ما من عاقل يديم مطالعة كتب السنة والسيرة، ويدمن الرجوع إلى وقائع ذاك الرعيل المتميز؛ إلا ويتيقن أن وعاء السنة معينٌ لا ينضب، وشرابه رِواءٌ عذْب لا يغيض؛ ففي كلّ كلمة من السنة حكمةٌ، وفي كل جانب منها مَعْلمة، والمبرور المبارك مَن أخذ حظّه منها
ما
من عاقل يديم مطالعة كتب السنة والسيرة، ويدمن الرجوع إلى وقائع ذاك الرعيل
المتميز؛ إلا ويتيقن أن وعاء السنة معينٌ لا ينضب، وشرابه رِواءٌ عذْب لا يغيض؛ ففي
كلّ كلمة من السنة حكمةٌ، وفي كل جانب منها مَعْلمة، والمبرور المبارك مَن أخذ حظّه
منها؛ علما وعملا، والمحروم مَن حُرم خيرها وفضلها، وإنّ من الأخبار العجيبة التي
تقف القلوب إجلالا لها؛ حيرةً من أحداثها، وإعجابا بأشخاصها، وتعجّبا من نتائجها؛
ما حصل للصحابي الجليل كعب بن مالك الأنصاريّ t، وخبره ثابتٌ في الصحيح، توارد على روايته العلماء والربانيون
كابرا عن كابر، ولسنا في هذه العجالة ذاكِرِينَه بتمامه، لعذر المساحة الممنوحة،
ولكنّا بإذن الله نعلّق على أعْلاق منه، تكون دالّة على ما لم يُذكر، وخير الكلام
ما قل ودلّ!
ومحصّل
الخبر: أنه تخلّف عن رسول الله ﷺ
في غزوة تبوك من غير عذر ولا مشقة؛ فلما قفل رسول الله ﷺ من مسيره؛ آثر الصدق
أمامه، ولم تغرّه كثرة المنافقين الذين طفقوا يُمعِنون في الأعذار المختلَقة
الكاذبة، ولا شَدّه الخجل من عار الذنب؛ بل على العكس من ذلك؛ وصف حالة تخلّفه
المعيبة، وصرّح بأنه لا عذر له البتة؛ فقبل النبي ﷺ مصارحته، ولكنه عاقبه بمهاجَرة
تامة عامة شاملة، وصار في المدينة وحيدا فريدا لا يُعيره أحدا أذنا، ولا يلقي له
بالا! حتى تغيّرت له الأرض فما هي بالتي يَعْرف! وضاقت عليه بما رحبت، وطالت غربته
في المدينة المنورة، وهو صابر محتسب منيب، يرجو فرج الله وجميل العاقبة، حتى أسعده
الله بتوبة تتلى في القرآن، وعرْسٍ شهد عليه أخيار الأرض، وصار ثباته على الصدق
درسا تتوارثه الأجيال ([1]).
إن
كعبا رضي الله عنه في حقيقته معْدن نفيس، قليلٌ في الرجال، ومَثل عزيزٌ من مُثُل
المروءات الصافية، وما حصل معه ثَبّت الظنّ فيه؛ لا أكثر! وما أحراه بقول عمرو بن معد
يكرب شاعر العرب:
ليس
الجمال بمئزر فاعلمْ وإنْ رُدّيت بُرْدا ... إنّ الجمال معادنٌ ومناقبٌ أورثْن مجْدا
كان
كعْب رضي الله عنه قبل هذه الحادثة المؤلمة شجاعا بشعره، ومِقداما
بسيفه، حتى قيل كما في سير الذهبي: إن دَوْسا أسلمت فَرَقا من بيت له، وذلك قوله
يتوعّدها:
قضيْنا
من تهامة كلّ ريب وخيبرَ ثم أجْمَمْنا
السيوفا
نخيّرها
ولو نطقتْ لقالتْ قواطعهنّ: دَوْسا أو
ثقيفا ([2]).
أي:
نعطي الخيرة لسيوفنا؛ فهي تختار من تشتفي منه، ولو نطقت السيوف لاختارت حرْب دوس
أو ثقيف.
وكان
نبينا ﷺ يعرف لصاحبه منزلته وفضله، وربما أثنى عليه أمام صحبه؛ تثبيتا له وتوقيرا،
قال له يوما: "ما نسي ربك لك، وما كان ربك نسيا، بيتا قلته"، قال: ما هو
يا رسول الله؟ قال: "أنشده يا أبا بكر؛ فقال: زعمتْ سخينة أنْ ستغلب ربها ...
ولَيُغْلبَنّ مُغالب الغَلاّب([3])
ومع
هذه السابقة العظيمة، والأعمال الجليلة التي قدّمها كعب رضي الله عنه؛ إلا أنه عَثَر عثرة عُظمى، ووقع وقْعة مُهلكة؛ كادت تُرْديه
وتمحق سابقته، لولا لطف الله به ورحمةٌ منه سبقت جلّ في علاه! فكانت محنتُه مِنحةً
تروى، وأعجوبة تحكى ولا تطوى، وتلك عاقبة التقوى التي يكرم الله بها أولياءه!
لقد
كان كعب رضي الله عنه من السابقين الأولين للإسلام؛ ممن شهد العقبة،
ومع ذلك يقع في ذنب عظيم هو التخلف عن الجهاد بلا عذر!! لكنه أسْعف نفسه بالتوبة النصوح،
والإنصافِ من نفسه بصدق نادر؛ لا يطيقه إلا كمَلَة الرجال وأساطين الصلاح؛ حتى
استحق أن يُمنح وسام الصدق مع مرتبة الشرف([4])؛ فليس كلّ صادق مستحقّا لهذا الوسام؛ ما لم يتحرّى
مفاصل الصدق الذي تُحزّ دونه الأعناق، وتسيل بسببه الدماء، ولا يقوى على ذلك إلا
الأوفياء النصحاء الصادقون قلبا وقالبا! وكعبٌ نموذج مشرق!
وفي هذا دليلٌ على أن المسلم مهما علا قدره؛ فإنه سيزلّ
لا محالة ويخطئ لأنه بشر، ولا ضير في ذلك ولا منقصة؛ بشرط المسارعة إلى التوبة
والفرار إلى الله، على أن ذلك لا يُعفي من العقوبة إنْ رآها ولي الأمر أو المربي
الناصحُ مصلحةً للشخص وللمجتمع والجماعة المسلمة؛ ذلك أن العقوبة يتعدّى أثرها إلى
غير المعاقَب؛ فكم مِن مأخوذ بذنب اعتبر به غيره! وكم من متساهَل معه اغترّ به
غيره!
إن إقرار كعب بالذنب صراحة وبلا مواربة ولا التفاف؛ كان غاية الصدق في وصف الحال القاطع للعذر؛ فليس من شأن المعتذر الصادق أن يغلّف اعتذاره ببُنيّاتٍ من هنا وهناك، يُسْعف بها موقفه، ويخفّف بها ذنبه! وهكذا ينبغي أن يكون كلّ مسلم عَقَد العزم على التوبة من ذنب، لا بدّ أن ينسلخ من عار الذنب بلا تردد، ولا يُبقي عليه شيئا من لوثاته؛ إكراما لجناب التوبة، وإرغاما للشيطان الذي أزّه ولعب به! وهكذا ينبغي على محاضن التربية اليوم أن تربي أجيالها على هذه الخصلة الرائعة، والتي لا تنشأ دفعة واحدة، وإنما هي مجاهدة ومغالبة.
فليس من شأن المعتذر الصادق أن يغلّف اعتذاره ببُنيّاتٍ من هنا وهناك، يُسْعف بها موقفه، ويخفّف بها ذنبه!
ومن
جميل التدبير التربويّ أن يكافَأ المخطئ الجريء في الاعتراف بالخطأ، المتحرّي
الصدق في الأوبة؛ بأن يُثنى على أخلاقه مثلا، أو يُذْكَر بالخير في مشهده ومغيبه.
من التوجيهات النبوية في قصة كعب إيصال رسائل
للمُعاقب أن تلك العقوبة ليست ناتجة عن مشاعر كراهية أو تشفي، فقد كان صلى الله
عليه وسلم يوصل بعض تلك الرسائل لكعب في نص حديث كعب: (ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا
مِنْهُ -يقصد النبي صلى الله عليه سلم- فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ
عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي)
فكانت تلك النظرات الخفية التي استرقها كعب من الرسول بمثابة توجيه نبوي عظيم أن
تلك العقوبة من أجل التأديب، والعقوبة ليست ترجمة لمشاعر كراهية أو بغض داخل
المربي للمتربي، بل هي ترجمة لمشاعر حرص وتقويم.
إنّ
حزن المخطئ وشدة ندمه على ما بدر منه؛ هو صريح الإيمان الذي عَمر قلبه، وملأ
جوانحه؛ فمع الذنب تُعاتِب كعباً نفسه، وتلومه روحُه على ما ضيّع؛ حتى تخلّف في المنافقين
والمعذورين، ويا له من شعور قاصم للظهر! ولولا الإيمان ما انتابه هذا الشعور؛
وكذلك حال كلّ صادق، قد يذنب ويغلط، ولكنّ دخيلة نفسه تأبى إلا الرقيّ في معارج
الاعتراف الصادق والندم، وقد قال عليّ بن الجهم، وصَدَق:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه
كلّها ...كفى المرءَ نبلاً أن تُعدّ معايبُهْ
ينبغي أن تُراعى أحوال الواقع في الذنب، فلا يعاقَب بما لا طاقة له به، فتكون العقوبة الزائدة عونا للشيطان عليه، وتلك مهارة يكتسبها المربّون الأذكياء؛ فلا يبالغون في ردة الفعل، بل يحققون العدل بلا شطط ولا حنق، وليس من الفقه أن يُقاس الجميع على كعب t؛ فلو كانت عقوبته عامة لعوقب بها غيره في حوادث أخرى كثيرة، ولكن الواقع يشهد أن النبي ﷺ كان يعامل كلّ واحد من أصحابه بما يليق به، ويلومه بما يناسب ذنبه وحاله! والمسطرة الواحدة في هذا الباب ظلم لا يتفطن له إلا أذكياء المصلحين!
ينبغي أن تُراعى أحوال الواقع في الذنب، فلا يعاقَب بما لا طاقة له به، فتكون العقوبة الزائدة عونا للشيطان عليه
من الفوائد أيضا في قصة توبة كعب تغافل
النبي صلى الله عليه وسلم عن عقوبة المنافقين على الرغم من يقين معرفته بكذبهم في
قوله لكعب (أما هذا فقد صدق) وإيكالهم لعقاب الآخرة، أما تأديب النبي صلى الله
عليه وسلم لكعب نبع من معرفته بصدقه ورجاء الخير منه على عكس غيره ممن كذبوا من
المنافقين، وفي هذا فائدة أن التأديب يتناسب طرديا مع رجاء الخير في المتربي وقد ظهر
هذا الخير في استجابة كعب لعقوبة النبي رغم الإغراءات والابتلاءات التي جاءته طيلة
فترة العقوبة.
([1])
– لا غنى عن قراءة قصته مرارا وتكرارا،
كما وردت في صحيح البخاري (6/ 3): "باب حديث كعب بن مالك، وقول الله عز وجل: ﴿وعلى
الثلاثة الذين خلفوا﴾"، ويُنصح بتحفيظ الحديث للقادة التربويين وطلبة التحفيظ
وحلقات الصغار؛ ففيه من المعاني ما لا يحصى كثرة!
إضافة تعليق