ضرورة امتلاك الباحث التربوي رصيدًا عمليًّا ميدانيًّا حقيقيًّا من المشاكل، والتحديات التربوية الواقعية، التي تعيشها الشرائح العمرية، والنوعية الخاصة للمجتمع؛ من خلال ممارسته الميدانية للعمل التربوي في المواقع المختلفة..
في ظل التحديات المتجددة التي يواجهها الآباء، والمعلّمون، والمربّون بفعل ثقافة العولمة، وحرب القيم، يتطلب ذلك إعدادًا خاصًّا لمعلم ومربِّي المستقبل، ومخطط ومربِّي القيم التربوية، والذي ننشده قويًّا، وفاعلًا في الحقل التربوي، ويجب أن يمتلك بنيةً معرفيةً، وتربويةً أساسيةً لاستخلاص، واستنباط الملامح الأساسية للمنهج التربوي في بناء القيم، والذي يستند إلى ثلاث اعتبارات أساسية، هي:
أولًا: البحث في الفهم المقاصدي للحديث، والذي سيفتح للباحث التربوي آفاقًا واسعةً للفهم، والإنتاج التربوي المتجدد.
ثانيًا: التركيز على الدروس التربوية الخاصة ببناء، وتعزيز القيم.
ثالثًا: ضرورة امتلاك الباحث التربوي رصيدًا عمليًّا ميدانيًّا حقيقيًّا من المشاكل، والتحديات التربوية الواقعية، التي تعيشها الشرائح العمرية، والنوعية الخاصة للمجتمع؛ من خلال ممارسته الميدانية للعمل التربوي في المواقع المختلفة، مما لا يتوافر تمامًا للباحث المكتبي المنكبّ على الكتب، والمراجع فقط.
في هذا السياق تعالوا بنا لنستقي من النبع التربويّ النبويّ الخالص عددًا من المبادئ النبوية في التربية على القيم، والتي يمكن أن نوجزها في:
1ــ التدرج التربوي في تناول القيمة:
وذلك ما يمكن أن نستخلصه من بحثنا وفهمنا التربوي لحديثه صلى الله عليه وسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء" رواه الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بهذا اللفظ.
يؤكّد الحديث إمكانية تعلم، واكتساب، والتخلّق بكافة القيم، طالما توافرت الرغبة، والإرادة البشرية لذلك، وأن ذلك يتم عن طريق التدرج في اكتساب القيم بالتدريب، والترقّي المستمر، والمجاهدة في ممارستها بشكل صحيح، والالتزام بالعمل بها، وذلك تحتاج إلى تكلّف الأمر في بدايته؛ حتى تتدرب النفس، وتتأقلم عليها؛ حتى تصبح سلوكًا تلقائيًّا، يمارسه الفرد بكل حبٍّ، وإتقانٍ.
2ــ التحفيز الإيجابيّ، وإثارة الدافعية نحو المسؤولية الذاتية عن تربية، وتقويم، وتزكية النفس:
ونرى ذلك جليًّا في الحديث السابق؛ بحرصه في ختام الحديث على التعقيب بأهمية معرفة وفهم واستيعاب ماهيّة وأهميّة وعناصر وتطبيقات القيمة؛ مما يساعد ويعزّز الاكتساب الجيد للقيمة.
3ــ الإثارة، والتمكن التربوي على عقل، وقلب المتربي، واحتلال بؤرة شعوره، وتركيزه؛ مما يقلل من الهدر التربوي، ويجعلها تقترب من الصفر.
وذلك بتكرار استخدام أسئلة مثيرة، ومشوقة حول القيمة، كما في حديث مُحَارِب بْن دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَلَا يَتَحَاتُّ"، فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ". رواه البخاري ومسلم.
وباستخدام الصور المعبرة بإثارة خيال المتربين، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ، يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟" قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا".
4ــ بيان وتوضيح الأهمية النسبية للقيم الأساسية الحاكمة ذات الوزن النسبي الكبير:
كما في الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ)، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ)، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ فَقَالَ: (لَا).
وكما في تكرار التأكيد على عدم الغضب؛ لبيان أهمية، ومركزية قيمة الحلم في بناء الشخصية الإسلامية السوية، فيما ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مُرْنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ)، قَالَ: فَمَرَّ، أَوْ فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، قَالَ: مُرْنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ)، قَالَ: فَرَدَّدَ مِرَارًا، كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ فَيَقُولُ: (لاَ تَغْضَبْ). رواه أحمد.
5ــ استخدام وسائل تعليم وإيضاح وتدريب متنوعة تثير وتشوق المتعلم نحو تعلم القيمة، والتمسك بها:
استخدام الرسم على الأرض:
روى أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطًّا مربعًا، وخط خطًّا وسط الخط المربع، وخطوطًا إلى جنب الخط الذي وسط الخط المربع، وخط خارج من الخط المربع، قال: «هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط التي إلى جنبه: الأعراض تنهشه من كل مكان، إن أخطأه هذا، أصابه هذا، والخط المربع: الأجل المحيط به، والخط الخارج: الأمل".
الإشارة بأصابع يده الشريفة:
روى مسلم بسنده عن هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ.
الإشارة إلى الوجه والكفين:
روى أبو داود عن عائشة -رضي الله عنها-، أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليها ثياب رِقاق، فأعرض عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا، وهذا، وأشار إلى وجهه، وكفيه).
الإشارة إلى الأنف، واليدين، والرجلين:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمــرت أن أسجــد على سبعة أعـظـم، الجبهة (وأشــار بيده على أنفه) واليدين، والرجلين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب، ولا الشعر). رواه البخاري ومسلم.
6ــ الميل إلى العملية التربوية أكثر من التنظير:
كما في حديث البخاري: (... وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم).
وحديث ابن أبي الدنيا: (إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليعلمه، فإنه أبقى في الألفة، وأثبت في المودة).
7ــ توظيف وتفعيل البيئة المكانية، والزمانية، والحدث (الظرف التربوي) لخدمة بناء، وتعزيز القيم:
كما في حديث أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال: "إِنِّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثَيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً). رواه البخاري ومسلم.
8ــ تقديم، وإعلاء القدوة، والنموذج العملي التطبيقي للقيمة الواحدة:
كما في حديث البخاري: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)، في إشارة إلى إعلاء قيمة الأمانة، وبيان النموذج العملي التطبيقي لها؛ للتعلم منه، والاقتداء به.
وفي حديث أنس -رضي الله عنه- الذي رواه الترمذي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ) إشارةٌ تربويةٌ منه لمجموعةٍ من القيم، والنماذج التطبيقية العملية لها من صحابته الكرام؛ ليتعلم الناس منهم هذه القيم، ويقتدوا بطريقتهم في تطبيقها بشكل عملي صحيح.
9ــ مراعاة واقع المتربّي، وحالته الذهنية، والنفسية، والفسيولوجية الخاصة للمتربّي، واختيار الأسلوب الأنسب له:
كما جاء في حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا:
مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: "ادْنُهْ"، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا.
قَالَ:
فَجَلَسَ قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟" قَالَ: لَا -وَاللهِ-
جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لِأُمَّهَاتِهِمْ".
قَالَ:
"أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟" قَالَ: لَا -وَاللهِ- يَا رَسُولَ اللهِ،
جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ
لِبَنَاتِهِمْ".
قَالَ:
"أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟" قَالَ: لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ
فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ".
قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ
لِعَمَّتِكَ؟" قَالَ: لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا
النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ".
قَالَ:
"أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟" قَالَ: لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ
فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ".
قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ" قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ. رواه أحمد.
10ــ المتابعة التربوية، وقياس، وتقويم الأثر التربوي للقيم:
كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(مَنْ
أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا.
قَالَ: «فَمَنْ
تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا.
قَالَ:
«فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله
عنه-: أَنَا.
قَالَ: «فَمَنْ
عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا»؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) رواه البخاري ومسلم.
11ــ تخصيص وقت لازم للمعايشة التربوية العملية من المتربين.
ويظهر ذلك في التسامر مع الصحابة، ومشاركتهم الغزوات، وزيارتهم في بيوتهم، وتفقد أحوالهم، ومشاركتهم فيها.
12ــ التوظيف، والاستثمار التربوي للنماذج العملية البارزة في التمسك بقيمٍ بعينها:
كما في حديث مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ مِن هذا الفجّ رجل مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فطلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأنصارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فسلَّم، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ -رضي الله عنه-: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ، وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَبَّرَ؛ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -رضي الله عنه-: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ، وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ. رواه أحمد.
وفي الحديث إشارة منه صلى الله عليه وسلم لقيمة سلامة الصدر، قال ابن تيمية -رحمه الله- عقب الحديث كما في رسالة في أمراض القلوب وشفاؤها: "فقول عبد الله بن عمرو له: "هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق" يشير إلى خلوِّه، وسلامته من جميع أنواع الحسد.
13ــ الصبر على المتربي، ومنحه فرصة الوقت اللازم لبناء، وتعزيز،
وتمكين القيمة في نفس المتربي:
ويظهر ذلك جليًّا في حديث مُعَاوِيَة -رضي الله عنه- السابق، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ. رواه الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بهذا اللفظ.
14ــ الشمول، والتوازن في بناء القيم؛ لتشمل كافة جوانب الشخصية الإنسانية:
تتكون الشخصية الإنسانية من ستة جوانب أساسية:
الجانب العقائدي، والعبادي، والأخلاقي، والسلوكي، والوجداني، والاجتماعي، والبدني.
وجميعها تحتاج إلى تربيةٍ شاملةٍ، متوازنةٍ، قادرةٍ على إنتاج الشخصية الإسلامية
الشاملة المتوازنة؛ لذلك كان من منهجه صلى الله عليه وسلم أن هناك قيمًا خاصةً
بالجانب العقائدي، والعبادي، كقيمة الايمان، وأخرى خاصة بالجانب الأخلاقي، كالصدق،
وأخرى خاصة بالجانب الثقافي، والفكري، كحب العلم، وتحصيله، والصبر عليه، وأخرى
خاصة بالجانب العاطفي، والوجداني، كقيمة الحب في الله تعالى، وأخرى خاصة بالجانب
الاجتماعي، والنفسي، كقيمة الأخوة في الله، والتواصل، وتقديم البر للناس كافة،
وأخرى خاصة بالجانب البدني، كقيمة الاعتدال في الطعام، والقوة البدنية.
إضافة تعليق