يعرّف «ويتني» الموهوب بأنه الذي يُظهِر تفوقًا مستمرًا في أي ميدان من ميادين الحياة. كما أوردت «مارجريت لندسي» تعريف الموهوب بما جاء في القانون الأمريكي العام
سؤال: هل حُفّاظ القرآن الكريم من
الموهوبين؟
يعرّف «ويتني» الموهوب بأنه الذي
يُظهِر تفوقًا مستمرًا في أي ميدان من ميادين الحياة. كما أوردت «مارجريت لندسي»
تعريف الموهوب بما جاء في القانون الأمريكي العام: من يمتلك قدرات كامنة أو ظاهرة
يدلّ عليها أداءٌ رفيع في مجالات عقلية أو ابتكارية أو أكاديمية أو قيادية أو في
الفنون الأدائية أو التشكيلية.
إن الموهبة في مفهومها الشامل لم تعد
قاصرة على التحصيل في المجال الدراسي والأكاديمي، بل تعبر عن أداء مرتفع لدى
الموهوب في شتى المجالات[1].
وقد أولت المؤسسات التربوية الحكومية
في العالم أولوية تربوية للموهوبين، وصُنِّفوا تربويًا ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة؛
أي أنهم بحاجة إلى عطاء تربوي خاص يختلف عن أقرانهم غير الموهوبين، وتقوم وزارات
التربية والتعليم في العالم بإقامة برامج خاصة للموهوبين ذات ميزانيات عالية، إذ
إن أعظم الاستثمار هو الاستثمار في الإنسان، بل وصل الحال إلى أن أسست الحكومة
الأردنية مدرسة «اليوبيل»، وهي مدرسة ثانوية مختلطة تقدم برنامجًا للطلبة
الموهوبين والمتفوقين من مستوى الصف العاشر وحتى نهاية المرحلة الثانوية، ويقتصر
برنامجها على طلبة الفرع العلمي الذين يتم اختيارهم بعناية من بين مئات المرشحين
من مختلف أنحاء المملكة الأردنية[2].
ومن المفهوم الشامل للموهوب فإننا
وبثقةٍ يمكننا تصنيف حفاظ القرآن الكريم ضمن الموهوبين، ولا أود الإطالة في بيان
ذلك فهو من الوضوح بمكان لدى التربويين، لكني أتساءل: ما هو دور المؤسسات القرآنية
في رعاية هذا النوع من الموهوبين، أعني حفاظ القرآن الكريم، وماذا يمكن أن تقدمه
لهم؟ ولعلّ هذه المقالة تجيب على هذين التساؤلين.
أبو موسى الأشعري والقراء:
دعونا نستعرض هاتين الروايتين الواردتين
عن الأمير المقرئ الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.. بعد قرابة اثنتي
عشرة سنة، وفي ختام مسيرته التعليمية بمسجد البصرة، أو في ختام مرحلة منها؛ اجتمع
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بالتلاميذ الذين أتمّوا حفظ القرآن الكريم، حيث قال
لمساعديه: لا تُدخِلوا عليّ إلا من جمع القرآن. قال أبو الأسود الديلي: فدخلنا
عليه زهاء ثلاثمائة! فوعَظنا، وقال: «أنتم قرّاء أهل البلد، فلا يطولن بكم الأمد،
فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب أهل الكتاب. لقد أُنزلت سورة كنّا نشبهها ببراءة طولًا
وتشديدًا، حفظت منها آية: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لالتمس إليهما واديًا
ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وأنزلت سورة كنّا نشبهها بالمسبحات
أولها سبح لله، حفظت آية كانت فيها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون،
فتكتب شهادة في أعناقكم، ثم تسألون عنها يوم القيامة».
وفي رواية أبي كنانة، قال أبو موسى
الأشعري رضي الله عنه للتلاميذ الذين أتموا حفظ القرآن الكريم: «إن هذا القرآن
كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من
اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زجّ في قفاه فقذفه في النار»[3].
هاتان الروايتان قد تكونان في مناسبة
واحدة، وقد تكونان في مناسبتين مختلفتين، لكنهما تفيدان اجتماعًا يعقده أبو موسى
الأشعري رضي الله عنه بصفته الأستاذ، مع التلاميذ الذين أتموا حفظ القرآن كاملًا،
يقوم فيه على توجيههم ووعظهم، لينعكس أثر القرآن على سلوكهم وسمتهم.
إذن، أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
لم يكتفِ بأن قدّم دور «المحفّظ» لطلاب البصرة، بل أضاف دورًا آخر، هو دور
«المربّي»، وذلك إيمانًا منه بأن مسألة «جمع» القرآن مسألة لها ما بعدها، إما
الجنة أو النار، وأنّ عليه كـ«مقرئ مربٍّ» أن يأخذ بأيدي تلاميذه إلى الجنة بعد أن
حفظوا القرآن الكريم، وأن يسعى في وقايتهم من نار جهنم.. أعاذنا الله وإياكم منها.
وفي حديثه التربوي مع تلاميذه ما
يفيد اختصاصهم بمزيد عنايته، فقد جمع الذين أتموا حفظ القرآن الكريم فقط من بين
الكثرة الكاثرة من تلاميذه في مسجد البصرة. كما يفيد أنهم أهلٌ للاهتمام حيث قال:
«أنتم قرّاء أهل البلد».
أهمية رعاية الحفاظ:
- لقد سمى الله الذين حفظوا القرآن:
علماء، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]؛ قال الشوكاني رحمه الله: يعني المؤمنين الذين حفظوا
القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم وحفظوه بعده[4]. وهذا يعني أن الحلقة التي أتم
فيها بعض الطلاب القرآن الكريم حلقة تضم بين جنباتها علماء، فوجب الاهتمام بهؤلاء
العلماء.
- لا ينفع الحفظ دون الفهم الجيد
لهذا القرآن وفقهه، يقول ابن حزم محللًا نشوء التكفير عند فِرق الخوارج: كانوا
أجلافًا أعرابًا قرؤوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء، لا من أصحاب ابن مسعود، ولا أصحاب
عمرو ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا
أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سلمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر، ولهذا تجدهم
يكفّر بعضهم بعضًا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا، وصغارها...[5]. فتأمّل
هؤلاء الناس: يحفظون القرآن ويستدلون به ويكثرون من العبادة، غير أن فهمهم السقيم
للآيات وعدم تبصرهم بدلالاتها وترك التفقه في كتاب الله على أيدي المربّين
العارفين... تأمل إلى أين يذهب بهم هذا المسلك من الانحراف عن الجادة وجرّ الأمة
إلى شفير الانقسامات والاقتتالات وجلب الويلات لها.
- وجهت السنة إلى العناية بالحفاظ في
الدنيا في عدد من الأحاديث، منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم،
وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»[6]. ومنها
حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين
الرجلين من قتلى أحد ثم يقول: «أيهما أكثر أخذًا للقرآن» فإن أشير إلى أحدهما
قدّمه في اللحد[7].
- حفاظ القرآن الكريم مظنة الترؤس
والوجاهة والمكانة الاجتماعية والدينية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم
عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين
يدنيهم عمر، وكان القراءُ أصحابَ مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانًا. فقال
عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجهٌ عند هذا الأمير فاستأذِنْ لي عليه، قال:
سأستأذنُ لك عليه...[8].
وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن
نافع بن عبدالحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان. وكان عمر يستعمله على مكة. فقال: من
استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من
موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل عالم
بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا
الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين»[9].
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
أن يؤمّ الناسَ في الصلاة أقرؤُهم لكتاب الله[10] ومجموع هذه الآثار تدلّ على أن
حفاظ القرآن الكريم هم المقدمون في إمامة الصلاة وإمارة الناس، وتصديهم لهذه
الشؤون يتطلب قدرًا كافيًا من التهيئة والتأهيل والتجهيز.
- حفاظ القرآن هم تلاميذ اليوم
وأساتذة الغد، أي أنهم سيكونون في مستقبل الأيام نقلة الرسالة من الجيل السابق إلى
الجيل اللاحق، وحمل القرآن ونقل الرسالة لا يقوم بهما كما ينبغي إلا من أصبح لها
أهلًا وله على حملها قدرة، ولا يكون ذلك بدون الاعتناء بتلاميذ اليوم الذين أتموا
حفظ القرآن الكريم.
ما يمكن أن تقدمه الحلقات القرآنية
لحفاظ القرآن:
أولًا: الاهتمام بالمراجعة وإتقان
الحفظ:
وذلك لأن القرآن الكريم يُنسى بعدم
المراجعة، وحينها تفوت فضائل حفظه في الدنيا والآخرة. عن عائشة رضي الله عنها
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له [لفظ
مسلم: الماهر بالقرآن] مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو
يتعاهده وهو عليه شديد [لفظ مسلم: وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق] فله أجران»[11].
قال النووي رحمه الله: الماهر الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف، ولا يشق عليه
القراءة بجودة حفظه وإتقانه. وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف
حفظه[12]. فتأمل هذا الفضل العظيم كيف يفوت على حافظ القرآن حين تكون درجة إتقانه
لحفظه متدنية، لذا ثبت عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ تفصيًا من الإبل في
عقلها»[13]. قال ابن حجر رحمه الله: التشبيه وقع بين ثلاثة بثلاثة: فحامل القرآن
شبه بصاحب الناقة، والقرآن بالناقة، والحفظ بالربط[14].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت
وكيت، بل نُسي، واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم»[15].
قال البغوي رحمه الله: «نُسّي» أي عوقب بالنسيان على ذنبٍ أو سوء تعهده
للقرآن[16].
وإذا كان العلماء استنبطوا وجوب
مراجعة القرآن وتعاهده من الأحاديث السابقة، فإن فعل النبي صلى الله عليه وسلم
وسلف الأمة يدلّ على أن العرض على معلّمٍ: صورة من صورها، فعن عبدالله بن عباس رضي
الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون
في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول
الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسل»، وعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه
مرتين في العام الذي قبض»[17]، قال ابن حجر رحمه الله في قوله: «يعرض القرآن»: أي
يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه. وقال: والمعارضة مفاعلة من الجانبين، كأن
كلًا منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع[18]. وعن مجاهد قال: عرضت القرآن على ابن
عباس من فاتحته إلى خاتمته ثلاث عرضات، أقفه عند كل آية[19].
ومن وسائل الاهتمام بمسألة الإتقان:
الاختبارات وقد فعل ذلك خباب بن الأرت مع تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنهما[20]،
وهي مفيدة لاسيما إذا كانت مجدولة أو بشكل متكرر، وكل ما يؤدي إلى مقصودها فهو
مثلها كالمسابقات، حيث تهدف في نهاية المطاف إلى إتقان المحفوظ.
إن الاختبارات والمسابقات القرآنية
تحفز الطالب نحو المراجعة وتركيز اجتهاده في إتقان المحفوظ.
ثانيًا: التربية والتوجيه:
في تحليل الإمام ابن حزم رحمه الله
لتكفير الخوارج لبعضهم الآنف الذكر: إشارة قوية إلى أهمية اقتران التربية بحفظ
القرآن، وأن حفظ القرآن لوحده دون التربية الصحيحة على آدابه وأحكامه ودون الفهم
السليم لمعانيه ومراده قد يكون وبالًا على حافظ القرآن هذا. وعلى هذا دلّت النصوص
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أول من تسعر بهم النار ثلاثة»[21]، ومما
ينبغي أن يتربى عليه حافظ القرآن:
التربية على صدق الإيمان وصدق توجه
القلب إلى الله تعالى: ذلك هو لبّ أعمال القلوب، وقد قال جندب رضي الله عنه: كنا
مع نبينا صلى الله عليه وسلم فتيانًا حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم
تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا[22]. وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرٍ
وأحدنا يرى الإيمان قبل القرآن[23]، ويقصد أنهم كانوا يتعلمون الإيمان قبل تعلمهم
القرآن، فإذا كان هذا هو حالهم قبل تعلّم القرآن فما بالك بحالهم حين يحفظون
القرآن!
التربية على صدق الإيمان تتجلى في
أبهى صورها في الإيمان باليوم الآخر واليقين بما جاء فيه من أخبار الجنة والنار
والقبر والبعث والنشور.. لقد كانت هذه الصور حاضرة تمامًا في سلوك أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم حتى بلغوا مرتبة الإحسان.
إننا اليوم، واليوم بالذات؛ بحاجة
ملحّة إلى تصدر هذا الجانب من التربية في أولويات مقرراتنا.
التربية على التعبد والتنسّك: فهذا
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يوصي حفظة القرآن فيقول: ينبغي لحامل القرآن أن
يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس
يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس
يختالون[24].
التربية على قيام الليل: فهو على وجه
الخصوص له تأثير خاص على حافظ القرآن من جهتين - فضلًا عن الفضائل المتواترة في
قيام الليل -: أما الأولى فلكونه أثبت لحفظ القارئ إذا كان يقوم الليل من حفظه،
كما صح عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قام
صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإن لم يقم به نسيه»[25]. أما الثانية
فكونه سمتًا عباديًا لحامل القرآن، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به
آناء الليل وآناء النهار...»[26]. قال الحسن البصري رحمه الله: إن من كان قبلكم
رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل ويُنْفِذونها في النهار[27].
التربية على ملازمة تلاوته: وهي
لازمة من لوازم القيام بالقرآن الآنف الذكر. وقد كان سلف الأمة على هذا الأمر،
متفاوتة في مقدار ما يتلونه.
التربية على التدبر والفهم: وهو
المقصود من إنزال القرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا
آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، فإذا لم يحصل التدبر
والفهم لم يُغنِ حفظ القرآن عن صاحبه شيئًا. لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم يربّون حفاظ القرآن على هذا، عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له: نهيك بن سنان
إلى عبدالله [يعني ابن مسعود] فقال: يا أبا عبدالرحمن! كيف تقرأُ هذا الحرف، ألفًا
تجده أم ياءً: {مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: ٥١]، أو من ماء غير ياسنٍ؟ قال:
فقال عبدالله: وكلّ القرآن قد أحصيتَ غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصّل في ركعة.
فقال عبدالله: هذًّا كهذّ الشعر؟ إن أقوامًا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم. ولكن
إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع[28]. فانظر إلى هذا الإمام المربي وهو يلفت أنظار
الحفاظ إلى جانب مهم في حفظ القرآن: التدبر والفهم. قال النووي رحمه الله: معناه
إن قومًا ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم،
وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب[29].
التربية على الزهد في ما عند الناس
والاستغناء بالقرآن: كما كان عمر رضي الله عنه يوصي حفاظ القرآن الكريم، يقول: يا
معشر القراء! ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا
عيالًا على الناس. وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: ينبغي لحامل القرآن أن لا
يكون له حاجة إلى أحدٍ من الخلفاء فمن دونهم[30].
وفي الوقت الذي ينبغي على الحلقات
القرآنية تربية الحفاظ على الزهد في ما عند الناس والاستغناء بالقرآن تشتد الحاجة
إلى أن تقدم الحلقاتُ لهم البرامج التدريبية المتعلقة بالجانب العملي في اكتساب
الرزق والتعفف.
التربية على الاعتدال والتوسط ونبذ
الغلو والجفاء: عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب،
فكان يتعاهد كَنّتَهُ [أي زوجة ابنه] فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل،
لم يطأ لنا فراشًا ولم يفتش لنا كنفًا منذ أتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي
صلى الله عليه وسلم، فقال: «القني به» فلقيته بعد، فقال: «كيف تصوم؟» قلت: أصوم كل
يوم. قال: «وكيف تختم؟» قلت: كل ليلة. قال: «صم في كل شهرٍ ثلاثة واقرأ القرآن في
كل شهر». قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم ثلاثة أيام في الجمعة» قال: قلت: أطيق
أكثر من ذلك. قال: «أفطر يومين وصم يومًا». قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «صم أفضل
الصوم صوم داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرة». فليتني قبلت
رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم[31]. فهذه تربية من النبي صلى الله عليه وسلم
لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما على التوسط والاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه، وهكذا
ينبغي على المربين في الحلقات القرآنية أن يعملوا على إحداث الاتزان في حياة حافظ
القرآن.
التربية على الاستقامة وترك المعاصي
والمحرمات: نقل البغوي عن الضحاك بن مزاحم قوله: ما من أحدٍ تعلّم القرآن ثم نسيه
إلا بذنبٍ يحدثه، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ونسيان القرآن
من أعظم المصائب[32]. وهذه إشارة إلى مسؤولية التربية الإيمانية التي ينبغي
العناية بها لطلابنا الحفاظ، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: يا معشر القراء!
استقيموا. فقد سبقتم سبقًا بعيدًا. وإن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا
بعيدًا[33].
كم هو مؤسف أن ترى عشرات الحفاظ
للقرآن الكريم يستسهلون المعاصي والمحرمات، ولا تطيب نفوسهم بالاستقامة، وإنك
لتتساءل: أين التربية القرآنية؟ وما هي الفائدة من هذا النتاج الشكلي الخالي من
المضمون والجوهر!
التربية على القيام بواجب الدعوة،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»[34]. لقد كان القراء من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يتصدرون المبلغين دعوة الله إلى الأمة،
وقد سماهم الله علماء في كتابه، فوجب عليهم الدعوة والبلاغ. لكن هذا الواجب لا
يمكن للحفاظ أن يقوموا به ما لم تكن الحلقة القرآنية تربيهم على ذلك وتربيهم على
مهاراته وآدابه وضوابطه والاتزان فيه. وإننا بحاجة في هذا الزمن إلى إيقاد جذوة
الدعوة إلى الله بشتى فنونها وتقنياتها في نفوس طلاب الحلقات القرآنية وفق منهج
منضبط متوازن يجمع بين الأصالة والإبداع، وإلا فإن تخريج طالب يحفظ القرآن الكريم
دون أن يكون لديه همٌّ لحمل الدعوة إلى الله يشبه طباعة مصحف جديد فقط.
لمّا مات النبي صلى الله عليه وسلم
كان علماء الصحابة وقراؤهم رسلًا من الخلفاء إلى الأمصار ليعلموا الناس دين الله
ويبلغوهم دعوة الله، فأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري إلى
البصرة مقرئًا وأميرًا، وأرسل عبدالله بن مسعود إلى الكوفة وأرسل أبا الدرداء
ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت إلى الشام، فأنشؤوا مدارس القرآن العظيمة التي ننهل
من علومها إلى اليوم.
ثالثًا: تعليم أحكام القرآن وتفسيره:
فهذا سيد القراء أبي بن كعب رضي الله
عنه يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم سورة في القرآن[35] وقد كان القراء من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عالمين بالتفسير والأحكام، بل كان تعليمُ التفسير
والأحكام هديًا تعليميًا يعمل به معلمو القرآن الكريم منهم، قال مجاهد: عرضت
القرآن على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته ثلاث عرضات أَقِفُهُ عند كل آية[36].
ومن العجيب أن هدي السلف رحمهم الله جرى على ألا يَشرع أحدٌ في طلب العلم إلا بعد
أن يختم القرآن الكريم، كما أوصى بذلك عبدالله بن عبيد بن عمير ابنَ جريج، حيث ذهب
ابنُ جريج ليطلب العلم على عطاء فقال له عبدالله بن عبيد: قرأتَ القرآن؟ قال ابن
جريج: لا. قال: فاذهب فاقرأه ثم اطلب العلم[37].
رابعًا: اكتشاف قدرات الحفاظ
وتوجييهم نحو استثمارها:
لا شك أن حفاظ القرآن الكريم لديهم
مواهب مشتركة ألّف بينها حفظُهم لكتاب الله، ككثير من مهارات التفكير، والمهارات
اللغوية والفنية.. وهذه النقطة لوحدها بحاجة إلى تتبع ودراسة وتمحيص.. غير أن كل
طالبٍ حافظٍ للقرآن الكريم هو عبارة عن شخصية مستقلة ذات ميول واستعدادات تختلف عن
شخصية الحافظ الآخر وفقًا لتأثيرات الوراثة والبيئة، وإن باجتماعها مع حفظ القرآن
ترقى بالطالب لأن يكون مميزًا في جانب من الجوانب الحياتية. وإنّ على المؤسسة
القرآنية أن تبحث عن كُنْهِ هذه الشخصية وتكتشف طاقاتها وقدراتها وتعمل على
تفعيلها، لعل الله أن ينفع بها الأمة والإسلام، أو على الأقل يكون الحافظ عنصرًا
فعالًا في أسرته ومجتمعه.
هذا شيخ المقرئين والفرضيين كما
يسميه الذهبي[38] الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو ممن حفظوا القرآن
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أتي به النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة،
فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة
سورة. قال: فقرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه ذلك، وقال: «يا زيد!
تعلّمْ لي كتابَ يهود؛ فإني والله لا آمنهم على كتابي»، قال: فتعلمته. فما مضى لي
نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كتب إليهم[39].
فتأمل قدرة المربي الكبير صلى الله
عليه وسلم على اكتشاف قدرة زيد بن ثابت على تعلّم اللغات، وهو جزء مما يسمى اليوم
(الذكاء اللغوي) ثم وجّهه إلى استثماره فكان أن أتقن لغة بأكملها في نصف شهر.
إن هذا يدعونا إلى اكتشاف طلابنا
الذين حفظوا القرآن اكتشافًا علميًا دقيقًا وليس اكتشافًا انطباعيًا تفرسيًا، لأن
النتيجة حين يكون الاكتشاف موفقًا: نتيجة مبهرة.
وقد برع زيد رضي الله عنه إضافة إلى
ما ذُكر في الفرائض.
وإن جزءًا كبيرًا من مشكلات حفاظ
القرآن اليوم أنّهم فاقدون للبوصلة، وعلى المؤسسات القرآنية أن تعيد لهم هذه
البوصلة الخطيرة، من خلال اكتشاف قدراتهم واستعداداتهم وذكاءاتهم، ومن خلال سماتهم
الشخصية، ومن خلال ميولهم المهنية، ومن خلال اتجاهاتهم القيمية.
برامج رعاية الحفاظ:
من خلال ما سبق يتبين لنا أهمية
صياغة البرامج الخاصة برعاية حفاظ القرآن الكريم، وفي هذه الحال، وعند وجود القناعة
الكافية لدى المؤسسة القرآنية بأهمية وجود هذه البرامج الخاصة فإنا نوصي بما يأتي:
أن تكون رعاية الحفاظ أمرًا متفقًا
عليه لدى القيادات العليا في المؤسسة القرآنية، ويمكن ترجمة ذلك بوجود بنود خاصة
بهذا الشأن في سياسات ولوائح المؤسسة. وفي حال فقدان القناعة أو ضعفها لدى
القيادات فإن حماس التنفيذيين في المؤسسة سيصطدم بصخرة القيادات العليا.
ينبغي أن يتولى الإشراف والتنظيم
والتخطيط ودراسة الاحتياجات لبرامج رعاية الحفاظ نخبة من التربويين ذوي العلم
والخبرة، عبر إدارة مستقلة أو لجنة مكلفة ونحو ذلك، وأن تُمنح لهم الصلاحيات
اللازمة والثقة الكافية ليقوموا بهذا الدور على أفضل ما يمكن.
صياغة منهج تربوي لرعاية الحفاظ
صياغة علمية يلبي احتياجاتهم الخاصة، ويواكب قدراتهم، ويكون مكملًا للبرنامج
التربوي المقدم لهم سابقًا. ولو بدأت بعض الحلقات بوضع قدمها في أول سلم رعاية
الحفاظ مجتهدة ما استطاعت، وطوّرت من خبراتها فإنها بإذن الله ستصل إلى القمة في
هذا النوع من النشاط.
تأهيل المربين الذين سيقدمون هذا
البرنامج بعناية، وفق مقاييس علمية، وتعدّ لهم الصلاحيات اللازمة والحوافز
المشجعة.
تهيئة البيئة التربوية الصالحة
لاستيعاب واستقطاب حفاظ القرآن الكريم.
وبعد..
فهذا نداء إلى المؤسسات القرآنية في
كل مكان، وفي بلاد الحرمين بشكل خاص، والتي تخرّج كل عام الآلاف من الطلاب
والطالبات الذين أتموا حفظ القرآن الكريم في حلقات تحفيظ القرآن الكريم.. بأن
يعيدوا النظر في ثمرات جهدهم ونتاج زرعهم الذي سقوه سنين عددًا، رعاية وتنمية
وتثبيتًا وتزيينًا، قبل أن يذبل أو تتخطفه الريح أو تقضي عليه الآفات. والله ولي
التوفيق.
-------------
[1] انظر: «الموهوبون ورعايتهم.. رؤية تربوية»،
دراسة أعدها أ.د. إبراهيم بسيوني عميرة، منشورة في كتاب: «الموهوبون أساليب اكتشافهم
وسبل رعايتهم في التعليم الأساسي»، مكتب التربية العربي لدول الخليج، ص19–20.
[2] «الموهبة والتفوق والإبداع»، فتحي جروان،
ص412.
[3] حلية الأولياء (1/257).
[4] فتح القدير (4/258).
[5] الفصل (4/132).
[6] أخرجه أبو داود (4/261) كتاب الأدب، باب في
تنزيل الناس منازلهم حديث رقم 4843، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/918).
[7] أخرجه البخاري (1/412) كتاب الجنائز، باب
الصلاة على الشهيد حديث رقم 1343.
[8] أخرجه البخاري (3/231) كتاب التفسير، باب
«خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين»، حديث رقم 4642.
[9] أخرجه مسلم (1/559) كتاب صلاة المسافرين،
باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، حديث رقم 817.
[10] الحديث أخرجه مسلم (1/465) كتاب المساجد
ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة، حديث رقم 673.
[11] متفق عليه، البخاري (3/321) كتاب التفسير،
باب سورة عبس، حديث رقم 4937، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن
والذي يتتعتع فيه حديث رقم 1859 .
[12] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (6/326).
[13] أخرجه البخاري (3/348) كتال فضائل القرآن،
باب استذكار القرآن وتعاهده حديث رقم 5033.
[14] فتح الباري (8/700).
[15] أخرجه البخاري (3/348) كتال فضائل القرآن،
باب استذكار القرآن وتعاهده حديث رقم 5032.
[16] شرح السنة (4/495).
[17] أخرجهما البخاري (3/341) رقم 4998،4997,
باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي .
[18] فتح الباري (8/659).
[19] مصنف ابن أبي شيبة (6/153)، كتاب فضائل
القرآن، باب في درس القرآن وعرضه رقم 30278.
[20] صحيح البخاري كتاب المغازي، باب قدوم
الأشعريين وأهل اليمن، حديث رقم 4391، وانظر الإفصاح (2/82).
[21] أخرجه الترمذي (4/591)، كتاب الزهد، باب ما
جاء في الرياء والسمعة، حديث رقم 2382.
[22] أخرجه ابن ماجه (1/46) المقدمة، باب
الإيمان، حديث رقم 61 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/37).
[23] أخرجه الحاكم في المستدرك (1/35) وقال:
صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علّة، ووافقه الذهبي.
[24] التبيان في آداب حملة القرآن، ص43.
[25] أخرجه ابن نصر في «قيام الليل»، وصححه
الألباني في السلسلة الصحيحة (2/147) حديث رقم 597.
[26] أخرجه البخاري (3/346)، كتاب فضائل القرآن،
باب اغتباط صاحب القرآن حديث رقم 5025، ومسلم (1/558)، كتاب صلاة المسافرين
وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه حديث رقم 815.
[27] التبيان في آداب حملة القرآن ص43.
[28] أخرجه مسلم (1/563)، كتاب صلاة المسافرين،
باب ترتيل القراءة واجتناب الهذ حديث رقم 822.
[29] المنهاج للنووي (6/345).
[30] التبيان في آداب حملة القرآن ص43.
[31] أخرجه البخاري (3/351) كتاب فضائل القرآن،
باب في كم يقرأ القرآن، حديث رقم 5052.
[32] شرح السنة للبغوي (4/495).
[33] أخرجه البخاري (4/360)، كتاب الاعتصام، باب
الاقتداء بسنن رسول الله، حديث رقم 7282.
[34] أخرجه البخاري (2/493)، كتاب الأنبياء، باب
ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث رقم 3461.
[35] صحيح البخاري (3/342)، كتاب فضائل القرآن،
باب فضل فاتحة الكتاب، حديث رقم 5006.
[36] مصنف ابن أبي شيبة (6/153) كتاب فضائل
القرآن، باب في درس القرآن وعرضه،رقم 30278.
[37] سير أعلام النبلاء (6/327).
[38] سير أعلام النبلاء (2/426).
[39] سير أعلام النبلاء (2/428)
إضافة تعليق