فالأمة الواعية هي التي توظّف المواهب والقدرات الهائلة للإبداع لتعطيها المزيد من عوامل الرُقي والتطوّر والتقدم، فتكون فاعلة على مستوى الإنجاز في شتى المعارف والفنون.
في كل مجتمع قدرات وطاقات ومواهب، تتفاوت بين البشر، قال الله مبيّنا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). فالأمة الواعية هي التي توظّف المواهب والقدرات الهائلة للإبداع لتعطيها المزيد من عوامل الرُقي والتطوّر والتقدم، فتكون فاعلة على مستوى الإنجاز في شتى المعارف والفنون. وهي تهتم بتوظيف أصغر الطاقات وأكثرها بساطة وجزئيّة لتتطور الحياة وتترك بصمات واضحة وفعّالة في مسيرة الأمم والشعوب.
فالأمة الواعية هي التي توظّف المواهب والقدرات الهائلة للإبداع لتعطيها المزيد من عوامل الرُقي والتطوّر والتقدم، فتكون فاعلة على مستوى الإنجاز في شتى المعارف والفنون.
لقد أعلنها يوسف عليه
السلام (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، فوظّف
نفسه فيما يتقنه ويكون ماهراً فيه، ليعالج أزمة اقتصادية خانقة ستعصف بمصر، وقد
نجح في ذلك، كان يمكن لملك مصر أن يعيّن أحد أقاربه أو يختار من حاشيته كما جرت
العادة، فيوسف لا يعدو كونه خادماً، وللتو خرج من السجن، فلا يقارن بأقارب الملك
وحاشيته، لكن وعي الملك بخطورة الأمر وحاجته أن يضع الرجل المناسب في المكان
المناسب دفعه لذلك.
إن معرفة الرجال، ووضع كل
في محله المناسب له، وتكليفه بالمهمة التي يصلح لها، ليس عند أحد كما كان لدى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهنا تتجلّى عبقرية القيادة.
تأمل مثلاً عبارات المدح
والثناء التي كان يغدقها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم، ما كانت
إلا توظيفاً لمواهبهم ومراعاة لإمكاناتهم العقلية والجسدية، فلا علاقة للحسب
والنسب واللون والجنس في ذلك، فالرسول القائد عليه الصلاة والسلام يضرب لنا المثل
والقدوة في استثمار تلك الطاقات وتوظيفها أفضل توظيف، لقد كان أكثر الخلق فِراسة
في اختيار الرجل المناسب للمقام المناسب.
فلو نظرنا إلى عبارات
الإطراء التي كان يُطلقها على أصحابه، لوجدناها قد تنوعت وتعددت؛ لتتناسب مع
الإمكانات والقدرات، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم للوهلة الأولى وهم يتلقَّون
تلك الإشادة من نبيهم، فلم يتعاملوا معها على أنها نياشين وأوسمة تُعلّق على
الصدور، يفاخرون بها الأقران والأصحاب، بل أدَّوا زكاتها وتفاعلوا معها بالعمل
والجهد والبذل والعطاء.
ولنستعرض شيئاً من
عبارات المدح، وكيف تم توظيفها:
أبو بكر رضي الله عنه هو
" الصدّيق "، فلابد أن يسجّل مواقف صدق عند الملمات، وقد ظهرت تلك
المواقف عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فثبّت الناس: " مَن كان يعبد
محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت "، وفي
موقفه من حرب المرتدين: " لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله
عليه وسلم لقاتلتهم عليه ". وعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو " الفاروق
"، فعاش حياته كلها مفرقاً بين الحق والباطل. ومعاذ بن جبل رضي الله عنه هو
" أعلم الأمة بالحلال والحرام " ليتهيأ بعدها داعية ومرشداً وقاضياً إلى
اليمن التي كانت تضج آنذاك بالثقافة الفارسية، وكانت تحتاج عالماً متمكناً ليقوم
بدوره خير قيام. وبلال بن رباح رضي الله عنه هو " الأندى صوتاً "
ليستأثر بالأذان دون غيره. وخالد بن الوليد رضي الله عنه هو "سيف الله
المسلول"، فاسأل اليرموك وأخواتها: ماذا فعل خالد وسيفه ؟ وكيف كانت قيادته
للجيوش ؟
وقد نجد بعض الصحابة لا
حضور لهم في بعض الميادين إلا أنهم قد برزوا بصورة مؤثرة وفعالة في ميادين أخرى،
فحسان بن ثابت لم يكن له ظهور في ميدان الجهاد، لكنه برز كصوت إعلامي مؤثر، وظّفه
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الميدان: "فو الذي نفسي بيده لَكلامُه أشدُّ
عليهم من وقْع النبْل". وكذا أبو هريرة رضي الله عنه رواية الإسلام برع في
حفظ الأحاديث.
ونجد أحياناً أن دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قد يرتبط بتنمية موهبة ومهارة تميز بها ذاك
الصحابي، ليكون لها ذاك الأثر بعد ذلك، فقد دعا لعبدالله بن عباس رضي الله عنه،
بقوله "اللهم فقه بالدين، وعلّمه التأويل"، فكان ابن عباس بعدها حبر
الأمة وترجمان القرآن.
والتوظيف لا مجال فيه
للمجاملة على حساب مصالح الأمة، فعن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله
ألا تستعملُني ؟ قال: فضرب بيدِه على منكبي، ثم قال: " يا أبا ذر إنك ضعيف
وإنها أمانة ".
كان يمكن لعمر أن يكون مؤذِّناً،
وأن يكون معاذ قائداً للجيش، وابن الوليد مفتياً، لكن عطاءهم لن يكون بحجم عطائهم
في المجال الذي أتقنوه وبرعوا فيه، وهذا أمر مهم، فرُبَّ شخص يقدّم (80%) في مجال
يتفوق فيه، فلو سُحب إلى مجال آخر قد لا يقدّم إلا (20%) فقط.
في بلداننا ثمة طاقات مبدَّدة
ومبعثَرة، وإمكانات غير مستغلة، والأمة أحوج ما تكون إليها، قدرات لم توظَّف وترعى،
فذهبت وضعفت وأصبحت في عداد النسيان، وكثير كانت لديه العديد من المواهب والخصال
والقدرات، لكنها ضلت طريقها، لأنها لم تجد من يرعاها في مهدها ويصب عليها ماء
الحياة ليقويها، فتصبح سمة مميزة لصاحبها.
العمل للنهوض بالأمة والمضي بها نحو بناء حضاري مشرق ونهضة علمية زاهرة يحتاج إلى تكاتف الجهود وتكامل المواهب والطاقات والاستعدادات والإمكانات حتى تتكامل الأدوار وتُستثمر الطاقات بفعالية أكبر وبوقت وجهد أقل.
إضافة تعليق