وقع كثير من المسلمين في مشكلة عدم فهم القرآن الكريم، وهي أزمة أشد عليهم وأفتك بهم من عدوهم، فلقد أنتج الفهم السائد والخطأ فرقًا وطوائف مزّقت الأمة وأتت على كلمتها ووحدتها، حيث ساد فهم أناني فردي يتستر بستار النفعية وهو الضرر بعينه على الفرد والجماعة.
إنّنا نجد كثيرًا من الناس يدُورون حول ذواتهم في سلبية قاتلة، ويُؤثرون الانكباب على الذات أو الدائرة الصغرى، ولسان حالهم الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105]، وهو بلا شك إسقاط خاطئ منهم يتنافى مع الفهم الواجب الذي يهتم بأمر المسلمين وتقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
خطورة الفهم السائد لبعض آيات القرآن
ولا شك أن الفهم السائد والخاطئ لبعض آيات القرآن الكريم يمثل خطورة كبيرة على صاحبه وعلى المجتمع، وهو ما يتمثل بوضوح في الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105]، حيث يظن كثير من الناس خطأ أن المقصود منها هو الاعتناء بالشؤون الخاصة وقطع الصلة بالناس، ويكرر هؤلاء كلمات وشعارات مثل: نحن في آخر الزمان، وما شابه ذلك من عبارات اليأس والقنوط.
لكن هذا الفَهم مُخالف لأهداف القرآن الكريم ومقاصده، الذي جاء رحمة للعالمين لإصلاح الفرد والجماعة، وطالب المسلم بأن ينفرد للدعوة والجهاد وألا يكون مع الخوالف، وألا يقعد مع القاعدين.
والقرآن لا تتضارب آياته ولا تتناقض مقاصده، وليست العوائق والعقبات أسبابًا كافية لصرف هذه المقاصد عن بلوغ غايتها، ولولا ذلك لَمَا شُرع الجهاد بجميع صوره وأشكاله، وقد ندب الله المؤمنين لمكافحة الفتن أنى كانت.
وهذه الآية ليست دليلًا على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فِعلُ ذلك ممكنًا، وقد قام أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: أيُّها الناس، إنكم تقرَؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ …﴾ [المائدة: 105]، وإنَّكم تضَعونها في غير موضعها، وإني سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن الناس إذا رأَوُا المنكر ولا يغيِّرونه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابه” (رواه أحمد والترمذيُّ وابن ماجه)، وتلا الحسَنُ هذه الآية، وقال: الحمدُ لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمنٌ فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاَّ وإلى جنبه منافقٌ يَكرَه عمله، وقال سعيد بن المسيَّب: إذا أمرتَ بالمعروف ونهيتَ عن المنكر، فلا يضرُّك من ضلَّ إذا اهتديت.
وفسرها السعدي، بقوله: اجتهِدوا في إصلاحها وكمالها (أي النفس)، وإلزامِها سلوكَ الصراط المستقيم؛ فإنكم إذا صلَحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم ولم يهتدِ إلى الدين القويم، وإنما يضرُّ نفسه، ولا يدل هذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يضرُّ العبدَ تركُهما وإهمالُهما؛ فإنه لا يجري هذا إلا بالإتيان بما يجبُ عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وَعَنْ أبي أمية الشعباني الدمشقي قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخشني (صحابي) فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَة! كَيْفَ تَقُولُ فِي ِهَذِهِ الْآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾، فَقَالَ: أَمَا وَالله لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ الله- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامّ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ؛ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)، قلنا: مِنَّا أَمْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ مِنْكُم” (رواه أبو داود والترمذي).
وقال صاحب الظلال: “إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا، ثم في الأرض جميعا. وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته؛ وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته. وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه، والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولًا؛ وعلى البشرية كلها أخيرًا”.
فوائد تربوية
ورغم شيوع الفهم السائد لآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)، فإنّ فيها فوائد على المسلم الانتباه إليها، وهي:
الفائدةُ الأولى: الله تعالى يأمر في هذه الآية المؤمنين بالحرص على هداية أنفسهم وصلاحها، ويبيِّن لهم أنهم إذا اهتدوا فإنه لا يضرهم زيغ الآخرين وضلالهم، ولا ينبغي لهم أن يحزنوا لأجل ذلك، مع أنهم مأمورون بهدايتهم وإرشادهم للطريق المستقيم بدعوتهم إلى الله تعالى وأمرِهم بالمعروف ونهيِهِم عن المنكر؛ فإن ذلك مِن الواجبات الشرعية المتقرِّرَةِ بالأدلة الكثيرة، وهو مِن لازم الهداية، ولَمَّا كان هذا الفَهمُ الخاطئ قد يدخل إلى بعض النفوس الضعيفة أو الجاهلة فقد بادَرَ أكابرُ الصحابةِ- رضي الله عنهم- إلى التنبيه على غَلَطِهِ، وأشهر ذلك ما ثَبَتَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- مما تقدم ذكره.
الفائدةُ الثانيةُ: أخطأ وضلَّ في فَهم هذه الآية الكريمة صِنفان مِنَ الناس؛ الأولُ: الكُسالى والمتقاعسون عن الدعوة إلى الله تعالى والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فقد توهَّموا أن في هذه الآية حُجّةً لهم في تقصيرهم، فما داموا مهتدين في ظنهم فمَا لَهم وللآخرين، الثاني: بعضُ أصحاب الفُجور والفسوق والمعاصي، حيث استعملوا هذه الآية في مواجهةِ الداعين إلى الله تعالى الآمرينَ بالمعروف الناهينَ عن المنكر، وقالوا لهم: ما يضركم عملُنا إذا كنتم مهتدين، فما لكم ولنا، دعونا في ضلالنا وغوايتنا حتى يهدينا الله. ولو كان ما فهمه هؤلاء مِن الآية الكريمة صحيحًا لبطلت الشرائعُ وتُرك الدِّين، ولَمَا صحَّ لأحدٍ أن يدعوَ إلى الله أو يأمرَ بمعروفٍ أو يَنهى عن منكرٍ.
الفائدةُ الثالثةُ: لا تتم هدايةُ المسلم حتى يعمل بشريعة الله تعالى، ومِن أعظم شرائع الدين: “الدعوةُ إلى الله تعالى والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر”، فمَن تَرَكَ ذلك فهو غير مهتدٍ الاهتداءَ التامَّ، وكيف يكون مُهتديًا وهو يترك سبيل الأنبياء- عليهم السلام-، وسبيلَ المصلحين جميعًا؟! كيف وقد قال الله تعالى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]؟! فأَتْبَاعُ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم- على الحقيقية هم الذين يَدْعون إلى الله على بصيرة وهو العلم والهدى واليقين.
أسباب الفهم السائد للقرآن
وهناك أسباب كثيرة تؤدي إلى الفهم السائد والخطأ لبعض آيات القرآن الكريم، نذكر منها ما يلي:
- قصر النظر على بعض القرآن دون بعض: فمن القواعد الثابتة عند المفسرين قاعدة أن القرآن يُفَسِّر بعضُه بعضًا، وأن أَولى ما فُسِّر به القرآن هو القرآن، فما أُجمِل في موضع بُيِّن في موضع آخر، وهي قاعدة لا غنى عنها لكل دارس وناظر في القرآن الكريم؛ وقد نبّه العلماء كثيرًا إلى خطورة انتزاع الآيات من سياقها، والاستشهاد بها منفردة عما يفسرها ويبيِّنها من آيات أُخَر، يقول ابن حزم -رحمه الله-: “وما ضلَّت الخوارج إلّا بتعلُّقهم بآياتٍ ما، وتركوا غيرها، وتركوا بيان الذي أمَره الله- عز وجل- أن يبين للناس ما نُزِّل إليهم وهو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولو أنهم جمعوا آي القرآن كلَّها وكلامَ النبي- صلى الله عليه وسلم- وجعلوه كُلًّا لازمًا، وحكمًا واحدًا، ومتبعًا كله؛ لاهتدوا”.
- ترك النظر في أسباب النزول: من أسباب الغلط في فهم مراد الله تعالى ترك النظر في أسباب النزول، فإن لها دورًا مهمًّا في بيان معنى الآية والمراد بها، وإهمالها مُوقِعٌ في الغلط، ومُفضٍ في أحوال كثيرة إلى معانٍ فاسدة، يقول الشاطبي: معرفة الأسباب رافعة لكل مُشكِل؛ فهي من المهمَّات في فهم الكتاب بلا بد، والجهل بأسباب التنزيل مُوقع في الشُّبَه والإشكالات، ومُورِد للنصوص الظاهرة مَورِد الإجمال حتى يقع الاختلاف.
- الغفلة عن أصول الدين والاعتقاد: ومِن أسباب الغلط في فهم كلام الله- تعالى- غفلةُ المرء عن أصول الإسلام الثابتة، وهو ما قد يوقعه في تفسير يخالف تلك الأصول المستقرة من حيث لا يشعر، ومن ذلك مثلًا: قوله تعالى مخاطبًا الملائكة: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]، فقد يظن ظانٌّ أن الملائكة قد تكتم عن الله تعالى شيئًا أمَرهم ببيانه أو سألهم عنه، وهو غلطٌ شديدٌ مخالفٌ لأصل واضح من أصول الاعتقاد، وهو عصمة الملائكة الثابتة بنحو قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم: 6].
- اتباع الهوى يعمي ويصم عن فهم القرآن: فمن الناس من يكون اتباعهم للهوى في فهمهم للقرآن ناتجًا عن التهجم على كتاب الله والجرأة عليه بغير علم، ومنهم من يحمله الهوى على محاولة تبرير أخطائه لتشهد الآيات عليها، وفي ذلك يقول ابن تيمية: صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في الأمر ولا يطلبه أصلا، فليس قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحميّة لنفسه وطائفته أو الرياء.
- الكبر من موانع الفهم الصحيح للقرآن: فالمتأمل في أحوال المعرضين عن فهم كتاب الله وتدبر آياته، سيجد أن اتباعهم الهوى وإعراضهم عن كتاب الله إنما هو نتاج الكبر، لذا يقول الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
كيفية الوقاية من الفهم الخاطئ للقرآن
ومن أراد فهم القرآن وتدبره والوقاية من الفهم السائد والخاطئ للقرآن فعليه بهذه الضوابط:
- جمع الآيات القرآنية ذات العلاقة بالآية التي نرغب في فهمها: وهذا ما يعرف بتفسير القرآن بالقرآن.
- جمع الأحاديث النبوية الثابتة أو بعضها ذات العلاقة بالآية المراد فهمها وتدبرها، وهو ما يعرف بتفسير القرآن بالسنة.
- الرجوع إلى أقوال العلماء عند تدبر الآيات وفي مقدمتهم السلف الصالح والصحابة الكرام والتابعين.
- معرفة مدلولات ألفاظ الكلمة القرآنية بالرجوع إلى دواوين الشعر واللغة، حيث يساعد ذلك على التدبر والفهم.
- مراعاة السياق التي مرت به اللفظة القرآنية.
- معرفة أسباب النزول التي تعين على فهم النص القرآني، مع الانتباه إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- الإحاطة بعلم الناسخ والمنسوخ، فهو يعين على فهم القرآن فهمًا دقيقًا.
- التجرد من الأهواء، والتصورات والنظريات السابقة، وجعل القرآن متبوعًا لا تابعًا.
إن الفهم الواجب للقرآن الكريم يتطلب التخلي عن كل ما يُعزز الفهم السائد والخطأ الذي يُبنى على الأهواء أو الجهل بأسباب النزول والتفسير المقصود من الآيات.
المصادر والمراجع:
- الدكتور همام سعيد: قواعد الدعوة، ص 93-95.
- ابن كثير: تفسير ابن كثير، ص 125.
- السعدي: تفسير السعدي، ص 246.
- السيد قطب: في ظلال القرآن، 3/2342.
- الدكتور عمر قريشي: آيات مظلومة بين جهل المسلمين وحقد المستشرقين، ص 138.
- الدكتور صلاح الخالدي: تصويبات في فهم بعض الآيات، ص 77.
- الشاطبي: الموافقات 4/ 146.
- الدكتور فضل إلهي: شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 13.
- ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام 3/ 40.
- ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، 5/ 255-256.
إضافة تعليق