القرآن الكريم منهج حياة شامل، وهو مرجع أوَّل للمسلمين في تلقِّي عقائدهم الدِّينيَّة وتصوُّراتهم النَّظريَّة حول قضايا الوجود والإنسان والحياة.
القرآن الكريم منهج حياة شامل، وهو مرجع
أوَّل للمسلمين في تلقِّي عقائدهم الدِّينيَّة وتصوُّراتهم النَّظريَّة حول قضايا
الوجود والإنسان والحياة. وهذا ما يجعل قراءة القرآن الكريم وفهمه وفقهه وتدبُّره
مهمَّة للمسلم إذا كان صادق الالتزام بدينه وساعيًا في تحقيقه واقعًا حيًّا يحكم شؤون
الفرد والمجتمع في جميع المناحي.
والمسلمون مطالبون كأيِّ مجتمع -متى ما
ملكوا أوطانهم الَّتي يتحقَّق فيها وجودهم وتقوم فيها مصالحهم- بأن تكون لهم
دولتهم الخاصَّة بهم، والقائمة على تعاليم الوحي الإلهي. فالدِّين الإسلامي دين
أمَّة ذات رسالة، يحمِّل المؤمنين به وظائف ومهام عامَّة تتعلق بالحقِّ والعدل
والخير، وتواجه الباطل والظُّلم والشَّر، فهو لم يأت فقط لصلاح الأفراد في أنفسهم،
بل لصلاح المجتمع الإنساني في صورته "المدنيَّة" حين يشكِّل دولته
المستقلَّة. وهذا لا يمنع بتاتًا مِن أن تكون هذه الدَّولة مظلة لغير المسلمين
الرَّاغبين في التَّفيُّؤ بظلال عدالتها وسماحتها وخيرها وإحسانها، مادام التزم
خضوعه لها في النِّظام العام، وعدم الإضرار بأمنها وسلامة رعاياها.
لهذا، فإنَّ القرآن الكريم -انطلاقًا مِن
أهميَّة وجود الأمَّة الإسلاميَّة المتمكِّنة والقائمة بدين الله تعالى في الأرض-
تطرَّق للمعاني والمفاهيم السِّياسيَّة الضَّروريَّة لقيام هذه الأمَّة قيامًا
صحيحًا، ممثِّلاً لدين الله تعالى في الأرض.
المفاهيم والتَّربية:
التَّربية عمليَّة تبدأ مِن البناء
المفاهيمي للأشخاص؛ إذ إنَّ انطلاق الإنسان في الحياة بحاجة لتصوُّرات ومفاهيم
صحيحة تتعلَّق بذاته ومحيطه والعلاقة القائمة بينهما، فالتَّصوُّرات والمفاهيم
تشكِّل وعي الإنسان وتحدِّد مسارات استجابته للأمور نفسيًّا وفكريًّا وسلوكيًّا؛
والإنسان بدون هذه التَّصوُّرات والمفاهيم فاقد للرُّؤية والهويَّة وتائه في
الحياة، وهذا يجعله فريسة للأوهام والظُّنون، أو الشَّهوات والغرائز، أو أن يكون
إمَّعة مع النَّاس يتبعهم ويقلِّدهم بسذاجة وحمق.
والعلم يقوم أساسًا على إدراك المفاهيم
الصَّحيحة للمعاني القائمة، وكلَّما تجلَّت المعاني وصحَّت المفاهيم أصبح العلم
موثوقًا والظَّواهر حقائق مقطوع بها؛ وكلَّما خفت المعاني وبعُدت المفاهيم عن
إدراكها سادت الظُّنون وأخطأت النتائج.
لهذا جاء القرآن الكريم بمعانٍ واضحة
ودقيقة، وراعى صحة المفاهيم وسلامة الوعي بها، بحيث لا يكون الاشتباه في الاصطلاح
سببًا في إضاعة التَّميُّز والخصوصيَّة والتَّفوُّق الَّذي راعاه الوحي في معانيه
وتصُّوراته. فمفهوم "الدِّين"، ومفهوم "الأمَّة"، ومفهوم
"التَّمكين"، ومفهوم "القوَّة"، ومفهوم "الاستخلاف"،
في القرآن الكريم مفاهيم متميِّزة عن غيرها في ثقافة البشر، حال إنزال القرآن،
وبالتَّالي فإنَّ وعي المسلم بهذه المعاني مختلف عن وعي أيِّ شخص في منظومة
حضاريَّة وثقافيَّة أخرى. ليس بالضَّرورة إلى الضِّدِّ أو القطيعة؛ لأنَّ المجتمع
الإنساني يظلُّ محافظًا على قدر مِن الصَّوابيَّة التي تسير معها الحياة وتقوم شؤونه
الماديَّة.
إن تغذية العقول والفكر بالمفاهيم شيئًا
فشيئًا، وتربية الإنسان على فهمها والتزامها والعمل بها وبمقتضياتها، هي رسالة
الإصلاح الَّتي مارسها النَّبيُّ محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو ينتشل العرب مِن
الجاهليَّة الأولى، ليخرجهم مِن الظُّلمات إلى النُّور في كلِّ شؤونهم: الخاصَّة
والعامَّة، العقديَّة والقيميَّة والأخلاقيّة، السِّياسيَّة والاقتصاديَّة
والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة. وبهذا تحوَّل العرب في غضون ربع قرن فقط مِن رعاة
للغنم، وقبائل تعيش على هامش التَّاريخ، إلى قادة للأمم، يسطِّر التَّاريخ مآثرهم
وأفعالهم في مركز النَّشاط العالمي.
التَّربيَّة السِّياسيَّة:
كثيرًا ما يجري الحديث عن التَّربيَّة:
الإيمانيَّة والأخلاقيَّة والتَّعليميَّة والسُّلوكيَّة في الإسلام، وربَّما التَّربية
الاقتصاديَّة والإعلاميَّة، غير أنَّه مِن النَّادر جدًّا أن يتطرَّق إلى
"التَّربيَّة السِّياسيَّة" في الإسلام[1]،
على الرَّغم مِن أنَّ هذا المجال مجال حيويٌّ في إقامة أيِّ أمَّة ذات رسالة في
المجتمع الإنساني؛ ومِن ثمَّ فلا يتصوَّر أن يهمله الوحي وهو يعدُّ "خير
أمَّة أخرجت للنَّاس"، فيما يستغرق في الأحكام الفرديَّة الخاصَّة.
وإذا كان إغفال الكتابة في هذا الجانب
مِن جوانب دراسة القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة تاريخيًّا، فإنَّ قيام
الأمَّة بمهامها ومسؤوليَّاتها خلال ألف عام مِن تاريخها لم يخل مِن البعد
التَّطبيقي بكلِّ ثرائه الفقهيِّ والحركيِّ في الحكَّام، والعلماء، والقاعدة
الاجتماعيَّة للأمَّة، وهو ما أمدَّ أمَّة الإسلام بالبقاء لهذه الفترة
التَّاريخيَّة الطَّويلة رغم كلِّ ما واجهته مِن تهديدات ومخاطر وحروب استهدفت
وجودها وقوَّتها ومصالحها ونفوذها.
ومع ضرورة عودة الأمَّة الإسلاميَّة
اليوم لصدارة المشهد، وقيامها بمسؤوليَّاتها الوظيفيَّة في المجتمع الإنسانيِّ،
بعد غياب دام لقرن تمامًا، أصبح مِن الضَّروريِّ إعادة صياغة المناهج التَّربويَّة
السِّياسيَّة ووضعها محلَّ العناية للأطفال والشَّباب والعامَّة، كي تمدَّهم
بالمفاهيم السِّياسيَّة الَّتي جاء بها الوحي وصنعت مِنهم أمَّة عظيمة على مرِّ
التَّاريخ، فصناعة التَّغيير تبدأ مِن صناعة المفاهيم الملائمة للانطلاق نحو
مستقبل مختلف عمَّا هو عليه الحال، وهذا لن يتمَّ ومفاهيم الإسلام السِّياسيَّة
مغيَّبة عن الوعي والمشهد التَّربوي والتَّعليمي والفكريِّ والثَّقافيِّ
والإعلاميِّ.
مفاهيم التَّربية السِّياسيَّة في
الإسلام:
يختلف الإسلام عن المناهج البشريَّة
الوضعيَّة بكونه دينًا ربَّانيًّا ينظر للإنسان باعتباره "خليفة الله"
في الأرض، يقوم بمهام "الاستخلاف" الَّتي وكِّل بها وحمِّل أمانتها.
وعليه فإنَّ هذا الوجود الإنسانيَّ محكوم برسالة ومهام ووظائف كبرى في الوجود
الأرضي، ليس له الاختيار في التَّخلِّي عنها إذا أراد النَّجاة يوم القيامة عند
محاسبته عن "الأمانة" الَّتي حمله الله تعالى إيَّاها.
وهنا يمكن الإشارة والتَّأكيد على عدَّة
مفاهيم وردت في القرآن الكريم تتعلَّق بالتَّربيَّة السِّياسيَّة، مِنها:
الخلافة:
في بُعدها العام، كما قال تعالى: (وَإِذ قَالَ
رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30].
وفي بُعدها الخاص، كما قال سبحانه: (يَا دَاوُودُ
إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
الاستعمار:
ببعده الإيجابي، قال تعالى: (وَإِلَى
ثَمُودَ أَخَاهُم صَالِحًا؛ قَالَ: يَا قَومِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِن
إِلَهٍ غَيرُهُ، هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ، وَاستَعمَرَكُم فِيهَا،
فَاستَغفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود: 61].
الأمَّة:
وهي أمَّة رساليَّة، إذ يقول تعالى: (كُنتُم
خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالـمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ الـمُنكَرِ
وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].
واحديَّة الأمَّة:
إذ إنَّ الإسلام لا يقرُّ التَّفرق
والتَّشظِّي والتَّمزُّق، يقول سبحانه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ) [الأنبياء: 92].
الشُّورى:
كمبدأ للاجتماع والتَّوافق، يقول تعالى:
(وَالَّذِينَ استَجَابُوا لِرَبِّهِم وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمرُهُم شُورَى
بَينَهُم وَمِمَّا رَزَقنَاهُم يُنفِقُونَ) [الشُّوري: 38]. وقاعدة للحكم، يقول
سبحانه: (وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ فَإِذَا عَزَمتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الـمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
العدل:
فالعدل أساس الحكم، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ
يَأمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ
أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].
الوفاء بالعهود والعقود:
فمعظم شئون السِّياسة تدار بالعهود
والعقود، أكانت تناصرًا أو تعاونًا أو تحالفًا، يقول تعالى: (وَأَوفُوا بِعَهدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُم) [النحل: 91]، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ) [المائدة: 1].
التزام الأخوَّة الإيمانيَّة:
إذ هي الآصرة الدِّينيَّة بين المسلمين،
يقول تعالى: (إِنَّمَا الـمُؤمِنُونَ إِخوَةٌ فَأَصلِحُوا بَينَ أَخوَيكُم
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ) [الحجرات: 10].
ولو ذهبنا نتحدث عن مفاهيم: القوَّة، والجهاد
دفاعًا عن الأوطان ونصرة للمظلومين، وردِّ العدوان والبغي، والأمر بطاعة أولي
الأمر، والولاء للمسلمين، ومعاداة الكافرين المحاربين لله ورسوله، والإصلاح في
الأرض، ورعاية المصالح، ودرء الفتن، وغيرها مِن المفاهيم المتعلِّقة بالشَّأن
العامِّ وقضايا الأمَّة وإدارة شؤونها ومصالحها، لطال المقام بنا في ذلك.
ولو ذهبنا نستعرض قصص القرآن الكريم في
الشَّأن السِّياسي كقصَّة إبراهيم -عليه السَّلام- والنُّمرود، وقصَّة يوسف -عليه
السَّلام-، وقصَّة موسى -عليه السَّلام- وفرعون، وقصَّة طالوت، وقصَّة داود
وسليمان -عليهما السَّلام-، وقصَّة ملكة سبأ، وقصَّة ذي القرنين، وغيرها مِن القصص
الَّتي تشير إلى جوانب وأحوالٍ سياسيَّة لطال المقام أكثر.
هذه جميعًا قضايا بارزة في القرآن
الكريم، حاضرة في آياته وسوره، تعرض للمسائل مِن جوانب عدَّة، لتلفت انتباه
المسلمين إلى أثر السِّياسة في التَّاريخ وعقائد النَّاس وأحوال المجتمعات، وما
ينبغي فيها مِن وظائف ومهام، وما يلحقها مِن انحرافات وجبروت وطغيان. يتلقَّاها
المسلم منذ صغره وهو يقرأ نصوص الوحي لتشكِّل مداركه وفهمه ووعيه.
غير أنَّ فريقًا مِن المسلمين أهمل هذا
الجانب في القرآن الكريم وأعرض عنه، كما أعرضت فرق أخرى عن جوانب أخرى في القرآن
الكريم، ليصبح قوله تعالى: (كَمَا أَنزَلنَا عَلَى الـمُقتَسِمِينَ * الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِينَ) [الحجر: 90- 91]، آية مِن آيات إعجاز القرآن الكريم
في الإخبار بما سيكون مِن أحوال الأمَّة مع الوحي.
واليوم، وفي طريق استعادة الأمَّة المسلمة لدورها النَّهضوي والحضاري وهي تتلمَّس بناء مجدها وعزِّها وقوَّتها، تحتاج إلى تربيَّة الأجيال المسلمة على مفاهيم القرآن الكريم بشمولها وكمالها وتمامها، بما في ذلك المفاهيم السِّياسيَّة الَّتي صنعت الرَّعيل الأوَّل والجيل الفريد الَّذي ساد العالم في ربع قرن مِن الزَّمان.
[1] انظر: مِن بين البحوث والمؤلَّفات المنشورة في
هذا الشَّأن:
التَّربية السِّياسيَّة
في الاسلام، د. عبد العزيز بن عثمان التُّويجري، المنظَّمة الإسلاميَّة للتَّربية والثَّقافة
والعلوم (إيسيسكو)، 2001م.
ملامح التَّربية
السِّياسيَّة في ضوء السُّنَّة النَّبويَّة، إعــداد/ د. رمضان إسحاق الزَّيان،
أستاذ مشارك في الحديث الشَّريف وعلومه، رئيس قسم الدِّراسات الإسلاميَّة بجامعة الأقصى،
وهو بحث مقدَّم إلى مؤتمر التَّربوي الأوَّل "التَّربية في فلسطين وتغيُّرات العصر"،
والَّذي انعقد بكليَّة التَّربية في الجامعة الإسلاميَّة، في الفترة 23- 24/11/2004م.
مفاهيم التربية السياسية
في الإسلام ومدى تضمينها كتب التربية الإسلامية للمرحلتين الأساسي والثانوية في الأردن،
إعداد/ بكـر سميح المواجـدة، محمد سليم الزَّبون، رضا سلامة المواضية، مجلَّة
دراسات، كلِّيَّة العلوم التَّربويَّة، جامعة الزَّرقاء الخاصَّة، الأردن، المجلد
(42)، العدد (3)، 2015م.
إضافة تعليق