في إطار المقارنة بين التّربية التّوحيدية والتّربية الوساطية، يمكن أن نلاحظ شساعة الفرق بين العمليتين، من خلال المقارنة بين المسؤولين التّربويين في هذه وتلك.
في إطار المقارنة بين التّربية التّوحيدية
والتّربية الوساطية، يمكن أن نلاحظ شساعة الفرق بين العمليتين، من خلال المقارنة بين المسؤولين التّربويين
في هذه وتلك؛ إذ هو في التّربية التّوحيدية (مُرَبٍّ)، وهو في التّربية الوساطية مجرد
(وسيط)، وإن تسمى بالمربّي، ذلك أن المربّي هو الذي يقوم بتنمية الفرد، وترقيته في مراتب التّدين، والتّشكيل النّبويّ
لشخصيته، على أساس التّجرد والاستقلال، فلو أردنا التّمثيل الماديّ للعمليتين،
من حيث اختلاف المربّي والوسيط، لكان المربّي هو معلّمك كيفية صيد الأسماك في المثال
المشهّر: "لأن تعلّمني كيف أصطاد السّمك، خير لي من أن تعطيني كل يوم سمكة"،
ولكان الوسيط هو الذي يتصدق عليك كل يوم بسمكةٍ! فانظر أيّ فرقٍ بينهما! وأيّ فرقٍ
بعد ذلك بين العمليتين في الحال والاستقبال!
فالمربّي إذن هو الذي يعلّمك كيف تكون منتِجًا، والوسيط هو الذي ينتِج بدلًا منك، فيعطيك المفاهيم جاهزةً من خلال كتابه، أو ردّه، أو حاله، فلا تكون إلا مستهلكًا، والمربّي هو الذي يعلّمك كيف تنمّي قدراتك الذّاتية، ومواهبك الشّخصية، فتكون بعد ذلك نسيج وحدك، وطراز شخصك، لا فردًا من نمطٍ واحدٍ، متعددٍ في الشّكل، متّحدٍ في الجوهر يسعى لتقمص شخصية الوسيط؛ لأن الوسيط يقوم بالحدّ من مواهبك الشّخصية، ومحاولة إلغاء قدراتك الذّاتية، من خلال تلقينك المفاهيم الجاهزة، والمقولات المستهلكة؛ فلا يترك لك فرصةً للتفكير، أو النّقد، أو المراجعة؛ لأنه يقوم من خلال وساطته، بتدمير جهاز المناعة الذّاتية في العقل، فيحدث في الفرد حالةً من الاستسلام التّام، لكل ما يتلقاه عنه، حقًّا كان أم باطلًا!
المربّي هو الذي يعلّمك كيف تنمّي قدراتك الذّاتية، ومواهبك الشّخصية، فتكون بعد ذلك نسيج وحدك، وطراز شخصك، لا فردًا من نمطٍ واحدٍ، متعددٍ في الشّكل، متّحدٍ في الجوهر يسعى لتقمص شخصية الوسيط؛ لأن الوسيط يقوم بالحدّ من مواهبك الشّخصية،
ويتضح الفرق أكثر في النّتيجة التّربوية
لكل من المربّي والوسيط، وذلك أن المتربّي المتخرّج من المدرسة التّوحيدية، يكون موحّدًا
حقًّا لله عزّ وجلّ، تصورًا وممارسةً، حيث لم يكن خاضعًا قطّ لشخصية المربّي، بقدر
ما كان خاضعًا لتوجيهات النّصوص الشّرعية، فهو إذن مرتبط عقديًا بالله عزّ وجلّ، لا
بهذا المفكّر، أو بهذا الشّيخ، بينما هالة الوسيط القوية، تتغلب على إرادة المتربّي
المستلبة، والممنوعة من الإنتاج، الموجّهة بالقصد الأول إلى الاستهلاك، فتحلّ (بقداستها)
المقصودة، أو غير المقصودة، في شعور المتربّي، فإذا به -من حيث يدري أو لا يدري- يعاني
من (وثنيةٍ) خفيةٍ، حيث يزاحم حضور الوسيط بهالته، حضور الذّات الإلهية في نفسه، ووجدانه،
ثم بعد ذلك في ممارسته، وحركته.
إن الوسيط على حدّ تعبير الدّكتور إدريس نقوري يحتلّ: "مركز الصّدارة، ويتمتع بسلطةٍ قويةٍ، ذات تأثيرٍ ونفوذٍ كبيرين على الذّات، وعلى الموضوع في آنٍ واحدٍ"، بينما نجد المربّي متجرِّدًا من كل ذلك؛ إذ ما هو من النّاحية التّربوية إلا أداةً إجرائيةً بالقصد الأصلي، تساعد على تنزيل العملية التّربوية على أحسن وجهٍ، وتمثل فعل الأمر: (قُلْ) المحذوف في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، فلم يذكر النّص الرّسول صلى الله عليه وسلم حينما تعلّق الأمر بمسألةٍ تعبديةٍ تربويةٍ، حيث وجب الرّبط المباشر للمتربّين بالله؛ إذ لم تكن المسألة تعليميةً، يرتبط الجواب فيها بوجود المعلّم الشّارح، كما في سائر أسئلة القرآن، نحو قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222] ونحوها كثير، كما هو معلوم.
إن الوسيط على حدّ تعبير الدّكتور إدريس نقوري يحتلّ: "مركز الصّدارة، ويتمتع بسلطةٍ قويةٍ، ذات تأثيرٍ ونفوذٍ كبيرين على الذّات، وعلى الموضوع في آنٍ واحدٍ"،
فالمربّي كما هو في الآية الأولى، موجودٌ
بالقصد التّبعيّ، لا بالقصد الأصليّ؛ لأن السّياق يقصد بالأصالة، ربط العباد بربهم
ربطًا مباشرًا، ولا يمنع هذا من تقدير وجود المربّي، من خلال الفعل المقدّر: (قل)،
باعتباره مكوّنًا للمتربّين بالمادة الشّرعية أولًا، وبسلوكه الإسلاميّ، وقدوته الحسنة
بعد ذلك ثانيًا، ولكن على أساس أن يكون هذا القصد الثاني خادمًا للقصد الأول الأصليّ،
لا هادمًا له؛ لأنه إنما هو مكمّل ومتمّم لقصد ربط العباد بربهم، وأيّ انحراف عن هذا
القصد يفقد المربّي وظيفته كمُرَبٍّ، فيتحول إلى وسيطٍ مزاحمٍ للقصد الأصلي التعبديّ،
ومخالف له؛ ومن هنا قال أبو إسحاق الشاطبيّ في قاعدته المقاصدية: "كل تكملة، فلها
-من حيث هي تكملة- شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال".
ويختلف المربّي بعد ذلك عن الوسيط، في منهج
الاستيعاب الخارجيّ، كما يسميه الأستاذ فتحي يكن؛ لكون المربّي يستقطبه لحركته على
أساس مبادئها، وبرامجها، لا على أساس أسمائها، ورموزها، فلا تطغى الحزبية على المبدئية،
ويكون التّركيب الأوليّ للفرد، إنما هو على مدى الاقتناع بالمشروع الكليّ للحركة، لا
على مدى الإعجاب بالقائد الفلانيّ، أو المفكر الفلانيّ، ولا على مدى الانبهار بكرامات
الشيخ الفلانيّ، أو مقاماته.
فالربط التوحيديّ الذي يقوم به المربّي، هو ربط بالمشروع الإسلامي
أساسًا، فهو ربط بالله، والربط الوساطيّ الذي يقوم به الوسيط، هو ربط بالذّات، أو الذّوات
الشّخصانية، المؤسسة للتنظيم، والُمَسَّيرة له، فيكون الانحراف التّربوي من
أول الطّريق، بحيث إنه بقدر ما يستطيع الفرد المقتدي بالمربّي، تجريد قصده لله عزّ
وجلّ، وإخلاص أعماله له وحده سبحانه، بقدر ما يعجز الفرد المقتدي بالوسيط عن فعل ذلك،
إلا من خلال استحضار تلك الوسائط، التي كانت سبب انتمائه للحركة الإسلامية المعنية،
وسلوكه في نظامها التّربويّ، فيعمل العاملون بعد ذلك في إطار التّوحيد، بقصد التّعبد،
ويقع العاملون في إطار الوساطة، في شَرَك قصد الحظّ، المرتبط بالأشكال والرّسوم، على
تعبير القوم، وذلك قد يكون هو الشّرك الخفيّ!
إن الدّاخل إلى مؤسسات العمل الإسلاميّ، عبر منهج الوساطة، لا يدخله إلا لأن فيه فلانًا وفلانًا، وتلك أولى الآفات التّربوية، المترتبة عن وساطة الوسيط، والتي تغرس في النّفس تعصبًا حزبيًّا يصعب معه، إن لم يستحل، إنشاء الحوارات، وتوحيد الجهود، وتنسيق الأعمال، بل هو داع خطير للانشقاقات والصّدمات (الأخوية)؛ لأن المتربّين هنا إنما يؤمنون بأسماء الرّموز، لا بما يدعون إليه أساسًا.
إضافة تعليق