سعيد المرتضى سعدي
كادت الأسرة المسلمة –عربًا وعجمًا- تتعاطى اللغة الإنجليزية نموذجًا للتطور والتثقف؛ يُعلِّم الآباء أبناءهم لغة الغرب والكلمات الإنجليزية الرائجة، ولا يحسبون اللغة العربية إلا لمحض العبادات والرسميات، ولكنها في الحقيقة حافز صبغ الله به هذا الدين وجعله دافعًا لكل مَن يَتديَّن به، وقد أفلح مَن ربَّى أبناءه على الدين الحنيف، وأوجَد في الأسرة بيئة متداولة مليئة بالتعاليم السمحة.
ومن المعلوم أن أنجح الطرق لنيل مميزات اللغة العربية هو التمسك بعناصرها الأصلية؛ والاعتزاز بمكانتها؛ حيث إن اللغة العربية هي حاملة الدين، وأحيانًا يُتَعَبَّد بالنطق بها، مثل تلاوة القرآن والأذكار، وهي محفوظة بحفظ الله لها، فهي لغة مقدسة؛ لغة وحي ودين، لغة عبادات وشعائر، هي لغة مَأجورٌ مَن يتعلّمها، مُثاب من يُعلِّمها. وتُؤثِّر في لُبّ الشخص وتُنبت الطفل نباتًا حسنًا، كما أشار عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ؛ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ»[1].
وجعل الله تعالى القرآن بلغة عربية ولسان عربي مبين ليكون سهل الفهم والعقل؛ حيث قال: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: ٢]، ولقد بيَّن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقال: «وليس أثر اعتياد اللغة الفصحى مقصورًا على اللسان، بل يتعمق حتى يؤثر في العقل والخُلق والدِّين تأثيرًا قويًّا بيِّنًا، ويُؤثِّر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخُلق»[2].
ولا يخفى على أحد أن اللغة المتركزة هي التي تنشأ منذ الطفولة، والتي يتم تداولها ليلًا ونهارًا، فالطفل الذي يتلذذ بتعلم الكلمات الأجنبية، سيجد في اللغة العربية لذة أعظم بأكبر نطاق وأرسخ في الأعماق؛ لأنها أعظم لغة عرفتها البشرية، وهي اللغة الربانية؛ لغة القرآن، ولسان النبي العدنان، ولغة أهل الجنان، مَن تعلمها أمِن مِن الخطأ واللحن، وفهم ما جاء في القرآن، وما ورد على لسان سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم .
وليست اللغة العربية مخصوصة بخواصّ علماء الدين فقط، ولو افترضنا أنها لهؤلاء، فإننا نجد أن العلماء الراسخين الذين تبحروا في الدين هم الذين تعلموا اللغة العربية منذ طفولتهم. ومن هنا نعلم أن أطفالنا الذين يبرزون في علوم الدين، لم ينالوا هذا التوفيق حتى صار إتقانهم للغة العربية سببًا للبركة في حياتهم ورزقهم وورعهم ودينهم. قال العلامة الماوردي -رحمه الله-: «ومعرفة لسان العرب فرضٌ على كلِّ مسلمٍ من مجتهد وغيره»[3]، وقال شَيخُ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله-: «إنّ اللغةَ العربيّةَ من الدِّين»[4].
ولكي نصنع دائرة مثقفة عربية في دُورنا، ونجعل بيوتنا غنية بطلبة العلوم الدينية التي تستمدّ من جذور اللغة العربية؛ لا بد أن نبدأ من الأسرة.. من العائلة! التي تُعوِّد الأبناء عليها وتُعلّمهم أصولها، كما أشار الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى ذلك بقوله: «علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، ورَوُّوهم ما جَمُل من الشِّعر».[5]
وقد نُقِلَ عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: «تعلموا العربية في القرآن كما تتعلمون حفظه».[6]
وهذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه العلامة ابن خلدون في المقدِّمة بقوله: «إن المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحْلته وسائر أحواله وعوائده. إن الأمة إذا غُلِبَتْ وصارت في ملْك غيرها أسرع إليها الفناء»[7].
وهذا هو ما يسميه بعضهم بالغزو الثقافي أو اللغوي، وبعملية حسابية بسيطة، يتبين لنا أنَّ القرن الميلادي الحالي نصَب العوائق أمام الأسرة المسلمة في عملية إقامة بيئة تعليمية دينية اعتمادًا على اللغة العربية.
ومن هنا نرى ونتوقع أن يؤثر هذا الغزو الثقافي على الأسرة وعلى مجتمعاتنا المسلمة؛ وعلى الرغم من أن اللغة العربية تتبوأ مكانة عالية في ثقافتنا الدينية؛ إلا أنها تخفض جناحيها الحضارية والعقلانية في بيوتنا!!
إن الأعداء -أيها الأوفياء- بثُّوا ونشروا لغتهم الأجنبية وألسنتهم الغربية في كثير من أمورنا الحياتية، فلا تكاد تجد مصنوعًا أو عملاً وملبوسًا إلا وعليه لغتهم، ليصلوا إلى مطلوبهم، وينالوا أهدافهم، فلهذا قلما يوجد عمل أو بضاعة أو تواصل اجتماعي إلا وللغات الأجنبية نصيب فيها، بل ربما ليس لها بديل في بعض الأحيان. وهدف هذا الصنيع إبعاد الشعوب المسلمة عن لغة القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وبالتالي عدم فهم الكتاب والسنة، وينتج عندها عدم العمل بالكتاب والسنة.
وفي هذا الصدد قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدّور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف»[8].
لا شكّ أنّ القرآن هادٍ لكلّ قلب سليم، ومرشد لكلّ شخص مسلم، ودستور لكل بيت سالم عن المآثم، فإن كان للبيان سحر، وفي الكلام أثر، وفي الصوت إكسير، فكلام الله وكلام رسوله أجدر في التأثير، وأبلغ في التوصيل، وهو القرآن والأدعية والأذكار والعلوم الدينية، فيوم المسلم ينبغي أن يبدأ بالأذكار المأثورة والصلاة المأمورة ويمضي بتناقل السلام والدعاء بين المسلمين وبعضهم البعض؛ لأن في نطقها بالعربية أثرًا لا يُتدارك بغيرها، فلذلك البسملة والسلام والدعاء والذكر والرقية وتلاوة القرآن لا تُؤدَّى بغير اللغة العربية، وتلاوة القرآن باللغة العربية سبب من أسباب حفظ الله للبيوت؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ»[9].
إن الدين نور للأسرة المسلمة تُهدَى به إلى الحق، والأسرة المسلمة المتدينة نور في المجتمعات تشرق بها الإنسانية، فكل أسرة تنشأ لبنتها بعقد زواج شرعي فيه إيجاب وقبول، يُصاحبه خُطْبَة فيها ذِكْر الله والتذكير بالأمانة وإحساس بأهمية الدين في تنظيم شؤون الأسرة والمجتمع، فيكون الله في عون تلك الأسرة الجديدة ويضيء لها طريقها، كما أشار الله بعد آية النور في سورة النور بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36]؛ فأسرة بغير دين لا نور لها، وبيت بغير نور لا حياة له، والدين مع النور ينبثقان من مشارب اللغة العربية.
الأسرة في المجتمع عنصره الأساسي، وهي عبارة عن منظمة اجتماعية تتكون من أفراد يرتبطون ببعضهم بروابط اجتماعية وأخلاقية[10]، ووقودها الثقافة التي تبتلّ بها الروح، فإذا طيّبت الأرواح فإنها لا تأتي إلا بخير، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، وسلامة الثقافة عن النكد لا تستقرّ إلا من طريق التعليم الإسلامي، وللثقافة عناصر حددها العلماء؛ أهمها: اللغة[11]، وكم من أسرة أفسدت أولادها بالتعليم السيئ، وكم من أسرة فسدت بسبب الثقافة الهالكة.
إن التمسك بالدين القويم وتعلُّم اللغة العربية يسهمان في تشكيل لبنات بنيان مرصوص هو قوام المجتمع.
يشعر الواثقون أن في اللغة العربية وقارًا وميزة تؤثر في قلوب المسلمين، وتخلق فيها خشية ورغبة فيما يرضي الله، خاصةً أنها تعمل في قلوب الصغار عن طريق النظم والأناشيد والقوافي، ولقد جربت الإنسانية أن الأطفال يحفظون المعلومات بطريقة الأشعار المنظومة، التي تُخلِّف الأثر، ورأينا الأطفال تعلموا التجويد والسيرة والمسائل الفقهية والعقيدة عن طريق المنظومات المختصرة والأشعار القصيرة والأناشيد الجميلة، وكذلك الأذكار والدعاء كلها أسلحة تتسلح بها الأسرة ضدّ الشرّ والضرّ.
ولا شك أن أصغر الذكر لفظ الجلالة، وأيسر الكلام كلمة التوحيد، قول لا إله إلا الله، وهي لا تحتاج إلى آلة النطق إلا إلى حركة يسيرة للسان، ولذلك يسهل التعليم عند الطفل والتلقين عند المحتضَر، ولأن الطفل وُلد على الفطرة، والتوحيدُ ومعرفة الله من الفطرة، والاعتيادُ بالأذكار المعسولة والأدعية المشهودة يكون أحسنَ المبادئ، مع إظهار معانيها وتعلقها بالله حتى تتركز في القلوب الناعمة، ونقول للأطفال: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله»، والإكثار من ذكر الله تعالى والعمل الصالح يجعلك محبوبًا عنده وعند الناس، ودعاء «ربِّ يَسِّر» يسهُل لك الأمور.. مثلاً، وهكذا.
إن الطفل المُحِبّ للعربية اليوم يُعدّ قوام الأمة في المستقبل، وإن الجيل الذي ترعرع على ثقافة دينية عربية الأساليب يُعدّ قنطرة بين العصر الأول والعصر الناجح، وذلك من ميزات الجيل الذي مدحه النبي –عليه الصلاة والسلام- بأنهم طائفة ظاهرة على الحق على مرّ القرون من مختلف الأمصار والأعراق، نسأل الله التوفيق والقبول لنا ولأجيالنا.
[1] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (9/68)، والبيهقي في شعب الإيمان (1556).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم، ص207.
[3] إرشاد الفحول؛ للشوكاني، ص252.
[4] اقتضاء الصراط المستقيم، ص207.
[5] الكامل في اللغة والأدب (1/ 211).
[6] إيضاح الوقف 1/23، التمهيد ص207.
[7] مقدمة ابن خلدون/ عنوان الفصل الثالث والعشرين، والفصل الرابع والعشرين.
[8] اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 526).
[9] رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد (1 /539) (ح780).
[10] د. إحسان محمد الحسن، موسوعة علم الاجتماع، ص9.
[11] د. علي محمد المكاوي، الأنثروبولوجيا وقضايا الإنسان المعاصر، ص108.
إضافة تعليق