الاجتماع هو لقاء بين شخصين أو أكثر يدور حول أفكار وعواطف متبادلة، وله هدف محدد يسعى الأفراد المجتمعون إلى تحقيقه. وبمقدار تحقق الهدف أو عدم تحققه يحكم بنجاح أو إخفاق ذلك الاجتماع مهما بلغت الإمكانات المادية في التحضير والإعداد له.
الاجتماع
هو لقاء بين شخصين أو أكثر يدور حول أفكار وعواطف متبادلة، وله هدف محدد يسعى
الأفراد المجتمعون إلى تحقيقه. وبمقدار تحقق الهدف أو عدم تحققه يحكم بنجاح أو
إخفاق ذلك الاجتماع مهما بلغت الإمكانات المادية في التحضير والإعداد له.
كلما
قرأت أحداث بيعة العقبة الثانية، كانت تستوقفني أسئلة ملحة تبحث عن إجابة واضحة:
هل من المعقول أن ينتهي ذلك الاجتماع قبيل الفجر بالرغم من كل ما دار فيه من
محاورات وأحاديث، وبوجود ذلك العدد الضخم من المجتمعين؟ هل كان هناك سر في تحديد
اللقاء أوسط أيام التشريق بالذات؟ هل من حكمة في تحديد خروج الأنصار بعد منتصف
الليل؟ ما هي الفائدة النظامية من جراء اختياره -صلى الله عليه وسلم- للنقباء
الاثني عشر؟ وغيرها من الأسئلة.
إن
الواجب علينا ونحن نخوض في مجريات هذه الأحداث أن نعلم أنه بالرغم من كونه اجتماعًا
بشريًا محضًا ضم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والوفد المسلم من حجاج المدينة؛ إلا
أن رعاية الله وتوفيقه كانت من أكبر عوامل النجاح.. ومن دلائل تلك الرعاية والمعية
الربانية حفظ الاجتماع من مبدئه إلى منتهاه أن يظل بعيدًا عن أنظار أهل منى من
جهة، وعن أنظار قريش من جهة أخرى. غير أني لن أتعرض إلا لتلك التدابير البشرية
التي أسهمت في إنجاح ذلك الاجتماع فحسب.
عوامل
نجاح هذا الاجتماع الكبير:
مما
يدل على نجاح ذلك الاجتماع الدعوي:
1-
حسن الإعداد له والتحضير لفعالياته؛ ما يؤكد أنه ليس وليد اللحظة، وأنه لم تحركه
العاطفة فحسب. ولقد استغرق الإعداد لهذا اللقاء المهم طيلة ثلاث سنوات؛ بدءًا من
العام الحادي عشر من البعثة؛ حين التقى النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة من الأنصار
في موسم الحج كلهم من الخزرج أثناء عرضه نفسه -صلى الله عليه وسلم- على قبائل
العرب، فلما عرض عليهم الإسلام ودعاهم إلى عبادة الله أسلموا جميعًا، وبايعوا
وانصرفوا دعاة إلى قومهم.. وواعدهم -عليه الصلاة والسلام- العام القادم لينظر ما
صنعوا في قومهم.
فلما
كان العام الثاني عشر للبعثة أقبل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسة من الستة
الأول وسبعة آخرون: عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وتم في هذا اللقاء المصغر عقد
(بيعة النساء) التي كان من نتائجها إرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمصعب وابن أم
مكتوم إلى المدينة.
كل
ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- صابر مترقب؛ بالرغم مما كان يعصف بالمسلمين
المضطهدين في مكة، وما كان ينكل بهم. وفي العام الثالث عشر من البعثة وقبيل موسم
الحج بقليل رجع مصعب إلى مكة بعد أداء المهمة التي كلف بها والقيام بها خير قيام[1]
ليخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعزم الأنصار على مبايعته في الموسم، وكان
مصعب -رضي الله عنه- هو المنسق بين الطرفين.
أقبل
في هذا الموسم عدد كبير من مسلمي المدينة ضمن حجاج كثيرين من مشركي المدينة، وكان
زعيمهم جميعًا البراء بن معرور. وبلغ عدد المسلمين في هذا الوفد سبعين رجلاً
وامرأتين، منهم اثنا عشر نقيبًا: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. وجرت بينهم
وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- اتصالات سرية أدت إلى الاتفاق على تحديد زمان
ومكان اللقاء؛ لإبرام اتفاق من أعظم وأهم الاتفاقيات في تاريخ الإسلام[2].
2-
سرعة الاجتماع العجيبة في تحقيق الهدف الذي عقد من أجله؛ فإذا علمنا أنه بعد أقل
من شهر واحد فقط من عقد هذا الاجتماع بدأت وفود الصحابة بالهجرة العامة من مكة إلى
المدينة؛ لأن المصلحة باتت متحققة في الهجرة إليها، والمفسدة متحققة في المكوث تحت
أذى المشركين.. مع أن الهجرة أصلاً لم تكن محض اجتهاد؛ بل رأى النبي -صلى الله
عليه وسلم- دار هجرته في المنام بصفة تجمع بين المدينة وغيرها، ثم أري الصفة
المختصة بالمدينة فتعينت؛ فإذا علمنا كل ذلك تبين لنا مدى النجاح الذي حققه هذا
الاجتماع.
3-
الإعداد الأولي للاجتماع كان ناجحًا لتركيزه على ثلاثة أركان رئيسة هي:
أولاً:
جودة اختيار المكان.
ثانيًا:
الدقة في تحديد زمان اللقاء.
ثالثًا:
ضبط العدد[3].
أحداث
البيعة كما يرويها كعب بن مالك -رضي الله عنه-:
قال
كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن
معرور، سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء لنا: يا
هؤلاء! إني قد رأيت رأيًا فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ فقلنا: وما ذاك؟
قال: رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر يعني الكعبة وأن أصلي إليها. فقلنا: والله
ما بلغنا أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه.
فقال: إني لمصل إليها. فقلنا له: لكنا لا نفعل.
فكنا
إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا
عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك. فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق
بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه
والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال:
فخرجنا نسأل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك،
فلقينا رجلاً من أهل مكة فسألناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هل
تعرفانه؟ فقلنا: لا. قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم وقد كنا
نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرًا قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل
الجالس مع العباس.
فدخلنا
المسجد فإذا العباس جالس، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس معه، فسلمنا ثم
جلسنا إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا
أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك؛ فوالله ما
أنسى قول رسول الله: الشاعر؟ قلت: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله! إني
خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر،
فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا
رسول الله؟ قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلى معنا إلى الشام.
ثم
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة من أوسط أيام
التشريق. فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا،
أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا
أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن
تكون حطبًا للنار غدًا. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد الرسول -صلى الله
عليه وسلم- إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا.
فنمنا
تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب
عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب،
وأسماء بنت عمرو بن عدي.
قال:
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى جاءنا ومعه عمه
العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أنه يحضر أمر ابن أخيه
ويتوثق له. فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج -وكانت
العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: الخزرج، خزرجها وأوسها- إن محمدًا منا حيث علمتم،
وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في
بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له
بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم
مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه
وبلده. فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فتكلم
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم
قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم! فأخذ البراء بن
معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع من أزرنا،
فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرًا عن
كابر! فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أبو الهيثم بن
التيهان، فقال: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -يعني اليهود-
فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم
مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!
وقد
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا
ليكونوا على قومهم بما فيهم)، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا: تسعة من الخزرج،
وثلاثة من الأوس. وكان أول من ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراء
بن معرور، ثم بايع بعد القوم.
فلما
بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرخ الشيطان من رأس العقبة أنفذ صوت سمعته
قط: (يا أهل الجباجب، هل لكم من مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم؟!)، فقال
رسول الله: (هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب)! ثم قال رسول الله: انفضوا إلى رحالكم.
فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل
منى غدًا بأسيافنا! فقال رسول الله: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم) .
فرجعنا
إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، فقالوا: يا
معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا،
وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب
بيننا وبينهم، منكم! فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله: ما كان من هذا
شيء، وما علمناه! وقد صدقوا، لم يعلموه. قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.
ونفر
الناس من منى، فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد
بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيبًا. فأما المنذر فأعجز القوم،
وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة
يضربونه، ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.
قال
سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع علي نفر من قريش، فيهم رجل وضيء أبيض، شعشاع
حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا. فلما دنا مني
رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي: والله ما عندهم بعد هذا من خير! فوالله
إني لفي أيديهم يسحبونني؛ إذ أوى لي رجل ممن كان معهم فقال: ويحك! أما بينك وبين
أحد من قريش جوار ولا عهد؟ قلت: بلى، والله، لقد كنت أُجِير لجبير بن مطعم بن عدي
بن نوفل بن عبد مناف تجاره، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي؛ وللحارث بن حرب بن
أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك
وبينهما.
قال:
ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلاً
من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ويهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارًا. قالا: ومن
هو؟ قال: سعد بن عبادة. قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن
يظلموا ببلده! قال: فخلصا سعدًا من أيديهم، فانطلق[4].
من
هذا السرد الحي لأحداث الاجتماع تتضح لنا عناصر مهمة من عوامل النجاح فيه؛ فاللقاء
إذن كان له طابع خاص لا يتناسب وطبيعة منى المكتظة بالحجاج من مشركي العرب ومشركي
مكة الذين يتابعون تحركات النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ يسيرون معه حيثما سار،
ويردون على قوله أمام الوفود التي يدعوها للإسلام. كما أن الهدف بحد ذاته يتطلب
قدرًا من السرية لئلا يعلم به أولئك المشركون الذين يملأون السهل والجبل.
وخلاصة
الأمر أن هذا النجاح يمكن أن يعود برمته بعد رعاية الله إلى القيادة الفذة التي
رتبت مثل هذا اللقاء وأسهمت في إنجاحه، ثم إلى المعايير الخاصة للقاء من حيث
طبيعته وزمانه ومكانه، ثم إلى الأفراد المشاركين من مسلمي المدينة؛ الذين تقيدوا
بالحضور والانصراف حسب الموعد المحدد للقاء، وضبطوا العدد لئلا يدخل فيه من ليس من
أهله؛ بسرية عجيبة تذهل العقول. وفيما يلي أتناول هذه الجوانب المهمة من الاجتماع
التي أدت إلى نجاحه:
أولاً:
المهارة القيادية الفذة:
الناظر
في أقواله وأفعاله -صلى الله عليه وسلم- طيلة هذا اللقاء تتحدد له سمات القائد
الناجح الذي يعول عليه في مهمة عقد الاجتماعات الدعوية والقيام بها.
ومن
هذه السمات البارزة ما يلي:
1-
متابعته لتطورات الأحداث في المدينة بعد اللقاء الأول في العام الحادي عشر من
البعثة.
2-
توليه المباشر لمهمة التنسيق لهذا الاجتماع مع مصعب بن عمير –رضي الله عنه- قبيل
موسم الحج بوقت كاف.
3-
تحديد الهدف المطلوب ووضوحه قبل عقد الاجتماع.
4-
حكمته الفذة -صلى الله عليه وسلم- في ترتيب لقاءاته الدعوية وتقديم الأهم فالأهم..
سواء أكان ذلك في الطرح والدعوة، أم في تهيئة جو اللقاء من حيث الزمان والمكان
المناسبين.
5-
توقيت حضوره -صلى الله عليه وسلم- للقاء ينطوي على حنكة لا تخفى على الخبراء في
هذا المجال؛ فلم يكن هو أول الحضور، بل تأخر عنهم حتى يكتمل عدهم، ويتوافى عددهم.
فكانوا يقدمون فردًا تلو الآخر، كما قال جابر: (فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا
عليه من رجل ورجلين... إلخ). حتى إذا اكتمل عددهم أقبل عليهم -صلى الله عليه وسلم-
وفيه ما فيه من ترقب النفوس الظامئة للقياه والأنس به -صلى الله عليه وسلم-، وفيه
ما فيه كذلك من إحلال الهيبة والهدوء في المكان الذي اكتظ بثلاثة وسبعين فردًا،
كما أن الحالة الأمنية تفرض تأخره إلى ذلك الوقت لانتشار عيون قريش هنا وهناك. فلو
أن عينا من هذه العيون اطلع في أول الأمر لم يرعه كونهم حجاج يثرب يتسامرون أو
يقضون أمرًا خاصًا بهم في هذه الليالي المقمرة!
6-
سياق القصة يظهر انتظار الجميع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا بعضهم، أي أن
العدد اكتمل حضوره تمامًا، كما قال كعب: (فاجتمعنا ننتظر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب... إلخ). ولذا كان تحديد بدء
فعاليات الاجتماع منطقيًا؛ لاكتمال العدد وحضور القائد؛ بخلاف ما لو تأخر البعض عن
الموعد المحدد أو حضروا بعد مجيء القائد وأحدثوا خلخلة في الجدول المعد للاجتماع؛
بكثرة الكلام واللغط والبحث عن مكان مناسب للقعود... وغيرها من منغصات اللقاء.
7-
ظل -صلى الله عليه وسلم- بعد حضوره صامتًا يسمع ويعي كل ما يحدث في المكان؛ فلم
يبدأ هو بالحديث؛ وإنما تحدث بلسانه عمه العباس، وبين لهم مكانة النبي -صلى الله
عليه وسلم- في قومه. وهو صامت تعلوه الهيبة والوقار والسكينة.
8-
ينبغي على القائد تحين الفرص المناسبة للحديث؛ ويتحقق ذلك عندما يكون الحاضرون في
أشد الشوق إلى سماع القائد وانتظار توجيهاته. ولقد كان اختياره -صلى الله عليه
وسلم- للحديث صائبًا وسديدًا؛ حيث كان أشد ما كان الأنصار شوقًا إليه، ولو تقدم عن
تلك اللحظة لم يكن ليقع ذلك الموقع العظيم في نفوسهم؛ حتى إنهم من شدة حماسهم
وتشوقهم لسماع رسول الله كما في رواية كعب قالوا: (فقلنا له أي العباس: قد سمعنا
ما قلت، فتكلم يا رسول الله! فخذ لنفسك ولربك ما أحببت).
9-
لم يدفعه -صلى الله عليه وسلم- هذا الحماس منهم المتمثل في طلبهم منه الحديث وأخذ
ما شاء منهم إلى نسيان الثوابت التي يدعو إليها دائمًا، ولم يجره أسلوب الكلام
الذي تأدبوا به؛ وإنما بدأ بمقدمة مهمة كان يبدأ بها دائمًا، وكرر ما كان يدعو
إليه. قال جابر: (فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه،
وتلا شيئًا من القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام...). ثوابت أساسية لا تزول
مهما كان العدد ومهما بلغت العدة والنصرة. والدعاة في هذه الأيام أحوج ما يكونون
لمثل هذه البدايات ولمثل هذا الأدب مع الله تعالى في الدعوة.
ثم
بعد هذه المقدمة قال -صلى الله عليه وسلم- باختصار شديد: (أبايعكم على أن تمنعوني
مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم). وهذا هو ما يسمى بتحديد الهدف من الاجتماع. وهو
هنا واضح للجميع وضوح الشمس. وبمقدرة القائد الفذ –صلى الله عليه وسلم- أن يحكم
بجدوى هذا الاجتماع من عدمه من جراء الوفاء بهذا الشرط وتحقيق هذا الهدف. وكل
الروايات التي سردت أحداث البيعة تحوم حول هذه العبارة؛ وقد لا تزيد أكثر الروايات
صحة عن أسطر قليلة من مطالبه وشروطه -صلى الله عليه وسلم- فوق هذا الشرط.
10-
لم يكن حديثه -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا بعد هذا الكلام، وما كانت مواقفه بعدها
إلا أن تبسم رضًا مما يسمع من كلام الأنصار بعضهم لبعض، أو ردًا على سؤال كما حدث
من سؤال أبي الهيثم بن التيهان -صلى الله عليه وسلم-، فرد عليه بألفاظ تعبر عن
المعنى بأوجز الكلام وأبلغه. واقتصر الحديث بعد ذلك على ما كان توجيهًا وإرشادًا
للأصلح في اللقاء وتسهيلاً لبلوغ الهدف المنشود بأقصر الوسائل وأحسن الطرق، كما
فعل من طلب إخراج النقباء بعد أن حدد عددهم ومهمتهم بقوله: (أخرجوا إليّ منكم اثني
عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم). وهذا التحديد منه قطع لسؤال وارد حتمًا
عن العدد إن لم يذكر، وعن المهمة إن لم تحدد... والموعد المحدد للقاء لا يحتمل
كثيرًا من الأخذ والرد.
11-
وكما لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا اللقاء ليبدأ من قبل الأفراد أنفسهم
وتحكم هو في مبدئه عندما حضر مع عمه العباس. وكان الحديث خلال الاجتماع كله يدور
تحت سمعه وبصره: يقر ويعلق ويوجه.. كان هو المتحكم كذلك بموعد الانتهاء ولم يتركه
للظروف أو لموافقة الحال؛ ولذا تجده -صلى الله عليه وسلم- يقرر موعد الانتهاء بصرامة
واضحة: (انفضوا إلى رحالكم)؛ لأن مصلحة العودة في الوقت المناسب تفوق المصلحة
المترتبة من جراء الحديث الودي الذي كان يدور في المجلس؛ بل إن المفسدة متحققة إذا
طلع الفجر ولم ينفض المجلس. ولذا فإنه لما أراد بعضهم أن يطيل أمد الجلوس ويأنس
بالحديث مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستمتع بطول هذا اللقاء وهو العباس بن
عبادة بن نضلة بقوله: (والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا
بأسيافنا)، وهذا الطلب منه كان بعد الأمر بالانصراف حتمًا، فما كان رده -صلى الله
عليه وسلم- إلا مقتضبًا ومكررًا التأكيد على ضرورة الانصراف: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا
إلى رحالكم). وهذا فن عظيم من فنون القيادة فيه الضبط والحنكة والحزم.
12-
تشبع هذا اللقاء بجرعات كبيرة من الطاقة والحماس في نفوس المجتمعين له، ويعبر عن
ذلك ألفاظهم من أول اللقاء إلى منتهاه. ففيه المنعة، والنصرة، والقوة، والحرب،
والحلقة، وتقطيع الحبال. وفيه: الدم، والهدم، والحرب، والسلم، وفيه: الميل للعدو،
والقتل، والإخراج من البلد، ومفارقة العرب، وقتل الخيار، وعض السيوف. ولا شك أن
القائد بحاجة في هذا الموقف إلى ضبط هذا الحماس للخروج بنتائج إيجابية وأكثر
واقعية من اللقاء؛ وعدم الاسترسال في هذا الحماس الذي ربما وصل إلى مرحلة يفقد
فيها القائد زمام المبادرة حين يسقط الأمر من يده.
لقد
عالج -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك معالجة سريعة ناجحة؛ فهو في آخر اللقاء يقول:
(لم نؤمر بهذا)، وكأنه يريد أن يذكرهم بأنه لا يفعل هذا الأمر من قبل نفسه، وإنما
ينتظر ما يأمره به ربه؛ فحري بهم أن يكونوا كذلك: أي لا يحدثون حدثًا حتى يؤمروا
به، ولا يتصرفون من قبل أنفسهم حتى يؤذن لهم. وفيه إقرار لشجاعتهم؛ لأنه لم يردها
ولم يوجه اللوم عليها. وفي هذا ما فيه من الحفاظ على المشاعر وإبقاء جذوة الحماس
وتهذيبه.
ثانيًا:
جودة اختيار مكان الاجتماع:
لاختيار
المكان المناسب أبلغ الأثر في نجاح الاجتماعات واللقاءات الدعوية؛ ولذا كانت
أهميته في فترة الدعوة السرية بمكة واضحة؛ حيث كان الاختيار المناسب لمكان اللقاء
برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ لأنه كان عزبًا فلا
يشق عليه ذلك، كما كان قريبًا من الكعبة؛ ولأن الأرقم لم يكن في ذلك الوقت معروفًا
كغيره من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما. وفي العقبة كان لاختيار المكان أبلغ الأثر
في إنجاح هذا الاجتماع التاريخي العظيم، وبيان ذلك على النحو الآتي:
1-
كان مكان اللقاء في الشّعب من منى، والشعب هو: ما انفرج بين جبلين أي إن المكان
كان محاطًا من ثلاث جهات أو من جهتين على الأقل. قال كعب: (فاجتمعنا في (الشعب)
ننتظر رسول الله).
2-
حُدّد لهم مكان اللقاء مسبقًا، فخرجوا جميعًا صوبه مباشرة، بخلاف ما لو كان اللقاء
في مكان آخر ثم كان التحرك منه للمكان المقصود بهذا العدد الضخم!
3-
كان لدى جميع الأفراد علم تام بالمكان؛ فلم يكن ثَمّ داع لتحركهم جماعات صوبه.
4-
لم يكن المكان المرشح للقاء بعيدًا عنهم؛ لأن ذلك ربما أدى إلى كشف اللقاء برمته
عن التحرك إليه أو أثناء الرجوع منه؛ بل كان قريبًا منهم بجانب الجمرات التي يجاورونها.
وتدرك أهمية ذلك عندما نعلم أن الانطلاق للمكان ذاته لا ريبة فيه؛ لأن الرجل
والرجلين ربما ذهبا هناك لقضاء الحاجة.. وهو أمر متعارف عليه ما دام في حدود منى.
5-
وعلى الرغم من وجود شعاب أخرى في منى جهة مزدلفة وفي جميع الجهات الأخرى إلا أن
اختيار شعب العقبة ينم على مقدرة فائقة في حسن الاختيار؛ ذلك أنه كان الأقرب
للأفراد من جهة منى، والأقرب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جهة مكة؛ فهو
بعيد عن أنظار الحجاج من أهل منى، كما أنه الأبعد عن أنظار المشركين من قريش؛ أضف
إلى ذلك المجازفة التي ربما أفسدت الاجتماع لو كان هذا الشِّعب من جهة المزدلفة
مثلًا!
ثالثًا:
الدقة في تحديد الزمان:
يراعى
قبل عقد الاجتماع التقيد بموعد البدء، وكذلك بزمن الانتهاء، وبالمدة التي يستغرقها
الاجتماع. وعند اختلال أحد هذه الأقسام الثلاثة من الزمن أو الغفلة عنها يحدث
الخلل في بنية الاجتماع وتذهب قيمته.
وفي
هذا الاجتماع الكبير روعي بعناية قضية (زمن اللقاء) من حيث: توقيت ليلة اللقاء،
والدقة في تحديد الساعة التي يبدأ فيها التحرك إلى المكان، وتوقيت زمن اللقاء
وتحديد المدة التي يستغرقها، وأخيرًا توقيت موعد الانتهاء وساعة الانصراف.
وبيان
ذلك على النحو الآتي:
1-
بالنسبة لتوقيت اليوم أو الليلة: اختير الليل بدلًا من النهار وذلك لهدوئه ولستره،
ولما يكون فيه من سكون، وما يصحبه من بيات الحجاج بمنى وكذلك أهل مكة.
2-
في قول كعب رضي الله عنه: (فواعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العقبة أوسط
أيام التشريق...)، يَرِدُ تساؤلٌ مهم وهو: هل من حكمة في اختيار هذا اليوم من أيام
التشريق؟ بمعنى: لو كان موعد اللقاء قبل موسم الحج أي في التاسع والعشرين أو
الثلاثين من ذي القعدة مثلًا؛ هل سيغير ذلك من الأمر شيئًا؟ والواقع أن هذا
الاختيار الحكيم كان الأنسب؛ إذ ينم عن مقدرته القيادية الفذة؛ ويمكننا تلمّس بعض
الحِكَم من جرّاء اختيار هذا اليوم؛ ومنها:
-
أن أوسط أيام التشريق يعني عدم وجود فترة زمنية طويلة بعده ربما ساعدت في كشف هذا
اللقاء واتخاذ التدابير الوقائية ضده قبل استفحال أمره، فلا فرصة إذن لدخول هذا
الاحتمال بعد اختيار هذه الليلة؛ لأنه ليس بعدها إلا الرحيل، بخلاف ما لو كان
الموعد قبل ذلك.
-
أن أيام منى ولياليها وبخاصة الليالي الأخيرة تكون أدعى للراحة والتفرغ من الأشغال
المادية والنفسية؛ نظرًا لانتهاء أعمال الحج؛ ولو كان الموعد قبل ذلك لكانت الهمم
مشغولة بما سيدهمها من أعمال الحج الكثيرة، ولربما أنستها هذه الأعمال كثيرًا من
البنود الرئيسة التي كانت في الاجتماع لو كان عقد قبل اليوم الثامن يوم التروية،
وكذلك الحال لو كان اللقاء أثناء الحج، أي في اليوم الثامن أو التاسع أو العاشر..
أضف إلى ذلك صعوبة التنسيق بزمان أو مكان معين لتنقّل الحجاج لزامًا من هنا إلى
هناك كلهم؛ فلا جدوى في الواقع من الانزواء عنهم في المكان ذاته والزمان نفسه لعقد
مثل هذه البيعة التي تتطلب جوًا خاصًا.
ومما
يظهر الدقة في تحديد هذه الليلة أنه حتى لو كشف الأمر فيما بعدُ فلا يمكن للمشركين
سواء بمكة أو المدينة فعل شيء؛ لأن الفترة المتبقية قصيرة بين عقد الاجتماع وبين
موعد الرحيل، فلا يكفي لتحديد هوية الأفراد جميعًا أو تحديد هدف الاجتماع؛ وهذا ما
تم بالفعل عندما تنطست* قريش الخبر وتأكد لها عقد ذلك الاجتماع؛ إذ كان الركب قد
تجهّز للرحيل، ولم يتمكن كفار مكة إلا من اللحاق برجلين، أما أحدهما وهو المنذر بن
عمرو فقد أعجزهم، وأما الآخر وهو سعد بن عبادة فأسروه عندهم ثم تم إطلاقه بخلاف ما
لو كان موعد اللقاء قبل أعمال الحج أو أثناءه.
كان
اختيار هذه الليلة دقيقًا كذلك؛ لأنها كانت من الليالي المقمرة التي يمكن فيها
رؤية الوجوه، ومعرفة ملامحها، ويسهل على الناظر فيها معرفة ردود الأفعال من وجوه
الحاضرين، ومعرفة أسنان الحضور وهيئاتهم.. حتى قال العباس في تلك الليلة: (هؤلاء
قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث)، بعدما نظر في وجوه الوفد؛ وما كان له ليستنتج ذلك
لولا وضوح الرؤية في تلك الليلة المقمرة. أضف إلى هذه المسوغات أن هذا الوفد
المبارك القادم من المدينة جاء أصلًا لرؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- والنظر إلى
وجهه الشريف.
3-
إذا كان اختيار ليلة اللقاء قد تم بهذه الدقة العجيبة؛ فالأعجب منها هو توقيت
الساعة المحددة للانطلاق نحو المكان في هذه الليلة؛ وبخاصة إذا علمنا عدم وجود أي
وسائل معينة على هذا التحديد الدقيق كالساعات المعاصرة!! إن هذا الأمر بحق بعيدًا
عن كل تهويل فوق ما يتصوره كبار القادة والمخططين لو أنهم اطلعوا على مجريات
أحداثه؛ إذ كيف يُتَصوّر خروج هذا العدد الضخم في وقت واحد من هذه الليلة حتى إنه
لم يتأخر منهم أحد، ولا توجد لديهم في ذلك الوقت أي وسيلة مادية تساعدهم على ذلك؟!
لقد
كان المقرر عندهم أن يبدؤوا بالخروج من خيامهم كل بمفرده بعد مضي ثلث الليل
(بالضبط) كما قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث
الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلّل تسلل القطا
مستخفين.
ولك
أن تقف قليلًا مع قوله: (نمنا) ليتأكد أن التوقيت المحدد للانطلاق كان بعد هجوع
أهل منى وفي غفلة منهم، وهذا يعني ذهاب قدر من الليل.
4-
بلغ التنظيم للاجتماع قمته حين قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمه العباس من مكة
بعد اكتمال العدد (تمامًا) لتبدأ عندها فعاليات الاجتماع. وهذا درس في التخطيط
والترتيب حري بالدعاة أن يفيدوا منه عند تنظيم لقاءاتهم واجتماعاتهم التربوية.
5-
تم تحديد المدة التي يستغرقها الاجتماع بدقة، ولم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم-
الأمر حتى يضيق بهم الوقت مع انبلاج الصبح، بل إن في السياق ما يفيد أنهم وصلوا
قبل الفجر بزمن كاف حتى إنهم تمكنوا من النوم. وهذا يدل على أن المدة التي
استغرقها الاجتماع لم تكن طويلة؛ فلم يحبسهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
اللقاء حتى يضيق بهم الوقت، ولم يكثر عليهم من الكلام خلاله؛ بل لقد كان هو أقلهم
كلامًا بعدما تأكد له نجاح الاجتماع بعد عقد البيعة.. كل ذلك منه -صلى الله عليه
وسلم- مراعاة للظرف المحيط بهم. ولما أمرهم في ختام الاجتماع بالانصراف كرر ذلك
عليهم مرارًا. قال كعب: (فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا).
ومما
ساعد في ضبط المدة المحددة لزمن اللقاء اتخاذه -صلى الله عليه وسلم- قرار اختيار
النقباء لتسهل البيعة عن طريقهم، وكذا تهدئته للوضع من حوله، فكان يرد باختصار
ويوجه ويحذر ويثني خيرًا.
رابعًا:
ضبط عدد الأفراد المشاركين في الاجتماع، وطريقة تنقّلهم:
كثيرًا
ما تخفق الاجتماعات الدعوية بسبب الفوضى الناجمة من عدم تحديد أفراد تلك
الاجتماعات أو ضبطها أو مراعاة خصوصيتها. ولو لم يكن من فوائد لتحديد عدد أفراد
الاجتماع إلا ضمان استمراره وتحقيق أهدافه لكان كافيًا للاهتمام به؛ فكيف إذا كانت
الفوائد أكثر من هذا، وضرورة هذا التحديد تظهر بعد إخفاق العديد من اللقاءات
الدعوية التي لم يراع فيها هذا الجانب؟!
ويُعَد
تصنيف الاجتماعات من حيث العدد في هذا العصر ضروريًا لتعلقه بالهدف الذي يُعقد من
أجله الاجتماع؛ فهناك: الاجتماع الثنائي، والثلاثي، وهناك المتوسط والكبير وغيرها
من التصنيفات. كل ذلك زيادة في التأكيد على خصوصية الاجتماعات.
وفي
هذا الاجتماع العظيم لم يكن المجال مفتوحًا ليشارك فيه كل أحد، بل لقد ضبط العدد
من قبل أن يغادروا المدينة، وكلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير
لينسق هذا الأمر، وكان قد توجه قبلهم إلى مكة ليخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
بالأمر، ثم كانت له اتصالاته الخاصة بهم في منى وبخاصة مع أميرهم: البراء بن
معرور.
وعمومًا:
تميّز جانب ضبط أفراد اللقاء والتنسيق لطريقة تنقّلهم من وإلى مكان الاجتماع بشيء
كثير من الدقة، والحنكة الإدارية. وبيان ذلك فيما يلي:
1-
كانت الطريقة المعمول بها في تنظيم حضور الأعضاء إلى هذا الاجتماع تقتضي أن يأتوا
أرسالًا كل بمفرده أو مع رفيقه، ولم يكن هناك مجال لدخول (أو) هذه؛ فقد حُدّدَ
مسبقًا أن يبيت كل اثنين معًا، وكل ثلاثة معًا في خيمة يشاركون فيها بقية المشركين
من وفد حجاج المدينة. ثم في الليلة المحددة وفي الساعة المعينة وفي لحظة واحدة من
الليل تخرج كل رفقة معًا إلى المكان المحدد لعقد الاجتماع.
2-
كما تميّزت طريق تحركهم بالعجب؛ فقد كانت الكيفية التي يخرجون بها أعجب؛ لأن
الخروج من مجمع الناس بمنى من مواقع متفرقة وبأسلوب خفي يتطلب قدرًا من الخفة
والهدوء، ولذا شبه كعب خروج الواحد منهم متسللًا في جنح الظلام بخروج (طير القطا)
من وكره، وهو نوع من الطير يتميز بالخفة والهدوء في الحركة.
3-
لك أن تعجب من حضور العدد جميعه اثنان وسبعون عضوًا بينهم امرأتان لا يزيدون ولا
ينقصون: لم يعتذر عن الحضور منهم أحد، ولم يستغرق في النوم منهم أحد، ولم يصل أحد
منهم متأخرًا عن الموعد المحدد للقاء ليربك الجميع في ذلك المكان، كما لم يُفشِ أحد
منهم خبر هذا الاجتماع لأحد، ولم يتجرأ أحد منهم على إحضار شخص آخر لم يكن مقررًا
من ضمن ذلك العدد المحدود.
4-
إذا أدركت مدى الدقة في مجيء هؤلاء الأفراد من منى إلى مكان الاجتماع، وكيف خرج
هذا العدد الهائل كل من مكانه دون أن يعلم بهم أحد من أهل منى؛ فالأمر الذي يدعو
حقًا للتأمل هو: كيف عادوا إلى مضاجعهم؟ لأن الخروج الفردي أسهل؛ لكن العودة
الجماعية أشق وأدعى لزيادة الحذر! لكنهم بالفعل عادوا ولم يدرِ عنهم أحد حتى من
رفاقهم المشركين الذين كانوا معهم في الخيام، والذين حلفوا الأيمان المغلّظة في
اليوم التالي: ما حدث البارحة شيء! ومعلوم أن منى في تلك الليالي كانت محاطة بتجار
من أهل مكة وغيرهم، وفيها أماكن مكشوفة للأنظار. وهذا النجاح ما كان ليتم لولا
توفيق الله وتأييده، ثم الدقة في الترتيب والتحضير للقاء، والدقة في إنهائه في
الوقت المحدد له.
حدث
مفاجئ:
في
خضم سياق هذا الحدث العجيب، وفي غمرة هذا الإعداد والترتيب للاجتماع حدث أمر
(طارئ) كاد أن يقلب الموازين ويؤدي إلى إخفاق اللقاء برمته، تمثل ذلك في إدخال عضو
غريب في اللقاء المحدد من غير أن يكون مرتبًا له من قبل ليكون من ضمن المشاركين.
ذلك العضو هو (عبد الله بن عمرو بن حرام) أبو جابر الذي كان مشركًا وقت إيذانه
بخبر اللقاء. إن تصرفًا كهذا كفيل بنسف الاجتماع لو كان في حقيقة أمره حدثًا مفاجئًا
أو طارئًا كما يظن بعضهم عند القراءة العابرة لأحداث القصة في قول كعب: (فلما
فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها،
ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا،
أخذناه معنا...) إلى آخر كلامه.
ولربما
بدر لذهن القارئ تساؤلات ملحة: ألا يرد في هذا الحدث الخطير احتمال إخبار عبد الله
بن عمرو بن حرام بقية القوم أو امتناعه عن الحضور مكيدة، ثم مباغتة القوم في
مكانهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمساعدة بقية أهل منى وأهل مكة من
المشركين؟ ثم ما جدوى إدخال عضو جديد وغريب ما دام العدد متفقًا عليه مسبقًا ولا
علم للقائد بهذا التصرف الفردي الطارئ؟!
إن
تصرفًا كهذا كما ذكرت تصرف خطير يؤدي إلى تعطيل اللقاء لو كان مفاجئًا أو طارئًا،
لكن شيئًا من ذلك لم يكن، فهو ليس تصرفًا فرديًا لا علم للقيادة به، ثم إن الدعوة
لم تكن لفرد عادي مجهول الحال عند من قام بإخباره؛ ويؤكد ذلك عدة أمور:
أ-
أن كعب بن مالك أعاد الأفعال كلها إلى صيغة الجماعة، ولم ينسب ذلك لفرد واحد بعينه
في قوله: (واعدنا رسول الله.. ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام.. أخذناه معنا..
وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه.. حتى قوله: وأخبرناه
بميعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إيانا العقبة)، وهذا يدل أن هناك إعدادًا مسبقًا
لهذا الأمر مع أمير القوم البراء بن معرور الذي تولى هو وصفوة القوم مهمة الحديث
مع عبد الله بن عمرو بن حرام حتى أقنعوه.
ب-
أنهم لم يخبروه مباشرة بالميعاد ولا بالساعة المحددة، وإنما أخروا عنه ذلك حتى
استوثقوا من إسلامه.
ج-
لقد كان عندهم علم مسبق أو غلبة ظن بشخصية عبد الله بن حرام؛ ولهذا وقع عليه
الاختيار وحده من بين وفد المشركين كله. ولعلمهم أنه حتى لو لم يوافق على الحضور
معهم فإنهم لمكانته عندهم يأمنونه، تمامًا كما أمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
عمه العباس الذي كان لا يزال مشركًا وقتها.
د-
لا بد من معرفة توقيت إخباره بالموعد؛ لأن هذا له دور كبير. ومن السياق يتبين لنا
أنهم اختاروا الوقت المناسب لإخباره حتى يضعوه أمام الأمر الواقع الذي لا يمكنه
معه التحرك لفعل أي شيء؛ لقد أخبروه في ليلة اللقاء ذاتها.
هـ-
من أسلوب العرض الذي وُجّه له يتبين لنا مكانة عبد الله بن عمرو بن حرام في قومه
وحرصهم عليه، وشفقتهم أن يفوته هذا الخير. ولهذا قالوا له بلسان المشفق الناصح:
(يا أبا جابر! إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن
تكون حطبًا للنار غدًا). وأنهم كرهوا ردة فعله بعد اللقاء لو أنه علمه فيما بعد
لمكانته الرفيعة في قومه، ولما تميز به من رأي راجح بينهم. ويؤكد ذلك أنهم جعلوه
نقيبًا من ضمن النقباء الاثني عشر بعدما أسلم وانضم معهم وشهد البيعة.
كل
ذلك يؤكد لنا أن أمر هذا الاجتماع سار وفق المعايير المحددة له، ولم تكن في أي
حلقة من حلقاته فرصة لحدوث أمر طارئ أو مرتجل من قِبَلِ الأفراد أنفسهم.
ولأهمية هذه البيعة، ولما ترتب عليها من نتائج قريبة وبعيدة فقد كان للمبايعين فيها وفي التي قبلها فضل لا يكاد يقل عما لأهل بدر والهجرتين، وبيعة الرضوان، من شرف وفضل. رضي الله عن الصحابة أجمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1)
انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله أحمد، ص248،
والسيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم العمري (1/198).
(2)
السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص249.
(3)
وهي أركان الاجتماع الثلاثة التي لا يخلو كتاب معاصر في فن إدارة الاجتماعات من
ذكرها.
(4)
سيرة ابن هشام (1/439-448) بإسناد حسن، وقد صححه ابن حبان كما في فتح الباري
(7/221)، وأخرجه أحمد في مسنده (3/460). انظر السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/201).
(*)
تنطّست: تجسّست.
إضافة تعليق