: فجلس قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم). قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم). قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم). قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبَه، وطهر قلبَه، وحصن فرجَه). قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[23]. ففي الحديث أراد الرسول ﷺ أن يقر في ذهن السائل ومن بعده قاعدة مهمة وهي «ما لا ترضاه لنفسك لا ترضاه للناس» وبذلك عالج الموضوع فكريًا دون زجر أو عقاب، بل من خلال القناعة الفكرية بسوء ما يفكرون به، وهو ما لا يقبله عاقل لنفسه أو غيره.

وإذا لم يتم معالجة الفكر بالحوار التربوي تأتي مرحلة تنفيذ العقوبة عليه لكن لابد من الحوار للتثبت قبل إقامة الحد بالإقرار والبينة ولفتح باب التوبة له.

وذلك كما حدث أنَّ ماعزَ بنَ مالكٍ أتَى النبيَّ ﷺ، فقالَ لَهُ: (لعلكَ قبَّلتَ أو غَمزتَ أو نظرتَ) قالَ لا. قالَ: فعلتَ كَذا وكَذا؟ لا يَكنِي. قالَ: نعم. فعند ذلك أمرَ برجمِهِ[24].

فمعرفة الأفراد المنحرفين بأن القصاص ينتظرهم يجعله رادعًا لهم قبل الإقدام على الجريمة، وبذلك يأمن كل فرد على نفسه، والمجتمع.

خلاصة القول:

لقد تم عرض جزء مهم من سيرة الرسول ﷺ، حيث استخدم أسلوبًا تربويًا مع معاصريه وهو الحوار التربوي، وهذا الأسلوب انعكس إيجابيًا على من يخاطبهم، وذلك في تعزيز الأمن الفكري لديهم، فكان لابد من مواجهة الفكر بالفكر، ولذلك كانت أمة الإسلام أمة عزيزة، تهتم بنشر الأمن في المجتمع. وقد تم عرض مجموعة الوسائل اللازمة لتحقيق الأمن الفكري من خلال ثلاث مراحل هي الوقاية والتقويم والعلاج. لذا كان من الواجب علينا:

  • العناية بجوانب الأمن المختلفة وخصوصًا الأمن الفكري.
  • التربية السليمة للأبناء التي تؤدي إلى نَشءٍ يعِي مكانتَه بين المجتمعات.
  • الاهتمام بسيرة الرسول ﷺ وبيان الأساليب المستخدمة والعلاجية لمحاربة الانحراف الفكري.

[1] ينظر: الأمن الفكري في مقررات التربية الإسلامية في المرحلة الثانوية دراسة ميدانية، سعد بن صالح العتيبي، ص (٣٧).

[2] دور منهج العلوم الشرعية في تعزيز الأمن الفكري لدى طلاب الصف الثالث الثانوي، جبير بن سليمان الحربي، ص (٥٢).

[3] حلية الأولياء، لأبي نعيم (٩/١١٨).

[4] عقائد اليهود من خلال الحوار مع النبي ﷺ، عدنان أحمد البرديني، ص (٧).

[5] الأمن في ضوء القصص القرآني دراسة قرآنية موضوعية، سامي الجدبة، ص (١٧٣).

[6] عقائد اليهود من خلال الحوار مع النبي ﷺ، عدنان أحمد البرديني، ص (٨).

[7] دور منهج العلوم الشرعية في تعزيز الأمن الفكري لدى طلاب الصف الثالث الثانوي، جبير بن سليمان الحربي، ص (٢٤، ٣١-٣٣).

[8] الأمن الفكري في الشريعة الإسلامية، تيسير رامي فارس، ص (٤١-٤٥).

[9] إسهام الإعلام التربوي في تحقيق الأمن الفكري لدى طلاب المرحلة الثانوية لمدينة مكة المكرمة من وجهة نظر مديري ووكلاء المدارس والمشرفين التربويين، زيد بن زايد الحارثي، ص (٤٨-٥٢).

[10] الأمن الفكري في مقررات التربية الإسلامية في المرحلة الثانوية دراسة ميدانية، سعد بن صالح العتيبي: ص (٦١).

[11] أخرجه مسلم (٢٥٨٩).

[12] أخرجه البخاري (٦٣).

[13] الخَليقة (بالقاف) مَنزلٌ على اثني عشر ميلاً من المدينة بينها وبين ديار سليم، معجم البلدان، للحموي (٢/٣٨٧).

[14] سيرة ابن هشام (٢/٣٩٨-٣٩٩)، وأكثر جُمل هذا الحديث في الصحيحين، ينظر: صحيح البخاري (٣٠٠٧، ٣٩٨٣، ٤٢٧٤، ٤٨٩٠) وصحيح مسلم (٢٤٩٤)، وفي الصحيحين تسمية المكان بـ (روضة خاخ).

[15] أخرجه أحمد (١٥١٥٦) وابن أبي شيبة (٢٦٤٢١)، وإسناده ضعيف، فيه مجالد بن سعيد، لين الحديث وقد اختلط.

[16] أخرجه البخاري (٣٦٠٦)، ومسلم (١٨٤٧).

[17] أخرجه مسلم (١٥٠).

[18] أخرجه البخاري (٦٨٤٧) ومسلم (١٥٠٠).

[19] أخرجه أبو داود (٤٧٨٨).

[20] أخرجه مسلم (٢٠٢٢).

[21] أخرجه مسلم (١٦٦١).

[22] أخرجه مسلم (٨٧).

[23] أخرجه أحمد (٢٢٢١١).

[24] أخرجه البخاري (٦٨٢٤).

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة