فسرّ صناعة الأجيال وسرّ الحفاظ على الموروث وسرّ البناء عليه يكمن في التربية، وما قُوّضت أمة إلا بتدمير التربية فيها؛ لذا اهتم أعداؤنا باستهداف التربية وتشويه صورتها في أذهاننا..
عجيبٌ هو أمر التربية؛ تلك المنظومة الساحرة التي تتجسد فيها الغاية والوسيلة
معًا، قد نرى طيفها في اهتمامات الناس ومراميم، ونسمع لحنها في طيات حديثهم وبين
ثنايا الكلمات، مهما كانت مواقف الحياة وميادين الأحداث، ومهما كان المقام
والمقال.
والتربية في التداول الاصطلاحي عند المسلمين هي تعهد الفرد بالتكوين
المنتظم، ليرتقي في مراتب الكمال تصورًا وممارسة، وهي عملية شمولية نظرًا لشمولية
الإسلام. والتربية في حضارتنا متعلقة بتصحيح التصورات شيئًا فشيئًا، وبناء
المفاهيم المنسجمة مع الفطرة السوية والشريعة السمحة؛ ما يضمن توجيه السلوك
الاجتماعي، وكل هذا يُبنى على علوم لها علاقة بجوانب الحياة كلها.
البيت.. المنشأ الأول:
لا شك أن التربية عملية يتولى أمرها الوالدان في بداية الأمر؛ فهي وظيفة
الأسرة وهي مهمة المجتمع كذلك، في البيت يُعَدُّ الفرد سلوكيًّا وقيميًّا وفكريًّا
للحياة، ثم ينطلق إلى المجتمع الأرحب ليثبّت ويؤكد ومن خلال التطبيق ما تم غرسه
فيه حتى يزهر ويعطي؛ فقد قال الصادق الأمين: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ،
فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) [متفق
عليه].
فأبواه لهما الدور الكبير في صناعة شخصية الابن وفي طريقة تفكيره التي
تنبثق عنها الأفعال والقرارات وردور الأفعال، (فالصبي -كما قال الإمام الغزالي- أمانة
عند والدَيه، وقلبُه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل
لكل نقش، ومائل إلى كل ما يُمال إليه؛ فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه؛ نشأ عليه، وسعِد
في الدنيا والآخرة، وشارَكه في ثوابه أبواه وكل مُعلِّم له ومؤدِّب، وإن عُوِّد
الشر وأُهمِل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوِزرُ في رقبة القيِّم عليه والوالي
له، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6].
والصِّبَا مرحلة عمرية سماها علماؤنا بالمراهقة، من رَهَقَ واقترب؛ أي
اقترب الصبي على الرشد والنضوج، وهي مرحلة حرجة في حياة الابن والابنة، يتم فيها
انتقاله من الطفولة إلى الفتوة، وهي امتداد لمرحلة عمرية يكون فيها الضعف والسذاجة
سَيِّدَيْ الموقف إلى مرحلة يقوى بها الناشئ شيئًا فشيئًا حتى تستقل نفسه ويحقق
ذاته، وهذه المرحلة من أكثر المراحل ثأثرًا بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية
والفكرية والثقافية المحيطة به، أو التي يطّلع عليها.
ولهذه المرحلة خصائصها التي لابد من دراستها من قِبل المهتمين؛ آباءً
ومربين وأصحاب القرار التربوي في البلاد، خاصة وأن الكثير من المشاكل التي يعاني
منها المراهقون تكون نتيجة جهل القائمين بأبجديات التربية وأسرار التميز وإهمالهم
لها إن عرفوها.
أما عناصر التربية الرئيسة فهي مربٍّ وناشئ، مهما استطرد في التعداد غاوٍ ومتفيهق؛
فكلما برع المربي وجوّد صنعته أنتج ذهبًا وأخرج نابغة، وما المنهاج والبيئة
والوسائل -مما يعده البعض عناصر للتربية- إلا صناعة المربي الجهبذ الحكيم، وتبع
لما تتفتّق عنه أذهان المهتمين وطاقاتهم.
واعلم -يا رعاك الله- أنّ البيوت لا تتميّز إلا بتربية أبنائها، ولا تشتهر أمّة
إلا بسلوكيات أجيالها، ولا تفلح بلاد إلا بنجاحها في ميدان التربية الذي يحتضن كل
الميادين المتشعبة ويضمن لها النجاج والفلاح. وإنك -والله- لن تجد خللاً في بيت أو
مؤسسة أو مجتمع إلا وجدت التربية فيه مهدمة البنيان، مشوّهة الشكل، متلاشية
المعالم.
فسرّ صناعة الأجيال وسرّ الحفاظ على الموروث وسرّ البناء عليه يكمن في
التربية، وما قُوّضت أمة إلا بتدمير التربية فيها؛ لذا اهتم أعداؤنا باستهداف
التربية وتشويه صورتها في أذهاننا بكل ما أوتوا من مكر وخبث؛ ليُجهدوا الأمة وينهكوا
قواها، فتذهب ريحها وتنكسر شوكتها.
وعماد أمتنا هم الأبناء وطلبة العلم الناشئون ذكورًا وإناثًا، وهم ضمان قوتها وثباتها، وهم علامة فارقة في حضورها وتأثيرها وقيادها، فإن هلك الناشئة -ذكورًا وإناثًا- هلكت الأمة، إلا أنّ الإناث في شريعتنا وفهمنا الربانيّ لهنّ الحظ الأوفر في صناعة الهوية وتحقيق الذات للأمة والأوطان؛ فكما قال الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله-: (إذا علمت ولدًا فقد علمت فردًا، وإذا علمت بنتًا فقد علمت أمّة).
فسرّ صناعة الأجيال وسرّ الحفاظ على الموروث وسرّ البناء عليه يكمن في التربية، وما قُوّضت أمة إلا بتدمير التربية فيها
النور تصنعه النساء:
ولأن السقوط لأية أمة لا يكون إلا بسقوط نسائها، فالمرأة ترفع أمتها أو
تهوي بها، لذا لا يستهجن المسلم وهو يتلو كتاب الله، أن يتدبّر تقديم الله الزانية
على الزاني في الحكم عليهما في سورة النور؛ فالنور تصنعه النساء العالمات الفاهمات
المخلصات العاملات، والظلمة كذلك معقودة بنساء جاهلات عاملات لجهالتهن، مخلصات
لرسالتهنّ الدنيئة. من هنا رأى أعداء الأمة أن يصوبوا سهامهم إلى المرأة كي تنهار
الأمة بانهيارها، ولن يكون ذلك إلا بتغريبها وتجهيلها.
من هنا كانت تربية المرأة منذ نعومة أظفارها على العلم والقيم والعمل
الخالص لله هو همّ الواعين من أبناء الإسلام. وللتربية محاضنها كما لها رعاتها وسدنتها،
والبيت محضنها الأول، والمسجد مكمّل ورديف.
الأوامر والنواهي الإلهيّة جاءت من الخالق إلى الجنسين معًا، واللهُ سبحانه
أعدّ الجنة والنار لكليهما، وما كانت الأفضلية بينهما على نوع الجنس وإنما على ما اكتسب
كلٌّ منهما: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ
بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ
مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32]، فــ(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13].
ولا يختلف اثنان على أنّ البيت هو المكان الأول الذي تنقش فيه ملامح الفرد
المسلم ذكرًا كان أم أنثى، ثم تتوسع مداركه ويتوسع المكان، فيكون الشارع ومؤسسات
المجتمع، وإنّ أولها وأهمها وأجملها وأعظمها هو المسجد، حيث كان وما زال المكان
المميز للتأثير في نفوس وأرواح روّاده صغارًا وكبارًا.
وللمسجد دور فاعل:
والمسجد لغةً هو مكان السجود، ولأن حياة المسلم كلَّها سجود واقتراب جُعلت
الأرض مسجدًا له وطهورًا، وهذا ما لم يكن لأهل الرسالات السماوية السابقة، إلا أن
المسجد كمكان حظي بقيمة خاصة وكان له دور فاعل في حياة المسلم وفي حياة المسلمين،
والتاريخ يشهد؛ فمنذ أوّل يوم لتأسيس الدولة المسلمة استهلّ رسول الله -صلّى الله
عليه وسلّم- بناء مسجد قباء؛ هكذا علّمنا رسول الله أنّ للمسجد قيمةً عظيمةً، وأنّ
أمر الأمّة منوط بالمسجد، وأنّ حالها معقود بقيام وتفعيل المسجد، فهو مكانٌ
لاجتماع المسلمين، وتقوية الأواصر والروابط بينهم.
فالحاكم والمسؤول يصلي مع الرعية، والمسجد مكانٌ للتعلّم والمدارسة؛ وبذلك
يكون المسجد مركزًا لقيادة الأمّة، كما أسس لذلك رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-،
فقد كان يدير سياسة البلاد من المسجد، يرسل الجيوش منه، ويستقبل الوفود، فقد كان المسجد
مقرّ الحكم حيث تتمّ المعاهدات وقرارات الحرب والقضاء، وهذا ما استمر عليه الأمر
في عهد الخلفاء الراشدين الذين نهضوا بالإسلام.
تعلقت به قلوب النساء كالرجال؛ فكانت المرأة تقول لرسول الله -صلّى الله
عليه وسلّم-: (والله إني لأحب الصلاة معك يا رسول الله...) [صحيح ابن حبان:2217]. وكان
النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذّر فيقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله،
وليخرجن إذا خرجن تفلات) [البخاري:900]، أي غير متعطرات ولا متزينات، وكأنه -عليه
الصلاة والسلام- كان يرى جهلاً قد يظهر في أمته، قد يظهر في الرجال فيمنعون النساء
ويضعفون دورهن، وبذلك يضعفون دور المسجد، وقد يظهر الجهل في النساء فتتزين وتتعطر
خارج بيتها وتضيّع بوصلتها..
لقد كانت النساء تشهدن الصلوات كلّها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
مسجده كما في الموطأ من حديث عائشة أنهن (كن يشهدن الفجر مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، فيرجعن متلفعات بمروطهن) [متفق عليه].
يتحلّى روّاد المسجد بآداب يربّون عليها ويمارسونها، فقد كان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يأمر الرجال ألا ينصرفوا حتى تنصرف النساء، ويأمر النساء ألا
يرفعن أبصارهن حتى يجلس الرجال لئلا ينكشف عليهن شيء من عورات الرجال، وكانت
النساء تصلي في الصفوف خلف الرجال ليس بينهن وبين الرجال ساتر في زمان النبي -صلى
الله عليه وسلم- وفي زمن الخلفاء الراشدين كذلك.
وعلى هذا أكّد العلماء أنه ينبغي على المرأة ألا تهجر المسجد، بل ينبغي أن
تشهد بعض الصلوات فيه؛ فهي لابد ستشارك في إعمار الأرض من نيل للعلم أو تعليم، أو
ستشارك في عمل عام أو شأن من شؤون الدولة. هذا إن أمنت على بيتها والتزمت الآداب
الخاصة بالنساء، ولم تخش على نفسها في الطريق، وإلا فصلاتها في بيتها أفضل.
من هنا رسخ في الذاكرة الجمعية للأمة صورةٌ للمسجد فائقة الجمال، رسمتها
مشاعر الفرد التي تولّدت من مكانته ودوره؛ حيث الخشوع والطمأنينة والقيم ومكارم الأخلاق،
من التزام واحترام المواعيد والطهارة والجمال، والطيب ورائحة الفم الزكية، ولقاء
الأحبة والعمل الجماعي، واكتساب العلوم وممارسة المهارات على أنواعها، فكان لكل
هذا أثر واضح على صحة الفرد نفسه وصحة المجتمع كاملاً. وإذا ذكر مصطلح (الفرد
المسلم) قصد منه الذكر والأنثى، الكبير والصغير.
مهدٌ يربِّي:
من الطبيعي أن يتعلق قلب المسلم بالمساجد، ومن الطبيعي أن يؤثر في أهل بيته
فتتعلق قلوبهم جميعًا بالمسجد، فيداومون على زيارته في اليوم خمس مرات، وقد يمكث أحدهم
فيه أوقاتًا خاصة بين الصلوات للعلم وللشورى، وللعمل العام. هكذا
هو المسجد؛ مركز الحي والمنطقة النابض بهمومها، صورة مركزة لحال المجتمع، لذا كان
المسجد المهد الذي يربي وينشئ للأمة حُماتها
وقادتها. المسجد مكان عزَّ نظيره، يبني حياة المجتمع بنسائه ورجاله على أسس من الوحدة
والتجميع، واللقاء العامر بالبناء.
وجب على المجتمع أن يعيد للتربية معناها، وللمسجد دوره، وعلى الوالدين أن يأخذا
أبناءهما إلى الصلوات بحب وتشويق وحزم وعزم وتفاعل مع أنشطة المسجد المتنوعة،
ليغرسا في الطفولة الانتماء وإشباع شغف المعرفة عند الطفل، وليعززا القيم عند
المراهق صبيًا كان أم صبيّة، إلا أننا في زمن استهان بدور الأنثى في صناعة أمّتها
وهمّشها حتى ألزمها أمورًا هي من تقاليد الجاهلية وعقليات بعيدة عن روح الإسلام، وكأنه
بهذا صار أداةً طيّعة في يد أعداء الأمة!
فالبنت المراهقة إذا أدركت عظيم شأنها في حراسة أمتها وعاشته حقيقة في
محيطها، برعاية من بيتها ومجتمعها، استطاعت الذود عن هويتها، وعاشت ملكة عزيزة
تبني أينما حلّت أسس العمارة، وحققت بذلك مفهوم الخلافة التي أرادها الله منها،
حسب ما تتقنه من مهارات وتبدعه من وسائل، المسجد هو الحصن الذي فيه تُصنع روحها
الألقة، في أرجائه تستقي ماء الآداب، وتتشبّع القيم، وتعزَّز في عروقها الحكمة، في
أفياء المسجد تجرّب وتطبّق، تختلط وتتعايش، تصيب وتخطئ حتى يشتد عودها وهي على
الحق المبين راسخة عملاقة.
ستحظى بالعلوم وتتقن تلاوة القرآن وتدبّره، وتعيش الحياة بكل تفاصيلها على نور الهدى، تتبنى مبادرات مجتمعية ومشاريع نهضوية، تساهم وتشارك في الأحداث والمستجدات، حتى تبدو ملامح شخصيتها شيئًا فشيئًا، وتكتمل مسيرتها على ما صقله فيها المسجد من معالم نورانية، فتشرق روحها كالنجم؛ يهتدي بها كلُّ من يخالطها، ويسير بهداها ويتأثّر بها كلُّ بعيد.
البنت المراهقة إذا أدركت عظيم شأنها في حراسة أمتها وعاشته حقيقة في محيطها، برعاية من بيتها ومجتمعها، استطاعت الذود عن هويتها، وعاشت ملكة عزيزة تبني أينما حلّت أسس العمارة،
فأجواء المسجد العامر بالعلم والعمل والأنشطة المتنوعة تعطي المراهقة فرص
الاستمتاع بالحياة، وتهيئ لها ظرفًا شائقًا يغنيها عن الالتفات إلى أجواء أخرى تجتهد
في استقطابها بل وخطفها، وقد يمكنها من الاطلاع على مخرجات الآخرين والتعرف على
ثقافاتهم وحياتهم لتعزز فيها الثقة والفخر، لتكون من الشاكرات على نعمة الإسلام، فتكتفي
بذاتها وتعشق عالمها عن بيّنة وعلم وبصيرة؛ لأن مفهوم الأنا اتسع ليشمل الإسلام كلّه،
ولسانها ينبئ عن حالها:
أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيس أو تميم
وأخيرًا.. على المجتمع أن يعيد للمسجد دوره ومكانته في العلم وصناعة الفكر وتعزيز
القيم وتثبيت الدعائم في نفوس الأبناء، وعلى القائمين على التربية أن يعيدوا فهم التربية
من منظور الأمة المسلمة، وألا يعيقوا عودة الأنثى إلى مكانتها، وأن يجتهدوا في منح
تلك الناشئة التي تعشق الحياة كما فطرها الله، وتُقبِل عليها بنهم وعنفوان كلّ
مقوّمات النجاح لتقوم بدورها في المستقبل القريب، فإنها إن لم تجد ما يغنيها في
مجتمعها، توجهت -لا محالة- إلى ما يجذب نفسها الغضة، وستكون حينها فريسة سهلة
للضباع التي تنهش أمتنا من خلال بناتنا
الفارغات الجاهلات اللواتي حُرمن التربية الاهتمام، وقصّرت بيوتُهنّ في ملء ذواتهنّ
بالعلم النافع والعمل الرشيد.
إضافة تعليق