أنا مشرف على حلقة قرآنية بمسجد حيِّنا، أعلّم فيها الأطفال تجويد القرآن، وأحفظهم ما تيسر من كتاب الله -عز وجل-، وأشرح لهم معاني الآيات بصورة إجمالية، وأقوم أحيانًا معهم ببعض الأنشطة الترفيهية والتعليمية والتربوية ..
أنا مشرف على حلقة قرآنية بمسجد حيِّنا،
أعلّم فيها الأطفال تجويد القرآن، وأحفظهم ما تيسر من كتاب الله -عز وجل-، وأشرح
لهم معاني الآيات بصورة إجمالية، وأقوم أحيانًا معهم ببعض الأنشطة الترفيهية
والتعليمية والتربوية؛ بحيث لا يقتصر الأمر على مجرد ترديد الآيات دون فهم
لمعانيها، أو تشرب للفوائد والدروس المستفادة منها.
لكنني أحيانًا أشعر بالتناقض فيما
أفعل، لاسيما حين أرتكب ذنبًا أو يعتريني في أوقات ما ضعف في إيماني أو فتور عن
أداء السنن وتقصير في الواجبات، فأحدّث نفسي بذلك، وأرى في بعض طلبتي اجتهادًا
أكثر مني في العبادات والمحافظة على الفرائض ومراجعة القرآن وقراءة الأوراد..
كثيرًا ما أقرر التوقف عن التدريس لهذا السبب، لكن إخواني ينصحونني بالاستمرار مع
المجاهدة، ولا أدري حقيقةً ما جدوى ذلك. فهل أتوقف؟! أم أن هناك علاجًا لهذا الضعف
الشديد الذي أحسّ به من آن لآخر؟!
الجواب:
الأخ العزيز، نشكر لك جهدك الذي
تبذله من أجل تعليم وتربية أبناء المسلمين، وبَذلُك في ذلك لجهد أكبر بحيث يتعدى
الأمر مجرد التلقين لغرس العقيدة والمعاني التربوية والأخلاقية العميقة، فهذا جهد
مشكور وقليل من يقوم به الآن.
أخي الكريم: كما يحتاج الإنسان إلى
غذاء يقيم بدنه، ويحافظ عليه من الهلاك، فإن حاجته لغذاء الروح أعظم من حاجته
لغذاء الأبدان؛ لأن فوات غذاء الأبدان ينتج عنه هلاك الأجساد في الدنيا، وأما غذاء
القلوب فينتج عن فقدانه خسارة الدنيا والآخرة؛ ولذلك شبّه الله تعالى من فقد غذاء
الروح بالميت، وجعل نور الوحي حياة لتلك الروح، تنجو به من ظلمات التيه، وتتكامل
معها إنسانيته التي كرمه الله تعالى بها، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ
فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 122].
والحفاظ والاستزادة من الغذاء
الإيماني صفة أهل الإيمان الحقيقي؛ قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
وأنت -أيها المربي الكريم- قد تسنّمت
منزلةً عظيمةً عبر قيامك بوظيفة تربية النشء وتزكيتهم؛ وتحتاج إلى زاد إيماني
مستمر تستعين به في أداء رسالتك، حتى تضمن التجدد وتنجو من التبدد، وبين يديك جملة
من الأمور المهمة، أسأل الله تعالى أن ينفعني وإياك بها:
أولاً: استشعر دائمًا أنك في عبادة،
وأن دورك في هذه الحياة هداية الخلق للحق، واطلب الثواب من الله تعالى، وأخلص له
القصد وحده، ولا تنتظر الثواب من أحد غير الله تعالى، وكلما جعلت الله تعالى غايتك
وقصدك نجوت من مكائد الشيطان، وحفظ الله تعالى عليك إيمانك، فلم يكن للشيطان إليك
سبيل؛ كما حكى الله تعالى عن إبليس: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص: 82، 83]. وكلما عظم
استشعارك لهذا المعنى شعرت بحلاوة الإيمان في قلبك، وزاد حرصك على البذل والعطاء.
وثانيًا: اطلب الكمال في أداء
رسالتك دائمًا، وابذل أسباب تحقيق ذلك؛ من خلال الحرص على اكتساب المهارات العلمية
والفنية والتربوية، وعدم الاكتفاء بالوسائل القديمة، وهذا كله داخل في معنى حديث
عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يحب
إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه). [رواه أبو يعلى في مسنده وصححه الألباني].
فلربما كنت سببًا في إخراج عظيم
ينشر الخير في العالم، ويرفع مناره في قادم الأيام، واعلم أن العظماء الذين تعدى
عطاؤهم ونفعهم عموم الناس، إنما كانوا نتاج من كان يرعاهم ويربيهم، ويشحذ هممهم
ويرقيها في درجات السمو، فالشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل، وابن تيمية،
وبطل الصحراء عمر المختار، والأمير القائد عبد الكريم الخطابي... وغيرهم من
العظماء الكثير، كانوا أثرًا من آثار من رباهم وصاغ شخصياتهم في بدايات حياتهم.
ثالثًا: اعمل بعلمك، وصدّق بأفعالك
أقوالك، فإن فعلت ذلك وجدت لذلك لذة إيمانية عظيمة في قلبك، ووجدت انسجامًا وتصالحًا
مع نفسك، وشعرت بصلاح البال، وطمأنينة القلب، ونجوت من التوبيخ والوعيد في قول
الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2،
3]، والعذاب الشديد في الآخرة؛ فعن أسامة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنهما- قال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في
النار؛ فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع
إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟!
فيقول: بلى؛ كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه) [متفق عليه].
وتأمل قول ابن القيم في وصف من ناقض قوله بفعله: (... جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا! قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم؛ فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طريق). نقلًا عن كتاب الفوائد لابن القيم.
وقال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي والطبيب مريض
رابعًا: داوم على تحقيق الاستقامة،
واحرص على فعل النوافل والفرائض، واجتناب المكروهات والمحرمات، وليكن لك وردٌ من
القرآن، مع الإكثار من ذكر الله تعالى في جميع أحوالك؛ فإن ثمرة ذلك الدخول في
زمرة أولياء الله تعالى السعداء، الذين تتنزل عليهم الملائكة لتغمرهم بالأمن
والطمأنينة، والسكينة والسعادة، وتبشرهم بالفوز برضوان الله تعالى وجنته، قال الله
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)
[فصلت: 30 - 32].
وعنْ أبي هُريرةَ قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ قال: مَنْ عادَى لي وليًّا فقدْ آذَنْتُهُ
بالحَرْبِ، وما تقرِّبَ إليَّ عَبْدي بِشيءٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افْترضتُ عليْه،
وما يزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحبَّه، فَإذَا
أَحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ بِهِ، وبَصَرَهُ الَّذي يبْصِرُ
بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا، ورِجْلَهُ التي يَمْشي بِهَا، وإنْ سَأَلَني
لأعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتعَاذَنِي لأعيذَنَّهُ). [البخاري: 6502].
خامسًا: تعرّف على سيرة المصلحين،
وجهودهم في تربية أممهم ومجتمعاتهم، ووفي مقدمتهم الأنبياء -عليهم وعلى نبينا أفضل
الصلاة وأتم التسليم-، والمصلحين من أصحابهم وعلى رأسهم أصحاب نبينا، رضي الله
عنهم وأرضاهم، ومن حمل عنهم تلك المسؤولية من العلماء والمصلحين، وحينها ترتفع
همتك، ويزداد ويتجدد إيمانك؛ قال الله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120].
سادسًا: لازم أصحاب الهمم العالية،
واحرص على الرفقة الصالحة، الذين ترتقي بهم ويرتقون بك في مقامات الفضل والخير،
واحرص على تكوين البيئة المعينة لك على أداء دورك العظيم، فالنفوس تتأثر بمحيطها
وما حولها، والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل كما قال -عليه الصلاة وأتم
التسليم-.
سابعًا: محاسبة النفس المستمرة، من
خلال التقييم المستمر للأداء، والسعي لإصلاح جوانب القصور والخلل في البدايات،
والحذر من غوائل النفوس وأدوائها، ومن أعظمها الحسد بين المشتغلين بهذه الرسالة
المهمة، والعجب بالنفس، والرياء وطلب الأجر والثواب من الخلق، وملازمة الاستغفار
من أي قصور أو خلل، قال الله تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد:
19].
وعن الأغر المزني -رضي الله تعالى
عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر
الله في اليوم مائة مرة). [مسلم: 7033].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في
اليوم أكثر من سبعين مرة). [البخاري: 6307].
ثامنًا: تفاءل، ولا تجعل لليأس إلى قلبك طريقًا، فيثبطك ويوهن قلبك، ويلقي عليك سحابة من القنوط لا تمطر إلا على القلوب الخالية من الإيمان بالله تعالى ومعرفته، ولا تستعجل قطف الثمار سريعًا، واجعل تركيزك على إتقان البدايات، وأما النهايات فكل أمرها إلى الله تعالى، وهو لن يضيع جهدك ما دمت كذلك.
فعليك بذر الحب لا قطف الجنا
والله للساعين خير معين
ولا تستسلم للمعارضات المعاصرة
فتقعدك عن رسالتك وقيامك بواجب توجيه النشء وتربيتهم، فإنك رائد في المجتمع، وليس
من صفات الرائد اليأس والوهن والضعف، وتضييع الحقوق الواجبة واستبطاء التغيير
المنشود تحت ضغط المعارضات من حولك؛ قال الله تعالى: (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
وتذكر قول الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- لما خيَّره الله أن ينزل العذاب على قومه: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا). [متفق عليه].
تلك الأيادي التي امتدت ليوسف عن
حقد فألقته في جب بلا شفقة
هي الأيادي التي امتدت بفاقتها
يومًا لتسأله شيئًا من الصدقة
يصرّف الله أحوال العباد فلا
تقلق وعش مؤمنًا في عزة وثقة
تاسعًا: أكثر من الدعاء أن يثبت الله
قلبك على الإيمان، وأن يعينك في أداء واجبك وحمل رسالتك، واستشعر أنه -سبحانه
وتعالى- قريب منك، وأنه لا يرد دعاءك أبدًا؛ فعن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه
يديه أن يردهما صفرًا). [أخرجه الأربعة إلا النسائي، وصححه الحاكم].
وعاشرًا: وهي ختامها، تذكر أنك ميتٌ،
وأن مقامك عند الله تعالى يوم القيامة عظيم، فما هو جوابك يوم يتوجه السؤال إليك
عن عمرك ووقتك وحياتك، وما وهبك الله تعالى من النعم التي لا تعد ولا تحصى، هل
أديت شكرها، وهل أديت الأمانة التي شرفك الله تعالى بها يوم اختارك واصطفاك لتكون دليلاً
عليه، هاديًا الخلق إليه.
وتخيل ذلك النداء يوم القيامة حين
يتوجه إليك، كما قال تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ
عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 14].
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبي
الهدى والرحمة محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.
إضافة تعليق