محمد أمجد بيات
مدخل:
من المسائل التي تستحقُّ البحث وتدعو إلى التأمل: ما يتعلَّق بالمعرفة وعلاقتها بالسُّلوك. كيف نتحوّل من عالم القناعات والأفكار إلى عالم الواقع والسلوك؟ وكيفَ نصل بالعلم المجرَّد إلى الخُشُوع والانقياد؟ وكيف نتجنَّب التناقض بين الباطن والظاهر فلا نقع في الازدواجية نُفرِط في جوانب ونفرّط في أخرى، ونهتم ونتشدد في مسائل ونتساهل ونتراخى في أخرى!
حين نجد بعض الناس طائعًا لله مخبتًا خاشعًا، لكنه مقصِّر في صلة رحمه، نتعجَّب كيف ذلك؟! وحين نجد البعض منصرفًا إلى العبادة والعلم، لكنه مقّصر في تربية أولاده، نتساءل كيف ذلك؟! وحين تجد البعض معتنيًا بأولاده لكنه عاقٌّ لوالديه، أو بارًّا بوالديه ولكنه ظالم لزوجته؛ يراودك السؤال نفسه: كيف يكون ذلك؟!. وحين تقرأ كلام ابن القيم -رحمه الله- وهو يقول: «ترى الرجل يُشار إليه بالدّين والزُّهد والعبادة وهو يتكلَّم بالكلمات من سَخَط الله لا يُلقي لها بالاً .. وكم ترى من رجل متورّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول»[1]، تدرك أن الموضوع لا يختص بعصر وزمن بل هو نموذج يتكرَّر!
إنها حقًّا صورة عجيبة لأناس قد يظهر الصدق في تديُّنهم، إلا أنك تفاجأ ببعض سلوكيَّاتهم وأفعالهم، وتشعر أن هناك خطأً ما ينبغي فهمه وإشكالاً ما ينبغي علاجه. وقد عاين الصحابة رضي الله عنهم مثل هذه الإشكاليات وسألوا عنها رسول الله ﷺ مستفهمين ومستوضحين: كيف لمؤمن صادق الإيمان عابد يفعل الطاعات يقع في مثل هذا التناقض العجيب!
تسعى هذه المقالة لتسليط الضوء على هذه الإشكالية، وتجتهد في تفكيكها وفهمها وإيجاد الحلول، في النقاط التالية، سائلين الله الإعانة والتوفيق.
ضبط المعيار:
إنَّ ضبط المعيار الشرعي والميزان الإلهي الذي وضعه الشرع للحكم على الأشياء ووزنها، نستطيع من خلاله أن نفهم المسار ونعرف مواطن الخلل الذي يؤدي للوقوع في الانحراف والزَّلل. وبمعرفة المعيار الشرعي نستطيع أن نحدّد مدى قربنا من النَّموذج الصَّحيح الذي يحبه الله ويرضى عن صاحبه، حتى لا تكون العبادة مجرَّد مظهرٍ أجوفٍ بعيدٍ عن الحقيقة والجوهر، أو مجتمعةً مع ما يناقضها من السلوك والتعاملات.
قال سهل بن سعد t: مرَّ رجلٌ على النبي ﷺ فقال لرجل عنده جالسٍ: (ما رأيكَ في هذا؟) فقال: رجلٌ من أشراف الناس؛ هذا والله حريٌّ إن خطبَ أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفَّع. فسكتَ رسولُ الله ﷺ. ثم مرَّ رجلٌ، فقال له رسولُ الله ﷺ: (ما رأيك في هذا؟) فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين؛ هذا حريٌّ إن خطبَ ألا يُنكح، وإن شفع ألا يُشفَّع، وإن قال ألا يُسمَع لقوله. فقال رسولُ الله ﷺ: (هذا خيرٌ من ملءِ الأرض مثلَ هذا)[2].
لقد بيَّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث الشريف المعيار الشرعي الصَّحيح في الحكم على الأشخاص ووزنهم. وأنه تقوى الله والاستقامة على أمره. وليس هو الغِنى والحَسَب والشَّرف، كما يرى كثير من الناس. وقد أكَّد هذا المعنى في حديث آخر حيث قال ﷺ: (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[3].
ولقد أشار إلى هذا المعنى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين أتاه من يشهد على قضية، فقال له عمر: «ائتِ بمن يَعرِفُك. فجاء برجل، فقال له: هل تُزكِّيه؟ هل عرفته؟ قال: نعم. فقال عمر: وكيف عرفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟ قال: لا. فقال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا. فقال عمر بن الخطَّاب: فلعلَّك رأيته في المسجد راكعًا ساجدًا، فجئت تزكِّيه؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال له عمر بن الخطاب: اذهب؛ فأنتَ لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك، فهذا لا يعرفك»[4].
والشاهد من كلام الفاروق رضي الله عنه يظهر في قوله للرجل: «فلعلَّكَ رأيتَه في المسجد راكعًا ساجدًا، فجئتَ تزكِّيه؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال له عمر بن الخطاب: اذهب؛ فأنتَ لا تعرفه!». إذن فميزان الشَّرع في الحكم على الأشخاص ليس بكثرة العبادة وأدائها ظاهرًا، ما لم يُختبر بالمعاملة ويُبتلَى بالمعاشرة، حتى يعرف حقيقة معدنه، فقد يكون صاحب عبادة في الظاهر لكن أخلاقه سيئة ومعاملته كذلك[5].
بعض النصوص الواردة في المسألة:
من السُّنة النبويَّة نكتفي بثلاثة أحاديث:
الحديث الأول: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: (قيل للنبي ﷺ: يا رسول الله! إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم النَّهار وتفعل، وتَصدَّقُ، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله ﷺ: لا خيرَ فيها، هي من أهل النَّار. قالوا: وفلانة تصلي المكتوبةَ، وتَصدَّقُ بأثوارٍ، ولا تُؤذي أحدًا؟ فقال رسول الله: هي من أهل الجنَّة)[6].
فالذي جعل هؤلاء الصحابة متعجبين من حال هذه المرأة هو عبادتها وقيامها وصدقتها وصيامها، وهذا حالٌ لا يكون عليه إلا المتَّقون الخائفون المخلصون عادةً، فكيف اجتمعت العبادة وإيذاء الجيران في شخص واحد، وما تفسير ذلك؟
لقد جاء الجواب من رسول الله ﷺ مبيّنًا الميزان: (لا خَيرَ فيها، هيَ من أهلِ النَّارِ). فالعبادة إذا لم تثمر حُسنًا في السُّلوك واستقامة في المعاملة والأخلاق، فثمة خلل كبير في مفهومها ودورها في تقويم سلوك العبد وظهور الأثر والمقصد الشرعي المطلوب من فعلها. وهذا يظهر باختلاف الحال بين المرأتين المسؤول عنهما. فالذي يظهر أن عبادة المرأة الثانية دون عبادة الأولى، إلا أن ثمرة العبادة وأثرها ظهر في تطهير قلبها واستقامة سلوكها، فكان الجواب: (هيَ من أهلِ الجنَّةِ).
وهذا يدل أن المعيار الشرعي في تقويم الأشخاص ليس كثرة العبادة ولكن بأثرها.
الحديث الثاني: عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قال: (أتدرون ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النار)[7].
وهذا الحديث يؤكد ﷺ على أن العبادة مهما كانت كثيرة فإنه إذا لم يظهر أثرها في تطهير الباطن وتهذيب النفس في تقويم السلوك والامتناع عن الحرام والظلم وأذية الخلق، فإنها فاقدة لجوهرها وهي وبالٌ على صاحبها، وأنه إذا لم يتدارك نفسه فسيكون مصيره النار!
الحديث الثالث: عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلقَ أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرَّحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لَك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنتُ آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)[8].
لقد كان ظاهر حال الرجل أنه قائمٌ على حدود الله، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر فيما يظهر للناس، إلا أنه كان يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، فيفعل المنكر ولا يعمل المعروف! وهذا يدل على خلل ومرض في الباطن، من نفاق ورياء، أو قلَّة خشية وخوف من الله، وقد يكون عالمًا بأمر الله ولكنه ليس عالمًا بالله كبعض علماء بني إسرائيل الذين كانوا يقولون: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠].
أسباب هذه الظاهرة:
يظهر أن لهذه الحالة عدَّة أسباب، ترجع في مجملها إلى أسباب معرفية علميَّة، وأخرى تتعلَّق بالتزكية وتطهير النفس من آفاتها، وأسباب اجتماعية وشخصيَّة، نفصّلها فيما يلي:
أولاً – الفهم المغلوط، وله صور منها:
– الفهم المغلوط لعلاقة العبادة في تحصيل التزكية: حيث يعتقد البعض أن الالتزام بالعبادة الظاهرة والمحافظة على السُّنن كافٍ لإصلاح الباطن وتزكية النفس وتخليصها من آفاتها، دون تدخل منه في مجاهدة نفسه ومعالجتها ومتابعة قلبه وكيف يعالج أمراضه.
– تنميط التديُّن وقولبة مفاهيمه: فمما هو مشاهد أنَّ أنماطًا للتديُّن وقولبة لمفاهيم العمل للدّين والدَّعوة، صارت عَلَمًا على بعض الجماعات والتيارات في طريقة تلقينهم لأتباعهم مفهوم الالتزام والتديُّن وخدمة الدّين، فتراهم يضخّمون جوانب ومفاهيم على أخرى بحيث تطغى عليها ويفقدون التوازن معها، وقد تكون مما حقُّه التأخير في سُلَّم الأولويَّات الشرعيَّة؛ فتصنع خللاً ظاهرًا واضطرابًا في شخصيَّة هذا المسكين الذي جرى تنميطه وقولبته، فيكون الاهتمام بعالم الأفكار مقدَّمًا، أو الاهتمام بإصلاح العبادة شكلاً، وإهمال إصلاح الباطن أو العكس.
فتجد من يُعظِّم بعض الأخطاء والآثام الظاهرة أو يستعظم ترك بعض السُّنن، إلا أنك تراه متساهلاً في كبائر مجمع عليها: كالغيبة، والكذب، والنميمة، وأكل الحقوق، ورحم الله أمير المؤمنين عمر t حين قال: «لا تَغُرَّنّكُم طَنْطَنَةُ الرجل بالليل -يعني صلاته- فإن الرجل كلَّ الرجل مَن أدى الأمانةَ إلى من ائتمنه، ومَن سلم المسلمون من لسانه ويده»[9].
فكثرة الصلاة وحتى قيام الليل ما لم يكن لها أثر في السلوك والوقوف عند الحدود والحقوق يدل على خلل كبير، وقد قال سبحانه: ﴿إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥]. وبهذا المعنى جاء حديث: (مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّور والعَمَلَ به، فليسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طعامَهُ وشَرابَه)[10].
– ومن أنماط القولبة: استعجال أخذ دور العالِم، وذلك عندما ينشأ الطالب في وسط جماعة وتيار يغلب عليه الخوض في التحذير من أهل الانحراف والبدع، ويسمع بعض كلام العلماء، ولم يدرّب نفسه على فقه النيَّات والمقاصد ومعرفة الأصول والضوابط، فيُسرع في إطلاق لسانه بجرح هذا والتحذير من ذاك، وغالبًا ما يرافق ذلك سبٌّ وإغلاظ وقسوة في العبارة، وترك للرفق والحكمة، وهو يحسب أنه ينصر دين الله والمنهج الحق، وما هو إلا فريسة للنفس والهوى والجهل والتسرُّع، وقد يستزلُّه الشيطان فينزلق من التحذير والتبديع إلى الخوض في الأعراض، ثم قد يقوده إلى التكفير واستحلال الدّماء! كل ذلك لغياب المنهجية الصَّحيحة في التعليم والتربية، وإهمال كبير للتزكية والمراقبة.
ثانيًا – التقصير والإخلال بفقه تزكية النفوس:
وتزكية النفوس تتطلب تخليصها من آفاتها وإصلاح القلب وتطهيره من أمراضه؛ فإن أمراض القلوب الباطنة أشدُّ ضررًا وأعظم فتكًا من معاصي الجوارح الظاهرة، ولذلك نجد القرآن يركّز على إصلاح الظاهر والباطن معًا، ويدعو لترك ظاهر الإثم وباطنه؛ حيث قال: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٠]. قال قتادة: «قليلَه وكثيرَه، سرَّه وعلانيتَه». والآية تفيد الابتعاد عن الإثم ظاهرِه وباطنِه، لأنَّنا قد نعتني بترك الإثم الظاهر لاطِّلاع الناس عليه، ونقع فيما هو أشد منه وهو الإثم الباطن!
ثالثًا – غلبة بعض الصفات الشخصية وسيطرتها:
كالبخل، والأنانية، والجفاء والغلظة، وسرعة الغضب وغيرها، مع الإهمال في محاولة إصلاحها أو الاستسلام أمامها، ثم هو يريد أن يقبله الآخرون كما هو! وقد يوجد لنفسه الأعذار والتبريرات ويتكلَّف التأويلات، إذا ما نُصح بعلاج تلك الآفات والأمراض.
رابعًا – تحوُّل العبادة إلى عادة:
وهذا يُلاحظ خصوصًا في المجتمعات المحافظة، حيث تتحوَّل فيها بعض الشرائع الدينيَّة إلى عاداتٍ مجرَّدة من بُعدها التعبُّدي، كالحجاب، والصلاة، وإعفاء اللحية وغيرها، وتفسيره أنه مع طول الأمد يبدأ التساهل، وما إن يفسح المجال للتحلُّل من سطوة المجتمع وقيد العرف والعادة حتى يستعلن الناس بالمخالفة، فهذه العبادة التي تحوَّلت إلى عادة صارت كالقيد الآسِر لأصحابها يبغون التخلص منها! ولذلك يبقى أن الإيمان الصَّحيح ما يُبنى عن قناعة ذاتية وعلم، وليس تقليدًا أو خضوعًا لعرف وعادة، على غرار ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢].
إن قصر بعض الشعائر الدينية على أنها مجرد عادات موروثة أو مُكتسبَة، وليست عبادات تؤدَّى امتثالاً وخضوعًا رجاء الثواب وحذرًا من المخالفة والعقاب هو إهدارٌ لمعناها وقيمتها، وطمسٌ للمفاهيم. فلا بد من دوام التذكير بضرورة المراقبة لله والخشية منه والحب لأوامره وشرائعه وأدائها على الوجه المطلوب رجاء ثوابه وجنته وحذرًا من ناره وعقابه.
علاج هذه الظاهرة:
أولاً – إخلاصُك خلاصُك: إنَّ الإخلاصَ لله تعالى وإرادةَ وجهه هو رأسُ مال العبد وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه. والإِخلاصُ أعظمُ أعمال القلوب وهو الذي يعطي للعبادة رونقها ويحقق مقصدها وثمرتها. يقول ابن القيم رحمه الله: «ومن تأمّل الشريعة في مصادرها ومواردها، علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح»[11]. فمَن فَقِهَ الإخلاصَ وتعبَّد لله به؛ أرشده الله لخير دينه وآخرته ونفعه في صلاح أمره وسلوكه، ولذلك اهتمَّ العلماء بحديث (الأعمالُ بالنيَّات) وعدُّوه من قواعد الإسلام العِظام لأنه أساس العمل وقاعدته وسبيل النجاة.
ثانيًا – صِدقكَ مع نفسك: يقول الله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: ١٤]، وفي الحديث: (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)[12]. فلا أحد أبصر بنفسك منك، وإن من أعظم ثمرات البصيرة بالنفس أن يوفَّق الإنسان إلى إصلاح باطنه كما أنه يسعى في إصلاح ظاهره، وإن من أعظم الخذلان وأشدّ الحرمان أن تغرِّر بنفسك وتثنيها عن إبصار عيوبها الباطنة وإصلاحها، فليس هذا حال الصَّادقين ولا فعل المتَّقين، فالصَّادق النَّاصح لا يغشُّ نفسه، فإذا رأى منها نقصًا أكمله أو خللاً أصلحه.
ثالثًا – مجاهدة النفس والصبر على المشاق: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩]. ومن المجاهدة مجاهدة النفس وطباعها وتطويعها لما يحبه الله ويرضاه؛ فإن النفوس تتغير والطباع تتبدل، كما جاء في الحديث (ومن يَتَصَبَّر يُصَبِّرهُ اللهُ)[13].
قال ابن حزم رحمه الله: «كانت فيَّ عيوب فلم أزل بالرياضة -يعني: رياضة النفس، أي مجاهدَتَها- واطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق، وفي آداب النفس؛ أعاني مداواتها، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومَنِّهِ»، وذكر نحوًا من اثني عشر عيبًا نفسيًا خفيًا كالإفراط في الغضب، والعجب الشديد، والحقد المفرط، وكيف عالج تلك العيوب، وبيَّن أن ذلك لم يكن أمرًا سهلاً، فقال: «وتحمَّلت من ذلك ثقلاً شديدًا، وصبرت على مضض مؤلم كان ربما أمرضني»[14].
والناس مع أنفسهم على قسمين:
- قسمٌ ظفرت به نفسُه فملكته وصار طوعًا لها.
- وقسمٌ ظفروا بأنفسهم فقهروها فصارت طوعًا لهم، فمن ظفر بنفسه أفلح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك!
يقول الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: ٢]: «إن المؤمن -واللهِ- ما تراهُ إلا يلومُ نفسَه على كل حالاته، وإنَّ الفاجر لَيمضي قُدمًا لا يُعاتب نفسَه»[15]. فالمؤمن الحق يقظٌ غير غافل مجاهدٌ لنفسه دائم المحاسبة والتفتيش عن عيوبها، يطلب الأكمل وينشد الأفضل.
رابعًا – التفقُّه الصَّحيح على طريقة السَّلف: ففي حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنَّا غلمانًا حَزَاورةً[16] مع رسول الله ﷺ فتعلَّمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا به إيمانًا، وإنكم اليوم تَعلَّمونَ القرآن قبل الإيمان»[17]. يقول البشير الإبراهيمي رحمه الله: «العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلا يوم فارقت التربية الصالحة العلمَ .. الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي في آية: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٥١]»[18].
خامسًا – الصُّحبة الصَّالحة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]، فمن يصاحب الأخيار تزكو نفسه ويقرب من ربه، ومن يصاحب الأشرار يقسو قلبه ويبعد عن ربه، والمؤمن مرآة أخيه يُبصر فيه عيوبه ويتعاون معه على إصلاح خُلقه وتزكية نفسه، إذا نسي ذكَّره وإن أخطأ قوَّمه. ومن أحسن ما يكون أن يصحب شيخًا صالحًا يرشده الطريق ويدلُّه عليه ويبصره بنفسه ويعينه على إصلاح قلبه.
خاتمة:
إنّ حقيقة العبادة في الإسلام أنها كل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. وهذا المفهوم الواسع الشامل هو الأساس الذي ينبغي تقريره وتثبيته والانطلاق منه والعمل وفقه برؤية متوازنة ومنهج متكامل فلا يطغى جانب على جانب، فيؤدي إلى تناقض في السلوك، وقصور في الفهم والمعرفة، كي لا نصل لتلك المناقضة الصَّارخة والمباينة الفجَّة التي تحدَّثنا عنها، والتي أفرزت صورًا سيئة وأنماطًا منفِّرة!
وإن أحد أبرز مظاهر هذه الظاهرة: قصر العبودية على أعمال الجوارح الظاهرة والغفلة عن عبودية القلب، مع أن عبودية القلب هي الأصل، وعبودية الجوارح تبعٌ لها.
ومن هنا فإنه يتحتَّم على المربّين والدُّعاة والمصلحين التركيز على تربية النفوس وفقه السلوك وأعمال القلوب، وأن يكونوا المثال والقدوة ليُهتدى ويقتدى بهم. فإنه لا راحة ولا طمأنينة للفرد، ولا سعادة وسكينة للمجتمع إلا بعلم نافع وتربية قويمة، فبدونها تتهاوى النفس في متاهات القلقِ والشقاوة، ويتجرَّع المجتمع عواقب إهمالها، وتفقد الحياة رونقها والعبادة حلاوتها وثمرتها.
([1]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص (١٤٠).
([4]) أخرجه الخطيب البغدادي في «الكفاية» ص (٨٣)، وقال الصنعاني في سبل السلام (٨/٨١): قال ابن كثير: رواه البغوي بإسناد حسن. وذكر ابن حجر في تلخيص الحبير (٤/٤٧٤) أنَّ الأثر صحَّحه أبو علي بن السكن.
([5]) ومن ذلك قول العامَّة: «الدّين المعاملة». حيث يقصدون أن أثر إيمان المرء وصدق قلبه لا بد أن يقوده إلى إصلاح أخلاقه وسلوكه، فالعبادة التي لا تؤدي ثمرتها لا معنى لها.
([6]) أخرجه أحمد (٩٦٧٥)، والبخاري في الأدب المفرد (١١٩)، ومعنى (وتَصدّق بِأثْوارٍ): جاء في رواية: (بالأثوار من الأَقِط) أي: تتصدّق بقطع من اللبن المجفف، وفي ذلك إشارة إلى أنّ صدقتها بالنسبة لتلك المرأة قليلة جدًا.
([8]) أخرجه البخاري (٣٢٦٧) ومسلم (٢٩٨٩)، والأقتاب: الأمعاء.
([9]) أخرجه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (٢٦٩).
([14]) الأخلاق والسير في مداواة النفوس، لابن حزم، ص (٣٤).
([15]) التفسير البسيط، للواحدي (٢٢/٤٧٦).
([16]) جمع حَزَوَّر، والحزوّر: وهو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، وقارب البلوغ، (لسان العرب لابن منظور: ٤/١٨٧).
([17]) أخرجه ابن ماجه (٦١)، والبيهقي في السنن الكبرى (٥٤٩٨).
إضافة تعليق