لقد ساهمت الربكة العالمية التي أحدثها الوباء الأخير في العودة للأدبيات الشرعية التي تدعو للرجوع إلى الله والتوبة إليه واستشعار عظمته وقوته، وضعف الإنسان بآلته وفلسفته الحديثة أمام كائن لا يقدر على رؤيته إلا بأدق آلات التكبير
فالناشط في
العمل التربوي يدرك حجم الغربة التي تعيشها مبادئ الإسلام، وإن الغربة المفاهيمية
التي أخبر عن وقوعها النبي -عليه الصلاة والسلام- في أمته إنما هي قدر كوني لا
تكون عذرًا يعطّل العمل الدعوي التربوي: (بلّغوا عني ولو آية) [البخاري:3461 ]، وهذا ما حدث بالفعل خلال السنوات الماضية؛
فالعمل التربوي الإسلامي لم يتوقف وإن خفت نجمه.
لقد ساهمت
الربكة العالمية التي أحدثها الوباء الأخير في العودة للأدبيات الشرعية التي تدعو للرجوع
إلى الله والتوبة إليه واستشعار عظمته وقوته، وضعف الإنسان بآلته وفلسفته الحديثة
أمام كائن لا يقدر على رؤيته إلا بأدق آلات التكبير، ويحسن لمن يؤمن بالإسلام
مرجعيةً في شتى حياته أن يستغل هذا الشعور بالضعف ويدعو للإسلام اليقيني الذي لم
يستبعد الإله ولم يدّعِ استقلال عقله وقدرته عن إرادة الله -عز وجل-، ويستعيد
الثقة في دينه وجذوره الاجتماعية والتربوية.
وتهدف هذه
المقالة إلى تسليط الضوء على أحد أهم مرتكزات العمل التربوي الإسلامي (تزكية النفس)
التي تراجعت الثقة فيها أمام أدبيات مركزية القانون والسلطة في ضبط أخلاق الإنسان.
وسأحاول أن أقرأ بعض الأحداث العالمية التي من خلالها يستطيع الناشط في العمل
التربوي أن يستعيد الثقة في أهمية تزكية النفس وإحياء الضمير الداخلي.
إن المتأمل في
الأحداث العالمية المعاصرة كأحداث السرقة التي جرت خلال تظاهرات الولايات المتحدة،
التي خرج الناس خلالها في الأساس يتظاهرون تعاطفًا مع جورج فلويد -الرجل الأسود
الذي قتل في حادث عنصرية على يد شرطي أبيض- فبعد أيام من التعاطف تفاجأ الجميع
بانحراف التظاهرات إلى أحداث عنف، ثم تحولت إلى أحداث سرقة لمحال ومؤسسات لا دخل
لها في أساس ما خرجوا يدافعون عنه، فاسترجع الناس الكلام المشهور عن أن ما يمنع
الناس من السرقة في الولايات المتحدة ليس الضمير الأخلاقي وإنما قوة القانون
والسلطة، واليوم الذي تزال فيه هذه السلطة فلن يبقوا شيئًا لن يسرقوه.
وهنا أسترجع
الأصل الفلسفي لليبرالية والمحافظاتية؛ فكلا المذهبين يجيبان على السؤال الفلسفي:
هل الأصل في الإنسان الشر أم الخير؟! وكيف تجيب عليه الليبرالية من جهة وبقية
الفلسفات من جهة، وكيف أجاب الإسلام عن سؤال الخير والشر؛ فالإنسان -إسلاميًا- هو
المكلّف إلهيًا بإقامة أمر الله في الأرض، وهو كذلك الذي خُلق معه شيطان يغويه عن الطريق، ولا يزال في هذه المدافعة إلى
يوم القيامة.
استعادة الثقة
في التزكية النفسية:
بالعودة لأحداث
السرقة؛ جعلت أسترجع هنا أدبيات تزكية النفس، وأن الإنسان يمنعه التزامه الأخلاقي
الداخلي وخوفه من لقاء الله -عز وجل- وأدبيات المال الحرام، كيف أن هذه الأدبيات
-التي يزهد فيها المربّي أحيانًا- يمكن أن تكون حاجزًا أخلاقيًا مهمًا في أحداث
كهذه، غفلت كل أساليب التربية الحديثة -التي عادة ما تربي على احترام سلطة القانون
ومركزيته عند الإنسان- عن هذا وعن تنمية ذاك الضمير الداخلي، وهو شيء خاص بالأديان
فقط؛ لأن جل الفلسفات الحديثة تستبعد الجانب الغيبي من الحياة، وهو أصل فساد
البشرية.
إن أدبيات
التزكية النفسية -كأمراض القلوب من حسد وكبر وغيرة مذمومة وحقد وجنوح عن التوازن
بين الخوف والرجاء والزيغ والإعراض وعمى البصيرة وفساد الرؤية الكونية والقسوة- كلها
أمور لابد للعامل في المحاضن التربوية أن يستعيد الثقة في قدرتها على حماية
الإنسان أخلاقيًا أولاً قبل القانون وسلطته.
فالتواضع -وهو
مضاد الكبر- يحمي الإنسان من العنصرية التي نشهدها عالميًا وطغيان عرق على آخر،
والرضا بالمقسوم -وهو ضد الحسد- يحمي الإنسان من أن يقع في الحقد على من رزقه الله
من مال الدنيا، ويسترجع هنا أن المال فتنة لصاحبه، ولا أدري إن كنت مكانه سأنفقه فيما
يرضي الله أم لا، والغيرة المحمودة تحمي الإنسان من أن يقع فيما يسمى (قتل الشرف)،
وهي جاهلية معاصرة تعاني منها بعض المجتمعات المريضة بداء الجاهلية، والتوازن بين
الخوف والرجاء يحمي الإنسان من أن يقع في الإرجاء المعاصر المرتبط بالإنسانوية
الحديثة، ويحميه خوفه من الله -عز وجل- من أن يقع في الحرام ولو كان وحده،
والإذعان والتسليم للنص الشرعي يحمي الإنسان من سعار (الحكمة) الذي يوقع في
السفسطة والشك في وجود الله -عز وجل-، وصلاح الرؤية الكونية تحمي الإنسان من ألا
يخرج عن النظرة للحياة ولدور الإنسان فيها عما أراده الله -عز وجل-. إن باب تزكية
النفس باب من أبواب الشريعة لا ينبغي إهماله أو الغفلة عن أهميته في حياة المسلم.
مركزية الوحي:
ومن الأمور التي
لا بد من استعادة الثقة بها في العمل التربوي الإسلامي ما يتعلّق بمركزية الهوى في
القرآن، فالمتأمل في القرآن يجد الضخ الهائل في مسألة مخالفة الهوى؛ حتى صوّره
الله -عز وجل- في كتابه بأنه قد يصير إلهًا للإنسان، وهو ملحظ مهم لابد من ضخه في
نفس المتربي في عصرنا، فكم من الناس الذين نناقشهم عن الإسلام يحصرون عبادة غير
الله في الآلهة المادية!! فيحسبون أن الشرك محصور في عبادة صنم أو بشر أو كوكب أو
غيره، ويغفلون عن أن هوى الإنسان قد يكون إلهًا يعبده من دون الله، والمتأمل في
الفلسفات الحديثة يجد أنها إنما جاءت أولاً لتحرير هوى الإنسان من القيود
الأخلاقية الدينية، ولم يتوقف هذا التحرير حتى وصلنا اليوم إلى أخطر صنم يعبد في
هذا العصر وهو (النسبية الأخلاقية).
ولن يُخرِج
العالم من الانحراف المعاصر غير دعوة الإسلام التي تركّز على أن للإنسان شيطانًا
يجره نحو الهوى، وقد يسير الإنسان خلف دعوات الهوى فيعبده ويعبد المال ويعبد
السلطة، وأن لا خلاص له من هذا الوحل سوى أن يستعيد مركزية الوحي في حياته وينطلق
منه سعيه الدنيوي، وحتى من يريد المواءمة بين التيارات الحديثة والإسلام لو أنه
استحضر موقف تلك التيارات من الهوى وموقف الإسلام منه لعلم أن الجمع بينها ممتنع،
وأن في الإسلام ما هو خير مما تدعو إليه.
إن هذا العالم
الذي أغفل الإنسان عن أن يعرض أعماله على الوحي الإلهي؛ فيحمد الله على صالح العمل،
ويستغفر ويسترجع عهد الاستقامة، فأطلق الهوى وأفسد الأرض بعد إصلاحها؛ يواجه اليوم
أمراضًا نفسية إنما حلّت عليه بسبب تضييعه للهدف الأسمى من وجود الإنسان، فالحياة
الحديثة المطلقة لهوى الإنسان لا يمكن أن يعيش معها الإنسان دون أمراض نفسية تنشأ
عن سؤال الجدوى من الوجود بعد أن يلهث خلف الشبع الذي لم يأت بعد، ويواجهون أمراضًا
نفسية إنما جاءت نتيجة لفردنة الإنسان individualization
وفصله عن محيطه الاجتماعي
وإيهامه باستغنائه عن الحياة الاجتماعية المليئة بالواجبات، وهذا فرع عن إطلاق
الهوى، هذا العالم في أمس الحاجة للإسلام، الدين المتماسك في رؤيته الكونية وسؤال
الجدوى والواجب الاجتماعي والحاجة النفسية للإنسان.
كانت هذه كلمات
في إعادة مركزية تزكية النفس، ونفض غبار سؤال جدواها، كان هذا عبر قراءة عدد من
أمراض الحداثة المعاصرة التي تعاني منها البشرية، أرجو أن أكون وفقت في بيان ما
أريد.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إضافة تعليق