ليس من الرشد ولا من الفأل الحسن أن نعتمد في وضع المناهج التربوية على الخبرة البشرية وحدها؛ متجاهلين المنهج النبوي في التربية عمومًا وفي تربية النشء على وجه الخصوص
الحمد
لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس من
الرشد ولا من الفأل الحسن أن نعتمد في وضع المناهج التربوية على الخبرة البشرية
وحدها؛ متجاهلين المنهج النبوي في التربية عمومًا وفي تربية النشء على وجه
الخصوص؛ ذلك لسببين بارزين؛ أولهما: أنَّنا أمَّة صاحبة منهج ورسالة أتمَّها الله
على يد نبيه صلى الله عليه وسلم، الثاني: أنَّ صلب الوظيفة الرسالية التزكية:
"يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ".
ومن ثَمَّ تبرز أهمية الاسترشاد بهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التربية، وهو ما يدفع إلى تناول مثل هذه الموضوعات على مثل هذا النحو، وإذا كانت التربية النبوية قد سلكت طريقها عبر سُبل ووسائل كثيرة - بدءاً من القدوة ومروراً بالممارسة العملية وانتهاء بالتلقين بشتى طرقه - فإنَّ التربية بالثواب والتحفيز وبالعقاب والتعزير تُعدُّ من أهم وأبرز الوسائل التي اتبعها النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وكذلك مع النساء والأطفال والغلمان.
التربية بالثواب والتحفيز وبالعقاب والتعزير تُعدُّ من أهم وأبرز الوسائل التي اتبعها النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وكذلك مع النساء والأطفال والغلمان.
ولا أعتقد أنَّ ثَمَّ حافز يؤثر كالسحر أشدَّ
من التعبير عن الرضا والعطف والإعجاب بوسائل التعبير الفطرية التلقائية كالقبلة -
مثلاً - وقد روت عائشة قالت: قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا له: أتقبلون صبيانكم؟ فقال: "نعم" قالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَوَأَمْلِكُ إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟
" متفق عليه.
ومن أعجب ما اتبعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنَّه كان يظهر اهتمامه – وهو المنوط به البلاغ الأعظم – بما يرضي الصغير، من
ذلك سؤاله للطفل الصغير عن الطائر الذي كان يلاعبه، فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا،
حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ»
متفق عليه.
ومن أهم وسائل التحفيز المدح المعتدل والإشادة
بالفضيلة، مثلما فعل مع أبي بن كعب، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ
مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟»
قَالَ: قُلْتُ: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ:
«وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» رواه مسلم
وكذلك الدعاء بالخير، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَوَضَعْتُ
لَهُ وَضُوءًا مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ: وَضَعَ لَكَ هَذَا عَبْدُ
اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: " اللهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ
التَّأْوِيلَ "رواه أحمد، ولا ريب أنّ الدعاء بالخير ينبت الخير في القلب،
ويغرس فيه أشجار الرجاء والأمل.
ولا مانع من الحافز المادِّيّ بشرط أن يكون
معتدلاً والا يكون دائماً؛ لئلا يغطي على الدوافع التي يجب أن يسند إليها جل ما
يعتمد عليه الإنسان في حركته.
أمَّا العقاب فكان يبدأ من إظهار الغضب، فقد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر الغضب في مواقف كثيرة ولا يزيد على ذلك،
وربما زاد بتعليق أو ما شابه ذلك، مثال ذلك: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ
يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ، قَالَ: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي
وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: " مَا لَكُمْ
تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
" رواه أحمد
وقد يتطور إلى ما بعد إظهار الغضب من تعمد
الإهمال، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، قالت: " ...
فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ
قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي، أَنِّي لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ،
إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: «كَيْفَ تِيكُمْ»، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ متفق عليه
وأحياناً يظهر الزجر اللطيف المصحوب بالتأفف
كما فعل مع الحسن بن عليّ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ، أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالفَارِسِيَّةِ: «كِخْ كِخْ، أَمَا تَعْرِفُ
أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» متفق عليه.
لكن إن استدعى الأمر توبيخا وتأنيباً فعل، كما
حدث مع أبي ذر، فعَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ،
وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:
إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ
فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ،
فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ
مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ
فَأَعِينُوهُمْ» متفق عليه
ولا مانع من الضرب بضوابطه، ومثال ذلك: عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ،
وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»
سنن أبي
داود (1/ 133).
لكن ينبغي ان يكون الضرب خفيفاً غير مبرح،
وألا يكون فيه تعذيب أو إهانة، كذلك لا يصح أن يكون التوبيخ هدماً للشخص، وإذا
اضطر المربي للضرب فيجب عليه أن يراعي حال الشبل الذي يربيه، فليس كل الناس يتحمل
الضرب ويتأثر به إيجاباً، وينبغي ألا يكون الضرب والتأنيب ردَّ فعل ينفس به الكبير
عن نفسه مما أصابه من الصغير، لأنَّ ذلك لا يكون مثمراً تربويا.
إنَّ كثيراً من المدارس التربوية أعرضت عن
مبدأ العقاب، ونهت بشدة عن الضرب واعتبرته أسلوباً منفيا لكرامة الإنسان، وهذه في
الحقيقة مبالغة في غير موضعها، لانَّ الإنسان يولد وفي فطرته الشعور بالخوف
والشعور بالرجاء، وهما طاقتان دافعتان للعمل والصلاح، فإذا أحسنا استثمارهما
بالثواب والعقاب كان ذلكمفيداص ولا شك.
لكن الخطر يكمن في الأسلوب الذي يمارس به
المربي الثواب والعقاب، ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه من الإطراء مخافة ان
يهلك المرء بما يورثه الإطراء في نفسه من الغرور والعجب والرياء، ولعل الإطراء
صورة من المدح مبالغ فيها وخارجة عن حد الاعتدال، وكذلك حذر من التقبيح وضرب
الوجه؛ ل~لا تخرج العقوبة مخرج الإهانة
والتعذيب، والآثار في ذلك كثيرة.
وكما نعتمد في تقريرنا لأسلوب الثواب والعقاب على فطرة الإنسان نعتمد كذلك على منطق القرآن؛ فالقرآن الكريم مليء بالترغيب والترهيب، وهذا يدل على أثر الثواب والعقاب في إصلاح الإنسان، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
القرآن الكريم مليء بالترغيب والترهيب، وهذا يدل على أثر الثواب والعقاب في إصلاح الإنسان
كما أنَّ تشريع العقوبات الشرعية لتكون زواجر
عن ارتكاب المعاصي يعتبر في حدّ ذاته مستنداً شرعيا لا حترام وسيلة الثواب والعقاب
واعتبارها وسيلة مشروعة لا تنافي كرامة الإنسان، وإذا بعض الناس يخطئ في التنفيذ
والتطبيق، ويسيء في استعمال هذه الوسيلة فليس من المنهج العلميّ أن نترك الانحراف
ونهرب منه إلى نبذ الوسيلة بالكلية.
ولنا
في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ونسأل الله التوفيق والسداد، والله
تعالى أعلم.
إضافة تعليق