في
ثمانينيات القرن الماضي كان يعرض في التليفزيون المصري برنامج بعنوان (حياتي)، كان
يعرض في بداية كل حلقة مشكلة اجتماعية بصورة درامية (ربع ساعة تقريبا)، ثم تستضيف مقدمة
البرنامج ضيفا متخصصا في (القانون - علم الاجتماع - علم النفس - علوم الشريعة.. أو
ما شابه ذلك مما له تعلق بالأسرة والمجتمع وموضوع مشكلة الحلقة)، لكي يفصل في
المشكلة ويحللها ويعرض أسبابها ويضع لها الحلول المناسبة.
وبقدر
المأساوية التي كانت تخيم على البرنامج، وارتباطه في ضمائرنا كفتيان بحالة كبيرة من
الحزن، نظرا لأنه يعرض مشكلات مجتمعية واقعية مما يرِد إلى بريده من المشاهدين،
وكانت غالبيتها مشكلات مأساوية حقيقية، إلا أن النظر إليه بعين الإنصاف والعدل يرتقي
به إلى مرتبة عالية جدًا من المهنية والتخصص، وعدم الانحطاط إلى مهاوي الصراعات التي
نراها الآن من الفيمينست والذكوريست على وسائل التواصل الاجتماعي.
لم
يكن البرنامج ينساق أو يستدرج نحو وجهة نظر بعينها تتبناها مذيعته أو طاقم
الإعداد، بمعنى أنه لم يكن يتعرض للمشكلات بوجهة نظر مسبقة يسعى لفرضها على
المشاهدين، بل كان ينظر لها بحالة راقية من التجرد والموضوعية، وكان الهدف الأساسي
الذي وضعه البرنامج والضيوف هو حل المشكلة محل النظر فقط دون انحيازات مسبقة لأي
من الطرفين، أو ضغط من الرأي العام أو تشوهات الترندات المتصدرة.
أضرب
مثالا آخر لأحد عمالقة هذا الفن في مصر (فن العلاقات الاجتماعية)، والذي لم يأخذ
حقه حقيقةً من الاهتمام والمتابعة، وهو الدكتور يحيى الأحمدي أستاذ علم النفس في
عدة جامعات مصرية ودولية، رحمه الله، والذي كان له أكثر من برنامج اجتماعي على عدة
قنوات فضائية، كانت له قدرة فائقة على الغوص في عمق المشكلات واستبصارها وتوجيه المتصلات
على برنامجه. المرأة لديها عاطفة جياشة، والاتصالات النسائية التي كانت تأتيه في
برامجه كانت غالبيتها مجرد زفرات عاطفية، تنفس بها السيدات عن حالتهن الداخلية،
التي ربما سببها سوء تصرف منها في موقف معين نتج عنه رد فعل من زوجها لم يرضِها،
أو سلوك معين ترفضه من زوجها سبّب لها حالة من الغضب والانفعال، فهذه الزفرات لم
تكن مؤشرا صادقا عن أزمة حقيقية بقدر ما كانت نابعة عن جرح عاطفي سطحي سرعان ما
يمكن علاجه والتغلب عليه، فكان يسترسل في السؤال عن التفاصيل الدقيقة عن المشكلة
حتى يصل للنقطة الرئيسية، ويجعل السائلة تضع يدها فعليا على موضع الخطأ وتحاول
تصحيحه، لتتوقف المشكلة عند حد تفريغ الشحنة العاطفية ولا تتطور لما هو أبعد من
ذلك، ولا تأخذ منحى تصاعديا لا لزوم له، أو توجيه السائلة للخطأ الذي ارتكبته هي
فأدى إلى تفاقم المشكلة. وحقيقةً كنت أتابعه مشدوها من هذه القدرة الفائقة التي
رزقه الله إياها.
وهذا
مع الأسف لا يحدث في كثير من البرامج من هذه النوعية الآن، ففضلاً عن عدم المهنية
أو التخصص فإن المستشار يشرع في الإجابة
على السؤال مباشرة دون استقصاء دقيق للسائل أو السائلة عما احتفّ بالواقعة من ظروف
وملابسات كاشفة عن الأسباب والدوافع، وبالتالي يأتي الحكم غير صائب في أغلب
الأحيان، ومضللاً للسائل ومسببا لمشكلة واحتقان أكبر مما سأل عنه.
هكذا تحتاج
المشكلات الاجتماعية لتقصٍّ شديد وتتبع لأدق التفاصيل كي يكون الحكم على درجة
عالية من الدقة. وعلى المستشار قبل أن يتحدث بالجواب أن يعلم أن كلمة واحدة منه
ربما تهدم بيتا أو تقيمه، فيتحرى لها أشد التحري قبل أن يتفوه بها.
ماذا حدث إذًا؟!
في
مقابل ذلك يمكننا الآن بكل بساطة رصد حالة استعداء وخطاب تحريضي عنيف من كلا الطرفين،
طرف يتبنى وجهة النظر النسوية، وهو الغالب في الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعية، وجانب
آخر أضعف وأقل تأثيرا يتبنى وجهة النظر الذكورية، الأول يحرض على التمرد على
الأزواج بصورة فجة ووقحة، والتسرع في الحكم بضرورة الانفصال بحجج سخيفة وغير
واقعية ولا ذات سند شرعي ولا اجتماعي ولا حتى واقعي، والمبرر الوحيد لها هو
"كرامة المرأة المهدرة" أو "لم يعد يحبني كما كان من قبل" أو
"الاهتمام لا يطلب" أو "اختراق الخصوصية" أو "انتهاك
الكيان المستقل للمرأة"!!
وعلى
الجانب الآخر الذكوري نجد خطابا هازئا بالمرأة وعواطفها واحتياجاتها النفسية والعاطفية،
ويحاول جاهدا مقاومة حالة التغول النسوية بالسخرية، بل وبالسباب الصريح أحيانا.
هذا
هو الجانب الفكري للمسألة، لكن هناك جانب فني آخر يخص القنوات الفضائية والبرامج،
ويخص كذلك مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي وموقع (أسك) على وجه الخصوص، المتصدين
لهذه المسائل، وهو ما يتعلق بـ"الترند" وركوب موجات الموضوعات الرائجة،
وهو ما يعيدنا مرة أخرى للمفهوم الرأسمالي المقيت المتفشي الآن والذي يخضع كل شيء
لكونه سلعة ينبغي الترويج لها وبيعها، فالهدف الأساسي للبرامج والقنوات والمؤثرين
هو متابعة الترند لتحقيق أكبر نسبة مبيعات للدعاية والإعلانات والمشاهدات، وهذا لن
يتأتى إذا سارت الحلقات أو إجابات أسئلة المشاهدين والمشاهدات على وتيرة طبيعية
هادئة، كلا، يجب أن تكون الإجابات صادمة وغير متوقعة و"حرَّاقة"، ولو كانت غير
منطقية ولا متوافقة مع القيم والمبادئ والشريعة.
أعود وأؤكد مرة أخرى أن المعايير الإعلامية الآن باتت
معايير رأسمالية بحتة، لا تهتم بالحق أو الحقيقة أو استقرار البيوت، بقدر ما أصبح
شاغلها الأساسي هو المكسب المادي والجانب الربحي، وقد شهدت بنفسي العديد من
البرامج التي ألغى رؤساء القنوات بثها لأنها لا تحقق الهدف المالي منها، رغم كونها
على أعلى درجة من الكفاءة والمهنية والتخصص والفائدة.
هذا المبدأ الرأسمالي الذي جعل المرأة مركزا لاهتمامه، نظرا
لأنها المروّج الأول والأساسي لسلعته، سواء على شاشات الفضائيات أو على وسائل
التواصل الاجتماعي، لذا كان استهدافه لها في هذه البرامج بإحدى وسيلتين، إما
بالاهتمام الزائد بها وتدليلها ووضعها في موضع ليس لها، ومحاولة تغويلها على شريك
حياتها، أو على النقيض باستفزازها واستدراجها للتحدث عنه وعن المواد التي ينتجها
نكاية فيها وحطا من شأنها.
مستشار غير مؤتمن:
المشاهد
الآن أن كل من هب ودب صار ينصب نفسه مستشارا وحكما على الحياة الاجتماعية للناس،
ينصح هذه بالطلاق وتلك بالفراق، والثالثة بالتمرد على زوجها، والرابع بإيذاء زوجته
نفسيا وعاطفيا، في حالة من الهرج الاجتماعي لم يسبق لها مثيل.
أحد
النماذج الصارخة لهذا التفسخ الاجتماعي موقع (أسك)؛ شباب في عمر الزهور اليانعة،
كل منهم يرى نفسه جديرا باعتلاء عرش المستشار في الوقت الذي ليس له فيه رصيد علمي
ولا خبراتي يؤهله لمثل هذا المنصب الخطير. المؤهل الوحيد الذي يحمله أحد هؤلاء هو
عدد المتابعين الكبير الذي يغره للحديث، أو زخم المشاهدات المخادع.
مذيعة
برنامج اجتماعي في إحدى قنوات الطبخ!! كل رصيدها الخبراتي والعلمي أنها خارجة من
علاقة اجتماعية فاشلة، بغض النظر عمن السبب في فشل هذه العلاقة هي أم شريكها، لكن
يبدو أنها ذات جرح غير مندمل، وبناءً عليه تسوق بنات جلدتها سوقا نحو التمرد والانفصال
والاستعلاء على أزواجهن بناءً على هذه السابقة الاجتماعية الفاشلة.
عالم
شرعي في إحدى القنوات لا يكف عن السخرية والاستهزاء بالمتصلات، تتصدر مقاطعه
الساخرة نتائج البحث للتندر بها واستخدامها في ترسيخ خطاب الكراهية بين الطرفين،
شأنها شأن مقاطع المذيعة السابقة، وكأنها حرب بين عدوين لدودين يستخدم كل منهما
أسلحة محظورة لا تزيد الحرب إلا ضراوة واشتعالاً!!
لماذا
إذاً؟!
لكن،
لماذا تصدّر وانتشر هذا الخطاب الإقصائي المنحط أخلاقيًا واجتماعيا وإعلاميًا؟!
وتأخر الخطاب المتخصص العقلاني والمهني؟!
السبب
الأول والأهم هو النزعة الرأسمالية التي سيطرت على منتجي البرامج وعلى وسائل
التواصل، والتي جعلت المتابع يلهث خلف برامج الفضائح والترندات، هذه النزعة سببت مللا
من الخطاب العقلاني الحكيم، وأصابت المشاهدين ومتابعي وسائل التواصل الاجتماعي
بالسعار، فالنفس البشرية ملولة بطبعها، وحال توفر مادة إعلامية مثيرة فإنها تنجذب
لها بغض النظر عن محتواها، حتى وإن كانت رافضة لها في عمق ضميرها، وبالتالي فإن
البرامج والمواد العلمية الهادئة لم تعد تروي شبقها مهما كانت قيمة وتخصصية، لذا
يلجأ المشاهدون لعناوين مثل "شاهد قبل الحذف"، "فلان يقذف جبهة
علان"، "موقف محرج لمتصلة على الهواء"، "فضيحة عبر اتصال
هاتفي"، "يخون زوجته وترفض الانفصال عنه"... وهكذا. وهذا ما يبرر
انجذاب وهوس الناس بالترندات والموضوعات الرائجة على وسائل التواصل الاجتماعي،
وإعراضهم عن البرامج المفيدة التي هدفها الإصلاح المتجرد بحجة أنها رتيبة وبطيئة
الإيقاع ومملة.
من
جانب آخر انتشر وتصدر هذا الخطاب نظرًا لفراغ المحل ممن يملؤه بجدارة وحكمة
واستحقاق، فحينما كان كل من له دور وعليه واجب ومسؤولية قائما بدوره ومسؤولياته في
الإصلاح كانت تحل هذه المشكلات بهدوء وحكمة وتعقل، والآن بعدما تقهقر جهابذة
العلوم الاجتماعية والإصلاح إلى خلفية المشهد لم يكن بد من تصدر الضعفاء وأنصاف
وأرباع الكفاءات لتحل محل هذه القامات الفكرية الكبيرة..
وهذا
في رأيي أحد نتائج مناخ الاستبداد الذي قضى على كل شيء جميل وتخصصي ومهني في المجال
العام، وقدم إلينا بسهولة خطابات أخرى إقصائية وانتقائية لا تزيد المشكلات إلا
توهجًا. وهذا مطلب أساس من مطالب المستبدين.
المشكلات
الاجتماعية والأسرية على وجه الخصوص مشكلات حساسة جدًا، ولها القدرة على تحطيم
المجتمع بالكامل، ولكي نصل إلى حلول فاصلة لمثل هذه المشكلات علينا ألا نلجأ إلا
لمن هو على قدر المسؤولية والمستوى الخطير للمشكلة، فعلى قدر عظم المشكلة تتحدد
جهة الاختصاص؛ إلا أن المجتمع صار يستهين بمثل تلك المشكلات الخطيرة فيذهب لأي أحد
يبتغي عنده العلاج.
على
الجانب الآخر تتأكد مسؤولية الفرد الذي يضع نفسه موضع الطبيب المعالج أن ينظر إلى
نفسه نظرة مجردة وموضوعية: هل هو أهل لخوض مثل هذا البحر المتلاطم؟! وهل ما لديه
من معارف وعلوم وخبرة تؤهله ليصدر حكمًا أو يقيم وضعًا اجتماعيا معقدًا ومتشابكا
بهذه الصورة؟! أو تمكنه من أن يغوص في أعماق النفس البشرية ليعرف دوافعها
وأحوالها؟! هذا مما ينبغي أخذه بعين الاعتبار، فالإنسان على نفسه بصيرة، وكلٌّ
أدرى بحاله.
أما
عامة الناس -أمثالنا- فاجتهادهم ينبغي أن يكون في اختيار من يفتيهم أو يرشدهم،
يبذل الإنسان وسعه وطاقته في اختيار من يضع فيه ثقته، ويبني عليه حياة نفسه أو
استمرار بيته، ولا يكتفي بأن فلانا يظهر في التلفاز أو لديه الكثير من المتابعين،
بل يختار الكفء في علمه وفي خبرته، تماما كما يجتهد في اختيار الطبيب الكفء إذا
أصيب لا قدر الله بمرض خطير.
إضافة تعليق