تعاني الأمة من انكفاء القيادات الدعوية عن العمل العام، مما يفسح المجال لتصدر نماذج غير مؤهلة، سريعًا ما تسقط لتوقع الناس بخيبات الأمل. ومن مظاهر ذلك الانكفاء الانشغال بالوسائل عن الأهداف، وتفضيل العمل ضمن الدوائر الآمنة بعيدًا عن الانخراط المباشر في المجتمع، وكذلك الاستغراق في المصالح الشخصية، وكذلك استعمال لغة نخبوية بعيدة عن بساطة الطرح، مما يسهم في انحسار دائرة التأثير، والحل يكمن في حذر الداعية من الشهوات الظاهرة والخفيّة، وتحلّيه بالمرونة والواقعية
توطئة:
«النُّخب» بوصلة المجتمعات، وحُداة الطريق، الأكثر استشرافًا، والأعمق فكرًا، والأبصر بالرؤية الكلية للمشهد من زوايا تخصصهم ونخبويتهم، والرموز والقيادات الشرعية والدعوية هم جزء من ذلك ولا شك[1].
ولكن انكفاءً ما على ذواتهم يقلّص مِن حجم تأثيرهم ويسحب منهم الدور الريادي المناط بهم، فالمتابع للساحة الدعوية يلحظ ذلك في: الانكفاء عن اقتحام الميادين العامة وتبنّي الخطاب الجماهيري العام، وغالبًا ما ينتج ذلك عن أسباب عدة، ويكون له مظاهر وآثار متعددة سنحاول الوقوف عليها في هذا المقال.
اضطراب الخطاب الدعوي:
في الوقت الذي تنكفئ فيه الرموز والقيادات الشرعية والدعوية على تقديم خطاب نخبوي وخاص، تصبح الميادين العامة من نصيب أنصاف الدعاة والمثقفين الذين يطرحون خطابًا متشتتًا ومتناثرًا ومتداخلًا ينتج عنه عدم انتظام الخطاب الدعوي الجماهيري في طرح متوازن ومتسق وفق رؤية واضحة تحقق أهدافه العامة وتتناسب مع أهميته الكبرى.
كما ينتج عن ذلك الانكفاء التّدني في مضمون الخطاب الجماهيري وقيمته؛ حيث يصدر عن فئة مِن غير المتخصصين الذين خلت لهم الساحة فتصدّروا المشهد وكان لهم التأثير الأبرز، فكان خطابهم متناسبًا مع مستوى وعيهم وعمقهم واتساع أفقهم، وهو ما يفتقده الكثير منهم، حيث تغلب عليهم المهارات الخطابية والإعلامية على حساب الجوانب الفكرية والعلمية والمنهجية؛ فينحصر الخطاب الدعوي الجماهيري في موضوعات الرقائق والأدبيات والسلوكيات العامة، بعيدًا عن قضايا التصور والفكر ومعاني الدين العميقة، كمقاصد الدين الكلية، ومفهوم الجهاد غيرِ المشوّه، وقضايا الظلم والحقوق بأنواعها: الاجتماعي والسياسي، ومسائل الاعتقاد المؤصّلة لمعاني العبودية التي توقف الناس على معاني الإسلام والاستسلام لله.
ويزداد الأمر سوءًا إن اقتحموا مجالات الفتوى والفكر مع عدم توفر الأدوات اللازمة لذلك، فيزيد الخطاب اضطرابًا وانحرافًا.
خيبات المتصدِّرين:
ومِن تأثيرات هذا الابتعاد من النّخب الدعوية والشرعية كذلك وقوع الناس في خيبات متتالية نتيجة سقوط بعض تلك النماذج المتصدرة دونما استحقاق حقيقي، حيث غالبًا ما تنتهي بأولئك المتصدرين المحكّات التي يتعرضون لها إلى نتائج مؤلمة ومحبطة؛ ذلك أن إمكانياتهم والبناء الذاتي لأنفسهم لا يتكافأ مع تبعات المكان الذي تصدروا له والتحديات التي من الممكن أن يتعرضوا لها، من فتن الثراء والشهرة، أو فتن التمحيص تحت سَوط البلاء أو حتى مجرد التلويح به، وربما أسهم في تعزيز الفتنة عليهم تغريرُ الجماهير بهم من خلال وضعهم فوق منزلتهم، ومن خلال انسياقهم هم مع هذا التغرير دون وعي أو تحرز، وهي مسؤولية تقع على كواهلهم قبل عموم الناس، وذلك بسبب ضعف قدرة الأغلب من الناس على التمييز بين فئات المتصدرين، حيث يُصنَّف الجميع في خانة المتبوعين دون تفريق بين مُفتٍ وداعية وخطيب، وأديب ومفسرِ رؤى، وربما مدرب أيضًا. فميزان التقييم هو القدرة على التّصدر مع مسحة من الهدي الظاهر، والملكات الكلامية، وخطاب يزيَّن بنصوص شرعية متناثرة.
ولقد انسحبت تلك النكسات على عموم العاملين في الساحة الدعوية بما فيهم القيادات والرموز، مما أسهم في ضعف مصداقية الدعاة والعلماء لدى الشارع العام، وساعد في ذلك إعلام منحازٌ وأنظمة متربصةٌ وضعف للمحاكمة المنطقية لدى الشعوب.
مقاصدية الأهداف لا ظاهرية الوسائل:
الدوران مع الأهداف وعدم الوقوف عند حدود الوسائل هو السمة التي ينبغي أن تكون حاضرة عند الرواد والنخب في سائر أعمالهم؛ فذلك أليق بدورهم الرسالي الذي يقتضي مرونة تتجاوز جمود الوسائل.
ففي جانب الوقت والجدول الشخصي مثلًا وفي ظل واقع تسوده الفوضوية والتعامل المستهتر بالأوقات والأعمار وتشتت الأهداف وضبابيتها، يجد النخبويون والقادةُ أنفسَهم في أمس الحاجة إلى التيقظ من الانخراط أو حتى التأثر السلبي بهذا الواقع، وهو تيقظ لازم تفرضه عليهم خصوصية الأمانة المناطة بهم وقتامة المرحلة واستثنائيتها، مع تعلق الآمال بهم ليكونوا قوارب النجاة.
إلا أن حالةً مِن التحفز الزائد تصيب البعض منهم تجاه أوقاتهم والتعامل مع من حولهم، تجعلهم ضعيفي المرونة في التعاطي مع أي مستجد أو طارئ، وبالرغم من أن هذه الحالة بُنيت على معطيات صحيحة من تقدير الزمن والسعي للإنجاز وتحقيق الأهداف، إلا أنها عندما تخلو من النظرة المقاصدية تؤدي إلى شيء من الانكفاء والعزلة والانحصار في دوائر ضيقة تقلّص مساحات الأثر والتأثير.
ومما يعزز ذلك السلوك لديهم هو ذلك الإرث التاريخي الذي يتم فيه التقاط بعض الصور الحادة في تعامل السابقين مع أوقاتهم، كمن يطلب مَن يقرأ له العلم من وراء خلائه، أو مَن يطلب مِن محدثه إيقاف الشمس ليقف معه بضع دقائق، وهي صور لامعة قد تستهوي البعض إلا أنها ليست صالحة للتعميم على كامل الحياة، وإنما تصلح للاستنساخ في ظروف استثنائية، ولتحقيق أعمال جزئية محددة، وذلك لكونها مصادمة لطبيعة الإنسان وفطرته، وفيها تكليف للنفس بما لا يلزمها، وبما تستطيع تحقيق ما تريده بأقل مِن ذلك العنت. وليس في ذلك بالطبع دعوة للتراخي والتفريط والانسياق، ففي جدية الحياة والموت وسمو رسالة النخب وعظم الدور والحاجة لهم ما يفرض عليهم التنبه والتيقظ إلى مضيعات الأعمار والأوقات. ولكن كل ذلك بصورة طبيعية وروح غير مشدودة وسلوك مقاصدي يدور مع الأهداف ولا يقف عند القوالب، بل إن في حياة السادة الأوائل من الصحب الكرام رضي الله عنهم بل وحياة سيد الخلق أجمعين ﷺ ما لا يتناغم مع هذا النمط من التعاطي الحاد.
فمن لطيف ما يذكره أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه قال: (كانت الصلاةُ تقام، فيكلِّم النبيُ ﷺ الرجلَ في حاجةٍ تكونُ له، فيقومُ بينه وبين القِبلة، فما يزال قائمًا يُكلّمه، فربما رأيتُ بعضَ القوم لَيَنعس من طولِ قيام النبي ﷺ له)[2]، فهذا لون من المرونة العملية التي قد تبدو غريبة على الحس النخبوي.
كما نجد في السيرة قصصًا وَجد فيها «رئيس الدولة» وقتًا ليمشي في حاجة امرأة كان بإمكانه إرسال مَن يقضي حاجتها غيره، كما جاء في حديث أَنَسٍ أَنَّ امرأةً كان في عَقلِها شَيءٌ، فقالت: يا رسول اللهِ، إِنَّ لي إِليكَ حَاجةً، فقال: (يا أُم فلان، انظري أيَّ السِّكَكِ شِئتِ، حتى أقضيَ لكَ حاجتك) فَخَلا معها في بعض الطُّرق، حتى فَرَغَت من حاجتها[3].
كما أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يجد حرجًا من قضاء وقت في تفسير رؤى الناس ومناماتهم، فعن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله ﷺ مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم مِن رؤيا؟، قال: فيقصُّ عليه مَن شاء الله أن يقص)[4].
ولربما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه نموذجًا لـ «الهادئ المنجز» في سباقه إلى ميادين الخير بشخصية غير متحفزة تسبق إلى المعالي دون أن تتعالى على صغائر أبواب الفضل والخير، ودون أن تكون «مشدودة الوتر» في ذاتها وعلى مَن حولها، وفي سؤال مفاجئ عن أعمال بر متعددة مِن صدقة وإطعام وتشييع وزيارة مريض يكون رضي الله عنه السابق بلا منازع، فحاله كما قال الأول:
مَن لي بمثلِ مَشيِكَ المُدلَّلِ *** تمشي الهُوَينَى وتجِي في الأوَّلِ
الدوائر الآمنة:
ومما يسهم في المزيد من الانكفاء وضعف التأثير: لزومُ العمل في المساحات المريحة والآمنة في العمل الدعوي مهما كانت هامشية وغير ذاتِ أولوية؛ ذلك أن انشغال النخب والقيادات بالمفضول عن الفاضل -حتى في عمل الخير- يُعدُّ خطيئة تتناسب مع حجم الحاجة القائمة لهم وحجم الإعداد والبناء الذي بنى كل فرد نفسَه به، وهو مِن عيوب القادرين على التمام، فهم أولى الناس وأجدرهم أن تكون حركتهم في عين ما تحتاجه أمتهم منهم، بحيث ترتفع قناعتهم عن مجرد تقديم عمل نافع، فهذا يجيده غالبُ الناس إن لم يكن كلهم، وإنما دورهم سدُّ ما لا يسده غيرهم من العمل الأنفع والأفضل. وإذا لم تتيقظ النخب لصميم مسؤوليتها تجاه عموم الجماهير فإنها ستُستنفَد في مشاريع كثيرة قد ترضي ضمائرها وترفع اللوم عنها ظاهرًا، ولكنها لا تخدم المسؤولية الحقيقة المناطة بها، وقد تحتاج النخب إلى التخلي عن بعض إغراقاتها في مشاريعها العلمية أو الفكرية التفصيلية التي تشبع نهمًا علميًا أو ترفًا فكريًا ولكنها لا تنتج أثرًا عمليًا واقعيًا حاسمًا، أو لا تندرج ضمن أولويات المرحلة وواجبات الوقت، وليس هذا حال المصلحين.
ويبقى أن ما يسُوغ لزيد لا يسُوغ لعمرو، وما يليق بعموم الناس لا يليق بخاصتهم.
وكلما زادت أوضاع الناس ضيقًا زادت الحاجة إلى الخطاب الذي يلملم شيئًا مِن جراحهم ويلامس احتياجاتهم ويتكلم باسمهم، ويعي واقعَهم ويدافع عن حقوقهم مهما كانت الضريبة، وإلا كان خطابهم منعزلًا عن واقع الناس وحياتهم، وإذا كان عامة الناس ترتفع بالمواقف فإن خاصتهم تسقط بها؛ ذلك أن الاستثناء في العامة هو التميز، فلا يُنتظر منهم كلمةُ حق أو موقفُ بطولة أو تفانٍ وتعالٍ عن حظوظ الذات، فإن فعلوها كانت منقبتهم مضاعفة بعكس الخاصة الذين تبدو في حقهم واجبًا لا فضلًا، فيقبح جدًا منهم ما دون ذلك.
ولربما كان هذا من أسباب تعرض غالب الرواد من المجددين للأذى والاستهداف بمن فيهم أنبياء الله ورسله، فهم من جهة لم يحصروا أنفسهم بخطاب أخلاقي مجرد يحافظ على وجودهم في الدوائر الآمنة، وإنما خطاب إصلاحي شامل عام، ولن يكون إصلاحُ حالِ مظلومٍ إلا بكفِّ يدِ ظالم، ولا تثبيتُ معروفٍ إلا بإنكار منكر، ولا إشاعةُ أخلاق نبيلة إلا بمواجهة كل ما يخدشها، ولا تعبيدُ الناس لله إلا بتحريرهم مِن كل ما هو سواه.
الضمور المجتمعي:
ومما يعزز المزيد من ذلك الانكفاء انشغالُ النخب والقيادات الدعوية بالمستويات والدوائر العليا من الأعمال التنظيرية -إدارةً وفكرًا- بعيدًا عن الميادين المباشرة للناس، والتعاطي الصارم في ذلك، وهو ما يلقي بظلاله السيئة على القيادات حيث يصيبها بشيء من الضمور المجتمعي ويحرمها مِن روح العمل ويحصرها في أروقة الندوات والمؤتمرات ومجالس الإدارات العليا والأعمال النظرية والتنظيرية، فَيُحرَمُ الفاعلون على الأرض من التعاطي المباشر معهم. وقد يكون لذلك تبريرات تبدو منطقية من حيث تراتبية المهام والأعمال ولكن «حدية» النظرة والتطبيق تؤدي في النهاية إلى نتائج سلبية.
ففي المجال التربوي مثلًا: تفتقد المحاضن التربوية للنخب التربوية الخبيرة، حيث يكتفي الكثير منهم بتقديم رؤاهم وتدوين نظرياتهم بعيدًا عن الممارسة الميدانية المباشرة ولو جزئيًا. ويكون لذلك انعكاساته السلبية على الطرفين: المتربين الذين يُحرَمون من التعامل مع القامات التربوية التي تضرب على الجذور وتختصر عليهم الطريق، والمربين الذي يبتعدون عن الميادين فيتحولون إلى مجرد منظرين تربويين لا مربين، وربما مع طول الابتعاد عن الواقع واتساع الفجوة مع الوسط التربوي تُصاب تنظيراتهم التربوية بشيء من التآكل وعدم الدقة والواقعية، فنخسرهم منظرين كما خسرناهم مربين، وهو مثال قابل للتعميم في مجالات عدة.
ويحسن هنا أن نشير إلى أن ما قد يكون سائغًا لعموم النخب من المبالغة في الانحصار في الأدوار النظرية، فإنه ليس سائغًا للنخب والقيادات الشرعية و«الرسالية» بشكل عام، فتقدير المصلحة هو الذي ينبغي أن يكون محركًا لهم، وحضور الجانب الرسالي لديهم ينبغي أن يكون مؤثرًا في واقع تحركهم وتأثيرهم، مما يجعله أحيانًا يتجاوز بعض القواعد الصارمة التي قد تفرضها التنظيرات والنظريات الإدارية المختلفة.
وكل هذا يفرض عليهم أن يكون في جدولهم مساحة لأعمال بِرٍّ عملية، مِن تعليم علم أو دعوة ميدانية أو تدريس لكتاب الله، وغيرها من أعمال الخير المباشرة التي قد يرى بعض القيادات أنه قد تجاوزها بمراحل، وأنها من مهام المبتدئين بالدعوة، ولكن غالبًا ما يكون في ذلك مِن تأديب للنفوس ما ترجى بركته لقلوبهم وأوقاتهم.
ولقد كان مما يمتدح به العالم قديمًا أنه «رجل عامة» فقد جاء عن إسحاق الفزاري أنه قال: «ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري! فأما الأوزاعي فكان رجُلَ عامة، وأما الثوري فكان رجُلَ خاصةِ نفسِهِ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي»[5]، وهي مقارنة لا تؤخذ على إطلاقها بالطبع فلكلٍ دورُه ومجاله، ولكنها تُفهَم في مسارها وسياقها.
وغالبًا ما يؤدي الإغراق في الأدوار التنظيرية إلى بهوت إيماني يجده الشخص في نفسه، ولا يجدده إلا إقحام نفسه بما يهذبها ويجلي عنها غربة التنظير وعزلة العمل.
وفي ظل ذلك كله نستطيع فهم تلك الأدوار الابتدائية التي كان يقوم بها العُمَران رضي الله عنهما أحيانًا في حمل الطعام بأنفسهما وهما على رأس الخلافة، ومثله قيام عمر المختار بالتدريس في حِلق القرآن إلى مطلع الثورة ضد المستعمر الإيطالي، والتي كان رأسًا مبرزًا فيها.
الانكفاء على المصالح الشخصية:
يُفوت المصلحون الصادقون جزءًا من مصالحهم الخاصة مقابل مصلحة الأمة، والتي تقتضي اقترابًا والتصاقًا بها وبهمومها، كما أنها تمتزج بصورة أو بأخرى بالروح الاحتسابية التي ترصد مَواطن المعروف لتنميه ومواطن النقص لتقومه وتتحمل في سبيل ذلك تبعات كثيرة ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧] والتبعات هنا ليست محصورة بما يأتي من الحاكم فحسب، فالتعرض لألسنة العوام قد لا يقل عن التعرض لأسنّة الحكام، والشجاعة في مواجهة رغبات العامة لا تقل عن الشجاعة في مواجهة تحكمات الملأ.
إن المكتسبات والمنجزات الشخصية للنخب الدعوية، ما لم يصاحبها استثمار في طريق الإصلاح فإنها تتحول إلى مذمة على أصحابها لا منقبة لهم، فالانشغال ببناء وتحصيل الأمجاد الشخصية ليس من شأن النخب أبدًا، والعلم والشهادة والمال والمنصب والجاه ينبغي أن تكون في قاموس النخب «وسائل إصلاح» ليس إلا.
إن حاجة النخب إلى التشبع بخلق «النبل» حاجة ماسة، فكلما زاد الإنسان ارتفاعًا ارتفعت التوقعات منه واشتدت الخيبة من خذلانه، وليس له كالنبل ليستمر في طريقه، فيعزز عنده التواضع مهما علا، والمسؤولية مهما كُفي، والوفاء والعطاء رغم التنكر والجفاء، والتسامي عن حظوظ الذات، وتفويت شيء من المصلحة الخاصة لحساب المصلحة العامة، والسبق إلى حاجة من أساء له، حالهم كحال نبي الله يوسف عليه السلام يعبّر لهم الرؤيا ويرشدهم إلى ما فيه خلاصهم من الكرب والشدة، شفقة بهم وإرادة للخير لهم، وهو قابع في سجنهم ظلمًا وزورًا، فبهذا كله سبق الرواد والمجددون على مدار التاريخ.
اللغة النخبوية:
التكلف في اللغة العربية الفصحى -والتي أضحت بعيدة عن أذن فئة غير قليلة من المخاطبين- أصبح وللأسف أحد الحواجز النفسية تجاه النخب والقيادات الشرعية والدعوية، وهو أحد عوامل الانكفاء والتقلص، ومن اللافت جدًا في كلام المصطفى ﷺ جزالة المعاني مع بساطة الأسلوب، والقرآن العظيم رغم أنه كتاب تشريعٍ عام نجدُ أنه نزل بسبعة أحرف تُقرِّب الخطاب من المخاطَب.
وعودة إلى لغة النخب من المجددين والمؤثرين على مدار التاريخ يلحظ في نتاجهم أو خطابهم العلمي أو الجماهيري بساطة الطرح واللغة مع عُمق الفكرة وقوتها، مما يحقق تأثيرًا واستقطابًا لمساحات واسعة من الجمهور، وهو ما يتناسب مع طبيعة المشاريع الإصلاحية العامة، وهي مهمة شاقة ولا شك، فتبسيط المعاني العميقة دون الإخلال بلبِّها ومضمونها يصعُب على الكثير، وإذا كان التعامل مع المراحل المبكرة للطفل يحتاج إلى مواهب وإمكانيات خاصة، فإنَّ التخاطب مع عموم الناس بخطاب جماهيري قريب وعميق يحتاج إلى تبصر وتفنن ودراية قد يفتقدها الكثير من النخب رغم الحاجة الماسة لذلك.
ولقد ضغط هذا الأمر على النخب فجَعَلها تقع في مهمة شاقة تزاوج فيها بين جدية مشروعها وبساطة أسلوبها، وهو ما نجح فيه البعض وتكلف فيه البعض الآخر بصورة أثرت سلبًا على مضمون وغاية رسالتهم.
ومن زاوية تاريخية نجد أنه في مقابل الخطاب الشرعي المرسل وغير المنضبط الذي كان سائدًا في ستينات وسبعينات القرن الفائت، برز الخطاب الدعوي التأصيلي والذي اهتم بالتوثيق والإسناد ونشأت مدارسُ علميةٌ نجحت في تقديم خطابٍ منضبطٍ قلَّص مساحات الدواخل في سائر أبواب الشريعة، إلا أن استنساخ لغة الخطاب العلمية هذه في الجوانب الدعوية والاجتماعية والأخلاقية عند بعض النخب أفقد هذا الخطاب بريقه، بل وأوجد حاجزًا نفسيًا بين أصحابه وبين عموم الناس، حيث يجهل عامة الناس أدبيات هذا الخطاب العلمي المؤصل، من التخريجات الحديثية والتفريعات العلمية، في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى خطاب مؤصّل يسير مباشر، لكن دون إرهاق سمعِهم بمصطلحات متخصصة، وليس خافيًا أن مبالغة الخطاب التأصيلي في محاكمة النتاج السلوكي والرقائقي محاكمة علمية، وتناوله كما تتناول مسائل الفقه والعقيدة، قلص دائرة المستفاد منه، وأوجد صورة من صور الانكفاء القسري للبعض أو لنتاجاتهم.
وتزداد الفجوة مع ازدياد كل ما يوجد فارقًا إضافيًا بين عموم الناس وبين النخب والتي إذا ما أُضيفت إلى اللباس الخاص والمغاير عن عموم المجتمع مع سمات الهدي الظاهر -التي أصبحت للأسف غريبة على الشارع المسلم- زادت الفجوة النفسية والشعور بالمغايرة الموجودة ابتداءً.
ولقد قدمت بعض الرموز النخبوية المعاصرة مثالًا للخطاب اليسير في أسلوبه والعميق في فحواه والمنضبط في منهجيته، كالشيخ علي الطنطاوي في القضايا الاجتماعية، والشيخ محمد متولي الشعراوي في تقريب معاني القرآن، وكذلك الحال في خطاب حسن البنا وابن باديس الجماهيري والإصلاحي العام.
وتبقى القدرة على توجيه خطاب بلغة مقاربة تتناسب مع المتلقين والشرائح المختلفة مهمة شاقة ولا شك، وهي مهارة لا يملكها إلا القلة، ومَن ملكها استطاع مِن خلالها إيجاد تأثير واسع وكبير.
فتنة النخبوية:
ومما يحسن التيقُّظ له أخيرًا، التنبه لبعض الدوافع النفسية الدقيقة التي قد تُرافق الكثير من السلوكيات التي تعزِّز الشعور بالخصوصية والأهمية والتميز عن عموم الناس، وتجر إلى مزيدٍ من الانكفاء باعتبارها دلالةَ تميُّز وعلامةً فارقةً عن عموم الناس، وهي مدخل خفي يحتاج إلى مكاشفة مع الذات، فتميز النخب عن عامة الناس هو نتيجة وليس هدفًا في ذاته، وهو تميز بالنتائج، الوسائل فيها ليست مقصودة، وإلا أصبح هدفًا مدخولًا ونية فاسدة، ولقد توافرت الآثار عن سادات الأمة في رغبتهم في بذل ما لديهم دون أن ينالوا حظوة خاصة أو وضعًا استثنائيًا ومنها ما اشتهر عن الإمام الشافعي قوله: «وددتُ لو أن الخلق تعلموه، ولا ينسب إليَّ منه شيء»[6].
وفي الختام:
الدعاة والنخب منهم على وجه الخصوص ليسوا أشخاصًا عاديين، فهم ورثة الأنبياء وحملة الرسالة السماوية السامية، لا يليق بهم الركون للدعة والبحث عن مناطق الراحة ومساحات الأمان، بل الحريُّ بهم تجشُّم تبعات أمانة الكلمة، وكلَّما زادت مكانتهم زادت تبعتهم.
ولا مناص للداعية من العناية بزادِه الإيماني ورصيده العبادي ورقابته القلبية ليسلم مِن مغبة تشرب قلبه للشهوات الظاهرة والخفية التي ستعترضه في طريقه لا محالة، فاجتماع الأتباع وتجمهرهم والشهرة وذيوعها والمال ونموه ليست إلا ابتلاءات على الطريق لا تقل خطورةً عن ابتلاءات التضييق والقمع والمساومة على القيم والمبادئ.
ولا بد للداعية من رؤية واضحة وسبيل قويم وعزيمة متدفقة، يخالط بواقعية ومرونة، ويتحمل الأذى، ولا ينكفئ أو يتعالى بالمناصب والمراتب تحت أي ذريعة، ويتخفف من كل ما يحجزه عن مدعويه من الحواجز الرسمية واللغوية حتى يصلهم خطابه غضًا لينًا بينًا.
[1] «النخب» و«الرموز» و«القيادات» مصطلحات بينها خصوص وعموم، وغالبًا ما تكون استخداماتها نسبية، حيث يطلق وصف «النخب» و«الرموز» على المرجعيات التنظيرية، بينما يطلق وصف «القيادات» على المرجعيات الميدانية.
[2] أخرجه أحمد (١٢٦٤٢)، والترمذي (٥١٨)، وعبد بن حميد (١٢٤٩).
[3] أخرجه مسلم (٢٣٢٦).
[4] أخرجه البخاري (٧٠٤٧).
[5] للتوسع يراجع مقال «كان رجل عامة». د.فيصل البعداني. مجلة البيان بتاريخ ٢٠١١/٠٧/١٣م.
[6] «توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس»، لابن حجر العسقلاني، ص (١٠٦).
إضافة تعليق