تأليف الدكتور عارف عطاري

تستمد الإدارة التربوية النموذجية أصولها من الدين الإسلامي، وهذا ليس من قبيل إقحام الدين في الإدارة كما يزعم بعض الغربيّين أو المتعصبين أو حتى المسلمين الذين نهلوا علمهم في هذا المجال من مصادر الأوروبيين وليدة النشأة، والتي يعيبها أنها تتركز على الجوانب التقنية وتُهمل الجوانب الأخرى، وعلى رأسها الأسس الاعتقادية والنماذج الفكرية والمؤثرات الثقافية.

 ومن هذا المنطلق يناقش الدكتور عارف عطاري في كتابه (الإدارة التربوية.. مقدمات لمنظور إسلامي)، آراء الغربيين الناقصة عن هذا النوع من الإدارة، ثم يعرج عليها برؤية الإسلام الكاملة والشاملة في هذا الميدان.

نشأة علم الإدارة التربوية في العصر الحديث

 لقد ظهرت الإدارة التربوية كحقل معرفي قائم بذاته قبل قرن من الزمن تقريبًا، وكمُمارسة فهي قديمة قدم التعليم نفسه، حتى عندما لم يكن هناك مسمى وظيفي رسمي لهذا العمل، أي عندما كان المدرس نفسه يقوم بعمل التدريس والإدارة معًا، وكانت أدبيات الإدارة التربوية المبكرة ذات توجه عملي مرتبط بإدارة المدارس دون سعي لبلورة نظريات علمية.

وظل الأمر كذلك حتى نهاية الأربعينات من القرن العشرين عندما انهمكت مجموعة من العلماء لبلورة مرتكزات فكرية للإدارة التربوية، وسعت بتصميم ومثابرة لصياغة نظريات للإدارة التربوية، وتلك كانت الولادة الحقيقية لهذا العلم، إن جاز التعبير.

وقد عُرفت هذه المساعي في الولايات المتحدة بـ«حركة النظرية The Theory Movement»، لتركيزها على وضع نظرية في الإدارة التربوية، بهدف تحسين فهم تلك الظاهرة من جهة، وإرشاد الممارسين في الميدان من جهة أخرى، بحيث يكون لدينا مدارس أفضل يشعر فيها المدرّسون بالسعادة والطلاب وأولياء الأمور بالرضا.

وتأثرت حركة النظرية، التي سادت المسرح حتى الستينات إلى حد كبير بالوضعية المنطقية Logicial Positivism التي أطلقتها النهضة الأوروبية وعصر التنوير الأوروبي وتركت آثارًا لم تُمحَ على الفكر الحديث في الحقول المعرفية، وبخاصة العلوم الاجتماعية، لذلك فقد كان لحركة النظرية بدورها سحر خاص أدى إلى تنحية المعارف القديمة في الإدارة التربوية جانبًا.

والوضعية المنطقية كما هي مستخدمة هنا، تعبير فضفاض يشير إلى فلسفة غربية سادت منذ عصر النهضة الأوروبية، وقد وجهت انتقادات كثيرة لهذه الفلسفة أدت إلى ظهور فلسفة ما بعد الوضعية ومن مرتكزاتها اعتبار الإنسان في النموذج الوضعي وما بعد الوضعي مثله مثل أي كائن، قد يختلف عنه في الدرجة وليس في النوع، وبناء على ذلك يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية الاجتماعية بالطريقة التي تدرس فيها الظواهر الطبيعية وهي الطريقة العلمية.

لذا يُؤمن الوضعيون بوجود حقيقة يُمكن التوصل إليها بالطريقة العلمية بحيث يوصلنا ذلك إلى تعميمات ترقى إلى درجة القوانين، وهذا بدوره يمكننا من التوصل إلى الأسلوب الأمثل في الإدارة التربوية وغيرها، أمّا ما بعد الوضعية فتؤمن بوجود حقيقة يُمكن التوصّل إليها جزئيّا فقط، بسبب القصور في آليات التفكير، وكذلك الطبيعة المعقدة للظواهر الإنسانية.

وأعطت التقاليد العلمية الوضعية في ذلك الحين أهمية كبرى للقياس الكمي للظواهر الكونية، وللتحقق من المعلومات، وللمُلاحظة المتحررة من التحيز، وللموضوعية بهدف التوصل إلى القوانين العلمية التي تُساعد على تحقيق أهداف العلم المتمثلة في تفسير الظواهر والتنبؤ بها وضبطها.

وانعكس ذلك على الإدارة التربوية، فكان الهم الأكبر للعلماء التوصّل إلى منظومة من التعميمات التي ترقى إلى درجة القوانين العلمية، بهدف تفسير الظاهرة الإدارية والتنبؤ بها وضبطها.

الإدارة التربوية من منظور العلوم الطبيعية 

سمع علماء الاجتماع نصيحة (جون ستيوارت ميل) لهم بالاقتداء بعلماء العلوم الطبيعية، في حال رغبوا النجاح مثلهم، حيث رأى هؤلاء العلماء أنّ تقليد مثل هذه العلوم هو الوسيلة لنيل اعتراف الجماعة العلمية بهم ولنيل المكانة العلمية التي يتطلعون إليها.

وبدأت الشكوك تساور العلماء في سبعينات القرن الماضي، بشأن تلك الافتراضات، ومن ناحية لم تتمخض جهود الباحثين المهتدين بهدي العلوم الاجتماعية عن اكتشاف تعميمات ترقى لدرجة القوانين.

وحسب رأي بعض الباحثين لا توجد مؤشرات، بل لا توجد أسباب معقولة تدل على أنها ستكتشف في الميدان الاجتماعي والتربوي، فأخذ بعض العلماء يجاهر بأن الطريقة العلمية التي تقوم على القياس الكمي للظاهرة، وهي مصدر اعتزاز العلوم الطبيعية، غير ملائمة لدراسة الظاهرة الإنسانية الاجتماعية التي تتسم بالتعقيد.

من هنا، أصبحت النتائج التي أسفرت عنها البحوث المهتدية بالطريقة العلمية محل تساؤل بل وتشكيك وسخرية، فكان Thomas Greenfield أول المنشقين على الجماعة العلمية في الإدارة التربوية عام 1974، وقد شن حربا لا هوادة فيها منذ ذلك الوقت وحتى وفاته في تسعينات القرن الماضي على نهج العلوم الاجتماعية والوضعية المنطقي في الإدارة التربوية، وقد استخدم بعضهم تعبير ثورة جرينفيلد للإشارة إلى الحركة المضادة لحركة النظرية.

لهذا يرى جرينفيلد أنّ معظم البحوث في الإدارة التربوية لم تكن ذات صلة بالواقع، لأنها لم تتعامل مع مسائل الإرادة والنوايا والحرية والمشاعر والقيم وما يشكل الخير والعدل والصواب في العمل الإداري.

أما غريفيث Griffiths، الذي كان من أشد أنصار الوضعية المنطقية والنهج العلمي في الإدارة التربوية، وهو ما جعله على خصومة شديدة مع جرينفيلد، فقد اعترف في النهاية بأنّ معظم البحوث في الإدارة التربوية كانت غير ذات جدوى، فأغلب البحوث لا صلة لها بالواقع وبحاجات المديرين، ومعظمها مستند إلى نظريات هشة، ولا يطلع عليه الممارسون في الميدان.

وفي الستينات من القرن الماضي ظهر كتاب (بنية الثورات العلمية) للعالم تومس كوهن، الذي قدّم سندا أخلاقيا ونظريّا وعمليّا من داخل الجماعة العلمية لكل من هاجم النهج العلمي والوضعية المنطقية في الإدارة التربوية.

ويرى البعض ممن ينتمون للنموذج النقدي أنّ العلم هو تقنية للقمع توظف ضمن علاقات القوى لتكريس هيمنة الفئات المهينة، ويرى هؤلاء أن المنظمات، ومنها المدارس، تولد سلطة وسيطرة وامتيازات. وفي هذا السياق يوظف العلم لخدمة من بيدهم السلطة.

واستبعد النهج العلمي في الإدارة التربوية القيم باعتبارها تفضيلات شخصية غير قابلة للقياس، ولذلك فبحوث هذه الإدارة في الأغلب معنية بممارسات العاملين في المؤسسات التربوية وكيفية أدائهم لأعمالهم وليس بأخلاقهم وقيمهم. وأصبح هذا موضع انتقاد، لأن العمل الإداري لا يمكن فصله عن القيم والأخلاق.

ولكن هذا الاستبعاد للقيم والأخلاق، مع استبعاد دور الدين في الوضعية المنطقية مع عوامل أخرى، جعل المدارس أرضًا خصبة لكثير من الأمراض الاجتماعية المستعصية، ففي مدارس كثير من بلدان العالم تنتشر المخدرات والإيدز والاغتصاب والحمل غير الشرعي والعصابات والاستقواء، بل واستخدام السلاح وأنماط متعددة من السلوك غير المرغوب اجتماعيا.

والوضعية المنطقية، التي وُلدت في عصر النهضة الأوروبية في خضم الصراع بين الكنيسة وقتئذ والجماعة العلمية، جعلت العلوم الاجتماعية معادية للدين وعلى أفضل تقدير جعلت منه شأنا خاصا بين الفرد وربه، لا علاقة له بالحياة العامة ومنها الإدارة، وقد برر علماء الاجتماع ذلك بقولهم: “إن المقولات الدينية معتقدات لا يمكن التحقق من صحتها أو دحضها أمبيريقيا، وكان على العلم والعقل أن يحلا محل الدين كمصدر للمعرفة المشروعة”، وقد استند هذا التوجه إلى توجه علماني حداثي جارف وكان من القوة بحيث أصبح من الصعوبة الوقوف في وجهه”.

لم يستسلم دعاة الاتجاه العلمي في الإدارة التربوية للهجمات على العلم، فتمسك بعضهم بمواقفه فيما دعا آخرون إلى التفريق بين النموذج الوضعي والعلم وبين العلم والعلموية معترفين أحيانًا ببعض أوجه القصور التي شابت النسخ الأول. من الإدارة التربوية العلمية، ودعوا إلى اتجاه علمي جديد يستوعب ما افتقرت إليه تلك النسخ المبكرة وخاصة استبعاد القيم والأخلاق بحيث تصبح هذه جزءًا لا يتجزأ من الإدارة التربوية.

وفي خضم ذلك شنوا هجومًا لا هوادة فيه على النماذج والاتجاهات الجديدة (التي سنتعرض لها لاحقًا) باعتبار أنها ليست ندًا للعلم، ولم يكتف بعض أنصار الاتجاه العلمي بالدفاع عن العلم ومهاجمة النماذج الجديدة، بل قاموا بعملية تصويب من الداخل، وذلك ببلورة نماذج علمية جديدة، وقد بدأت هذه الحركة التصحيحية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي عندما طور Bertallanfy نظرية النظم المفتوحة التي استبدلت الفيزياء بالأحياء كمصدر إلهام لها، مما جعل الإدارة تعطي اعتبارا للبيئة المحيطة بالمؤسسة والعوامل الخارجية عن المؤسسة.

لقد تزامن النقد المُوجّه للمَنحى العلمي في الإدارة التربوية مع ظهور منظورات جديدة من أهمها: ما بعد الوضعية، التفسيرية والنقدية، وتختلف هذه المنظورات فيما بينها اختلافا جذريا حول قضايا الوجود الكبرى الجوهرية مثل طبيعة الإنسان، والمعرفة والحقيقة والقيم والأخلاق وما إلى ذلك، وهي قضايا ذات أثر بعيد المدى في الإدارة التربوية. 

النموذجان التفسيري والنقدي

والنّموذج التفسيري في الإدارة التربوية، يعتمد على مرتكزات فلسفية، أبرزها: 

الموقف من الإنسان: فالإنسان في النموذج التفسيري يختلف عن الكائنات الأخرى بما فيها الحيوان درجة ونوعًا، فالإنسان لديه الغرض والنية والحب والكره والإدارة، وما إلى ذلك مما لا شبيه له لدى الحيوان أو الجماد، ويترتب على ذلك أن الظاهرة الإنسانية الاجتماعية لا يمكن دراستها بالطريقة نفسها التي تدرس فيها الظاهرة الطبيعية أو الحيوانية.

الموقف من الحقيقة: الحقيقة بنية ذهنية غير محسوسة، ذات طبيعة خاصة ضيقة وأساس اجتماعي، ويترتب على هذا الاختلاف اختلاف في السلوك الإداري، فبينما الإداري في الوضعية يفرض وينهى لأنه يطبق قوانين تم التوصل إليها بالطريقة العلمية فإنه في النموذج التفسيري يدخل في عمليات جدل وتأويل وتداول مع جميع الأطراف، لأنه لا توجد حقيقة واحدة بل حقائق.

الموقف من القيم: يرفض هذا النموذج الفصل بين القيم والحقائق بل ويرفض التصويب الذي تقوم به الوضعية لاستيعاب القيم في علم إدارة تربوية جديد، ذلك أن مرتكزات الفلسفة الوضعية تجعلها غير قادرة على ذلك، ويركز التفسيري على قيم العدالة الاجتماعية والإنصاف والحرية في الاختيار وانتشال المهمشين وحقوق الأقليات، ويعتبر أن هذه القيم أهم من الفاعلية التنظيمية وكلفة الإنتاج وما إلى ذلك من اهتمامات إدارية، ذلك أن الإنسان في نظره أهم من المنظمة.

ومن متضمنات النموذج التفسيري للإدارة التربوية، اعتبار المنظمات (ومنها المدارس)، منتجات إنسانية تنشأ بفعل الإنسان وتعمل بفعل الإرادة الإنسانية والمقصد الإنساني، فالمنظمات ثقافة أكثر منها بنية تنظيمية والبشر وخاصة أصحاب السلطة مثلا يضعون القوانين والإجراءات والأنظمة ويُسهمون في تشكيل المناخ التنظيمي والثقافة التنظيمية، ومن المتوقع جدا أن يضعوا القوانين واللوائح ويخلقوا المناخ الذي يخدم تلك المصالح والتحيزات ولذلك فمن الوارد جدا ارتكاب الظلم والتهميش والاضطهاد وما إلى ذلك وقد يتم ذلك باسم الفعالية التنظيمية وكفاءة الإنتاج.

تدعو التأويلية لرؤية العاملين كغايات وليس وسائل، ولذلك على القيادة التربوية أن تعنى ليس فقط بتحقيق أهداف المنظمة بل بالانفتاح على قضايا ذات أهمية إنسانية، ولا يكون تقييم الأداء القيادي بناء على معايير أداء بل على مدى إتاحة الفرصة للآخرين للوعي بالقضايا ذات الأهمية الإنسانية، والقائد ليس مجرد شاغل مركز ذي أدوار في الهرم التنظيمي بل عامل من أجل مجتمع يصون الحياة المعنوية والفكرية للجماعة ويقيم علاقته بالآخرين بناء على العضوية المشتركة في الخطاب المعنوي الأخلاقي للجماعة.

والتفسيرية إذن ليست ضد تطبيق القوانين واللوائح، وهناك أوقات لا بد فيها من استخدام السلطة، ولكن متى؟ وكيف؟ وتحت ظل أي ظروف؟

والنّموذج النقدي هو نموذج فكري معروف في العلوم الاجتماعية مثله في ذلك مثل النموذج الوضعي، وكما في النموذج الوضعي فقد تم تبنّي النموذج النقدي من بعض المفكرين في الإدارة التربوية، وهناك نسخ متعددة من النقدية: النقدية الماركسية، والماركسية الجديدة، والنقدية غير الماركسي، ولكن عادة ما يشير النموذج النقدي إلى النسخة غير الماركسية من النقدية رغم وجود مقولات مشتركة بينهما، والذي نعرضه هنا هو النموذج النقدي غير الماركسي.

ومن المرتكزات الفلسفية للنموذج النقدي أن الظاهرة الإنسانية الاجتماعية لا يمكن دراستها بالطريقة نفسها التي تُدرّس فيها الظاهرة الطبيعية أو الحيوانية.

والنقديّون يؤمنون بوجود حقيقة تتشكل بفعل الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية وعامل النوع الاجتماعي.

وكذا للقيم والأخلاق مكان الصدارة في النموذج النقدي، وتترجم الأخلاق في النموذج النقدي بالعمل على إزالة الجهل وإثارة الوعي، وينتقد النموذج النقدي النموذج الوضعي في الإدارة التربوية لاستبعاده القيم من البحث الإداري، ولتجرِيده الإدارة من البعد الأخلاقي، ولتَركيزه في القضايا على التوصل إلى قوانين وتعمِيمات لفهم هيكل وديناميات الإدارة، ولتَركيزه على القضايا التربوية بحجة الحرص على كفاءة الأداء، وكأن إدارة المدارس هي مجرد عمليات تنظيم وتنسيق وتخطيط واتخاذ قرار واتصال يقوم بها الإداريون، وبهذا يعيد النموذج النقدي البعد الأخلاقي للنظرية الاجتماعية الإدارية التي استبعدها النموذج الوضعي.

ولا يُمكن فهم المنظمات ومن بينها المدارس، إلا في ضوء تحليل علاقات القوى السائدة التي لا تقتصر على ما يجري داخل المنظمة بل خارجها، فما يجري داخل المنظمة إن هو إلا امتداد لتجاذب القوى الخارجية، حتى التقنيات التنظيمية مثل تقسيم العمل وغيره إن هي إلا تعبير عن علاقات القوى وليست تعبيرا عن ضرورات وظيفية أو تنظيمية.

ويؤكد النقديون كثيرًا على الاتصال، فمجتمع الهيمنة والاضطهاد ينتج تشوهات في الاتصال ما يعوق التحرر، فيستخدم النقديون تعبير وضع الخطاب المثالي للإشارة إلى بيئة اجتماعية تسمع فيها جميع الأصوات دون هيمنة صوت على آخر.

ويركزون على كفاءة الاتصال اللازمة للمشاركة الفعالة في صنع القرار، وتعني كفاءة الاتصال القدرة على استخدام الخطاب بشكل مناسب لتحقيق الأهداف والقدرة على جعل الآراء قادرة على الإقناع وكذلك القدرة على تكييف الخطاب لجعل النيات مفهومة، ولذلك من واجب الإدارة التربوية تهيئة وضع الاتصال المثالي في المدرسة وخاصة في الاجتماعات وعند صنع القرار.

ويعتقد أنصار النظريات السائدة في الإدارة التربوية حاليّا أنها تعمل لخدمة القوى المهيمنة في المجتمع وإعادة إنتاجها وإضفاء الشرعية عليها، ويرى هؤلاء أنّ المنظمات القائمة تتصف بالنخبويّة والتوزيع غير الملائم للقوة أو السلطة، وفوق ذلك فهي تعرقل أي برنامج عملي يهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع الاجتماعية على أساس من التحليل المعقول بإمكانيات وحدود الأشكال الاجتماعية السائدة.

ويعيب أنصار النظرية النقدية على النظريات السائدة استبعاد البعد الأخلاقي في أعمالنا والتركيز على القضايا التقنية التي يسهل حلها إداريا.

والاتجاه الأخلاقي لا يشكل نموذجًا فكريا بالمعنى المستخدم لـ”نموج paradigm” عند كوهن، ذلك أن الاتجاه الأخلاقي لا ينطلق من منطلقات فلسفية متكاملة، وقد يكون هذا الاتجاه دينيا أو علمانيا أو تفسيريا أو نقديا. 

وقد يمثل المنتمون لهذا الاتجاه نماذج فكرية وأيدولوجية متنوعة ولكنهم في المجمل يتفقون على نقدهم للوضعية لاستبعادها الأخلاق والقيم من عالم البحث وبسبب توجهها الإداري.

ويرى أنصار هذا الاتجاه أن الاتجاهات السائدة في الإدارة التربوية التقليدية قد استرشدت بما فيهم السلطة والقيادة في النظرية والممارسة الإدارية. 

وقد أدى هذا التركيز على  القيادة والسلطة إلى استبعاد الأخلاق في مهنة أساسها أخلاقي ولكن ممارستها لم تكن كذلك. 

ويضيف هؤلاء أن الوضعية والاتجاه العلمي في الإدارة التربوية ربما أدى إلى زياد الإنتاجية والارتقاء بالأداء التنظيمي، ولكن ذلك كان على حساب الجانب الإنساني. 

الطرح الأخلاقي والديني

و”سيرجيوفاني” من أبرز مفكري الإدارة التربوية في العالم منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، ومع مطلع التسعينات تحوّل إلى بلورة نماذج جديدة للمدارس والإدارة التربوية القائمة على منطلقات أخلاقية ودينية. 

ويدعو هذا العَالِم إلى جعل المدرسة جماعة لا مجتمعا، وتتكون الجماعة في نظره من أفراد يرتبطون معا بإدارة طبيعية وقيم وأفكار مشتركة، ولا توجد منفعة ملموسة أو هدف محدد في ذهن طرفي العلاقة في الجماعة.

وفي خضم البحث عن نماذج بديلة للاتّجاه الوضعي في الإدارة التربوية حطّ بعض المفكرين رحالهم على تخوم الدين وبعضهم اخترق هذا التابوت الذي لم يعد محرما، ولكن قوة نفوذ العلمانية جعلت كثيرين منهم ينأون بأنفسهم عن استخدام لفظ الدين. لقد استخدم سيرجيوفاتي عام 1992 تعبير السلطة المقدسة كمصدر من مصادر المعرفة الموثوق بها في الإدارة التربوية.

وفي ميدان الإدارة تُشير الدراسات المعاصرة إلى أنّ الدين قد ظهر من جديد كمشارك مهم في الجدل الأكاديمي حول القضايا الإدارية. وهناك طرح جديد للقضايا الإدارية باعتبارها قضايا أخلاقية يحق للكنيسة إبداء وجهة نظرها إزاءها.

وهذا الاتجاه لجعل الدين ذا صلة بالإدارة هو جزء من اتجاه عام لجعل الدين ذا صلة بجوانب الحياة اليومية الأخرى والحقول المعرفية الأخرى مثل الاقتصاد، وهناك تقارير متواترة عن تزايد الروحية في أماكن العمل ليس بالمعنى الديني بل بمعنى طرح التساؤلات عن المغزى من العمل والأفعال الإنسانية في ضوء بعض القيم مثل الأمانة والثقة والعدالة والنزاهة والإنصاف والمساواة والحرية والاستقلالية بحيث تجد هذه القيم طريقها للتعبير عن الإجراءات والممارسات اليومية خاصة على مستوى القادة.

ويعتقد أنصار الطرح الديني في الإدارة أن لهم أسبابهم في مطالبتهم بإدخال المنظور المسيحي في الإدارة، ويرى بعض هؤلاء أن الإدارة الحديثة تتعارض مع مبادئ الإنجيل وقد عبّر Rush عن ألمه لأن كثيرًا من المؤسسات المسيحية قد قبلت فلسفة الإدارة العلمانية وسعت لتحقيق كلمة الرب باستخدام تلك الفلسفة الإدارية التي تتعارض جذريًا مع مبادئ الإنجيل.

وهناك دوائر مسيحية أخرى قلقة من تعرض القيم المسيحية للاندثار بسبب التلاشي السريع للبنى الاجتماعية في الأحياء الصغيرة وتزايد التسليع والتسلية والتفاوت الكبيرة بين قيم الكنسية أو المنزل وبين القيم التي تغرسها المدرسة الحديثة.

والتّبشير بالدين عامل آخر لطرح المنظور المسيحي، فهو يريد أن ينقل للآخرين تعاليم القلب والخبرة وأنه طريق الخلاص الوحيد. والكلمات هي شكل من أشكال الشهادة، والصفات الشخصية والطاقة في العمل والشعور بالابتهاج والصلابة والعناية بالآخرين، فهي تتكلم بصوتٍ أعلى بكثير من الكلمات.

وتساعد المناقشة السابقة على وضع المنظور الإسلامي للإدارة التربوية في سياق أوسع من السياق العالمي الذي يشهد بحثا حثيثا عن بدائل للاتجاه السائد، وهكذا لا يبدو طرح المنظور الإسلامي نشازا، حيث يرى AL-Burae أن طرح المنظور الإسلامي هو جزء من حركة عالمية تتبرم من هيمنة النماذج الغربية، ومؤشر على الثقة بالنفس لدى الأمم النامية تدفعها لبلورة أنماط أصيلة من الإدارة.

ويعرف هذا التوجه في أدبيات علم الاجتماع بالتأصيل القائم على احترام ثقافات الشعوب الأصلية، وإسهاماتها في الماضي وما يُمكن أن تسهم فيه مستقبلا.

والتأصيل كما هو معروف في علم الاجتماع ذو توجه محلي بينما التأصيل الإسلامي ذو توجه كوني، فالقضية ليست شرق مقابل غرب وإلا وقعنا في ردود الفعل وفي شوفينية تماثل شوفينية الغرب المستعمر.

المنظور الإسلامي

وللمسلمين أسبابهم لطرح المنظور الإسلامي، فالإدارة ليست مجرد عمليات تقنية بل المعتقدات الأساسية والافتراضات وتلك المعتقدات تشمل الموقف من الإنسان والكون والحياة والحقيقة والمعرفة وما إلى ذلك.

وتشكل هذه المعتقدات الإطار الفكري الذي له انعكاساته على الإدارة فكرا وممارسة، وما كانت نظريات الإدارة لتتعدّد لولا وجود منظُورات فكرية متعددة وراءها، فنظريات الإدارة لم تظهر في فراغ بل في وسط فكري ثقافي تتطابق تقاليده أو تفترق قليلا أو كثيرًا مع الإسلام.

وهناك شبه إجماع بين المسلمين أن الإسلام ليس مجرد علاقة شخصية بين الفرد وربه بل طريقة حياة شاملة، وبهذا الفهم فإن إدارة المنظمات من المنظور الإسلامي هو جزء لا يتجزأ من الإسلام.

وبلورة المنظور الإسلامي ضرورة حضارية، لأنه يساعد في الاشتباك مع الآخر الفكري بطريقة إبداعية بعيدًا عن التقليد الأعمى والاختيار الساذج العشوائي، الذي لا يستند إلى مرجعية، وهذا الاشتباك هو نوع من الشهود الحضاري، فالمعرفة الإنسانية تتقدم من خلال التبادل المشترك بين الأمم والثقافات، ويحصل ذلك التبادل على الدوام، فأحيانا تتقدم أمة ما وأحيانا تتراجع في إطار التداول الحضاري.

ومن البداية لم يتردد المسلمون في استعارة الممارسات الإدارية من الحضارات الأخرى خاصة الفرس ومصر والهند، ولكنهم استوعبوا ما استعاروه وطوروه وأضافوا إليه، ولكنهم كانوا مسلحين بإطارهم المرجعي الإسلامي.

والمؤسف أن المسلمين اليوم يستعيرون الفكر والممارسات الإدارية ولكن دون مرجعية إسلامية، إنهم يتعاملون مع الفكر الإداري الغربي من منطلق الصواب العلمي ولا يقفون منه موقفا نقديا، وكلما ظهر نموذج اعتبر وصفة سحرية إلى أن ينتقده الغربيون أنفسهم ويأتوا ببديل عنه، فيتبع المسلمون ذلك.

وهذا النهج في التعامل مع الآخر لا يساعد المسلمين على الإسهام في المعرفة الإنسانية. إن دور التقليد الأعمى والانتقاء الساذج العشوائي لا يناسب دور الشاهد الذي اختاره الله للمسلم. وهذا يطلب من المسلمين أن يسهموا وليس فقط أن يتلقوا.

إن المنظور الإسلامي يساعد المسلمين على فهم إنجازات الآخر والافتراضات الكامنة وراءها وأسباب النجاح والفشل.

ومع هذا يشاطر الباحثون المسلمون زُملاءهم الغربيين القلق من التدهور الأخلاقي وآثاره بعيدة المدى، ففي غياب الأخلاق والقيم يزدهر الفساد ويحول دون الأداء الصحيح للمنظمات. والاهتمام بكفاءة الأداء والعقلانية والفاعلية بأي ثمن يعكس قيما مادية تماما إلى درجة استبعاد القيم الروحية والأخلاقية.

ولا بد أن تبدأ أي محاولة لبلورة منظور إسلامي للإدارة التربوية من تحديد الإطار النظري، الذي يتضمن المواقف من القضايا الكبرى مثل الموقف من الإنسان والحياة والكون.

والخلافة هي النقطة المرجعية في النموذج الإسلامي، وتتضمن الوكالة معاني الوكالة، والقوامة، والأمانة، وتطوير المصادر، وإدارتها نيابة عن المالك الأصلي، ولا بد من أن يتمتع الخليفة بقوة المبادرة والقدرة على العمل المستقل. وهي تكليف يقوم به الإنسان لتحقيق غاية كبرى وهي “عبادة الله ونيل رضاه”. 

وحسب المنظور الإسلامي، الذي يتسم بالشمول والتوازن والتكامل، تتعدد مصادر المعرفة لتشمل إلى جانب الطريقة العلمية مصادر أخرى، مثل: الدين والأدب والخبر الشخصية، وغير ذلك. ولكن المعرفة الدينية تشكل المرجعية للمعرفة المستقاة من مصادر أخرى.

والمنظور الإسلامي يعطي أهمية للحياة الواقعية للناس في المنظمات وخبراتهم الفردية، وهو ما يتفق مع النماذج التفسيرية والنقدية، كما أنه يعنى برفع الضيم عن المضطهدين والأقليات والمهمشين، وهو ما يجعله يلتقي مع النموذج النقدي. ولكنه لا يعتبر الخبرات الحياتية للناس في المنظمات هي المصدر الوحيد. كما أنه يختلف جزئيا مع النموذج التفسيري والنقدي اللذين يعتبران الشواذ أقليات مضطهدة يجب رفع الضيم عنها. فهؤلاء من المنظور الإسلامي منحرفون يجب إعادة تأهيلهم وتصحيح طريقة حياتهم أو معاقبتهم. 

ويتفق المنظور الإسلامي مع الدعوات التي ظهرت مؤخرًا لاعتبار الدين مصدرا للمعرفة الإدارية. وفي هذا المنظور الإسلامي تخضع المعرفة الإنسانية للوحي، وبالتالي تظل موضع تساؤل وتعديل دائمين. 

ويعد دور النظرية قضية أخرى شائكة في أدب الإدارة التربوية. هناك من يشبه مفكري الإدارة بساكني “البروج العاجية” بينما يشبه الممارسين بالعاملين على “خطوط النار”.

وتتضمن الخاصية العملية للتصور الإسلامي أن يكون البحث باعتباره نشاطا إنسانيا، هادفا، وكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من علم لا ينفع. ووفق مفهوم الإنسان الخليفة يجب أن يكون الباحث شخصًا فاعلا إيجابيا. 

وفي المنظور الإسلامي، فإن الإدارة التربوية ليست مجرد ممارسة تقنية أو قيادة تعليمية، وليست مجرد علمة اجتماع تطبيقي كما تصور في الأدب السائد. بل هي مجهود إنساني هادف يتم عن وعي وتدبر ومرتبط بالمغزى النهائي للحياة وهو عبادة الله. وهذه الإدارة تتكاتف مع النظم الفرعية الأخرى لتحقيق الأهداف التربوية، وهذا المفهوم يحول هذا النوع من الإدارة إلى رسالة ويعطي المنظمة حسا بالاتجاه. 

ومن الممكن استيعاب مفاهيم الإدارة التربوية التي توردها الأدبيات السائدة في المنظور الإسلامي، لكن هذه المفاهيم لن تكون كافية. فالمنظور الإسلامي باتّسامه بالشمول يؤكد جميع العوامل والمتغيرات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي تؤثر في عمل المنظمة.

ويؤكد المنظور الإسلامي البعد الأخلاقي الذي يتم تجاهله طويلا في الأدبيات. ويمكن اعتبار الإدارة التربوية من هذا المنظور كبعد إنساني واع يتفاعل ويتقاطع مع كثير من الجهود الأخرى التي تسعى لتحويل التلاميذ إلى كائنات إنسانية أفضل من خلال برامج تربوية منظمة تتم وفقا للتعاليم الإسلامية.

والإدارة في المنظور الإسلامي شكل من أشكال العبادة بمعناها الإسلامي الواسع، الذي يهدف في النهاية إلى نيل رضا الخالق. وهذا يتضمن كل معاني المشاركة والعناية والاهتمام والحب من جهة، والفعالية والتميز والنشاط من جهة أخرى.

وقد عاش المسلمون من البداية في منظمات وتطور الأمر من منظمة بسيطة “دار الأرقم” إلى المعقدة كالدواوين. ويأمر الحديث أي اثنين إذا اجتمعا “أن يؤمرا أحدهما”. لكن الحياة في المنظمات الحديثة المعقدة لها ضريبة أحيانًا. وهي ثقيلة: مثل تغول البيروقراطية التي تقود إلى الجمود والملل والفساد وفجوات الاتصال. 

وتتحول المنظمة في المنظور الإسلامي إلى أمة مصغرة، جماعة من المتعلمين الذين يرون عملهم عبادة فيتنافسون نحو الأفضل ويمدون يد العون لمن تخلف ليلحق بالركب. وفي هذه الجماعة ينظر إلى المعرفة على أنها نعمة من الله يجب تشاطرها مع الآخرين ولا يجوز كتمانها. 

وفي المنظور الإسلامي ينظر للمدرسين كقادة يجب أن يعطوا الفرصة لإظهار قدراتهم القيادية، ليس للمدرسين وحسب بل والطلاب والعاملون يجب أن يدربوا على القيادة. ويجب قياس أداء القائد، بمدى إفساحه المجال للعاملين ليتدربوا على القيادة. 

والإسلام يحث الإداري على القيادة وصنع وتنفيذ القرارات بعيدا عن الصلف والنشوة والغرور والبذخ، بل في ظل جو من التواضع والاعتدال والخوف من الله. 

والعلاقة بين المديرين والعاملين في الإسلام، لا تعني وجود قادة وأتباع، بل علاقة مميزة لا تحرم العاملين من الكرامة الإنسانية والجدارة، أو المعرفة التي يحرص القادة في الثقافات الأخرى على احتكارها. 

وفي المنظور الإسلامي، فإن الشورى هي آلية صنع القرار، وهي لا تقتصر على تقديم النصح لمن يطلبه بل تعني إخضاع قضايا السياسة العامة للنقاش والجدل والحل من قبل ممثلي الجماعة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159]. 

والاتصال من منظور إسلامي عملية هادفة موجهة بالفضيلة والعقيدة. فالاتصال مستخدم في القرآن مع ألفاظ مثل الخير والبر والقسط والإحسان والعدل والحق والمعروف والتقوى. وبجانب كل ذلك فإن التعاليم الإسلامية تعلمنا متى، وماذا، وكيف، ولماذا نتكلم، ومع من؟ 

والنزاع قد يدمر المنظمات، لكنه في الإسلام يُعالج بالتأكيد على أهمية الوحدة والتوافق والتعاون والتحذير من الفرقة. وتأكيد ما هو مشترك من عناصر وتهوين أسباب الخلاف، وتنوير الناس بأسباب النزاع، والتحذير من الرغبات الشخصية والشهوات العارمة والمصالح المكتسبة والكراهية والحق، وغرس أخلاق التسامح واللياقة والصبر والاعتدال وحب الخير، ومقت المناورة والمماحكات واللفظية والمناوشات والخداع وسحب البساط، والأنانية ولي أعناق الحقائق، واتخاذ مواقف دفاعية والتصلب أو العناد في المواقف. ويدعو الإسلام إلى التحكيم، وحرية التعبير والإنصاف والأمانة وقول الحق والإخلاص، والاعتراف بالخطأ والتوبة.

وفي المؤسسات التربوية تكون السلامة هما رئيسا للإداريين، والمنهج الإسلامي وقائي تصحيحي، يتضمن توفير بيئة سلامة خالية من الإصابات. وفي الوقت نفسه يعمل على توفير بيئة خالية من الاختلاط لتقليص الإثارة الجنسية، ويمنع- أيضًا- اللغة البذيئة والإباحية.

ويعالج الإسلام التوتر داخل المؤسسات التربوية، من خلال تطوير الوعي بالمصادر الداخلية للتوتر، واستخدام المعتقدات الإسلامية لتعديل نوعية التوتر المدرك وتطوير قيادة الذات، وإعادة هيكلة السلوك الموجه للهدف بحيث تلتقي الحاجات الداخلية والرغبات ولكن بقدر أقل من التوتر، ومن خلال تركيز الانتباه على التفسيرات (سبب التوتر) التي تؤدي إلى حل ونمو أكثر من تلك التي تؤدي إلى المرض والأذى.

ويعد المنظور الإسلامي الإدارة التربوية بمدارس تحقق أعلى قدر من الأهداف التعليمية والنشاطات ضمن القيود والمصادر المتاحة، ويتضافر الإنجاز الأكاديمي فيها مع السمو الروحي والنمو الجسمي ليخرج خريجين ينتمون إلى رسالة تتجاوز ذواتهم. 

ويعد بمكان نظيف وموائم للتعلم، والبهجة وجذب الجمهور الداخلي والخارجي للمدرسة، وتتسم العلاقات بالود والمحبة والاحترام داخل هذا الكيان، جنبا إلى جنب مع الفعالية وكفاءة الإنتاج، ويحل التمكين والسلطة الأفقية والشورى محل الهرمية والسلطة الفوقية والعمل من خلال الآخرين. 

ووفق المنظور الإسلامي تسير المثالية والواقعية جنبا إلى جنب، ويعمل الإداريون بمرونة وموائمة، ويحول العاملون إلى دعاة من خلال الجدية والإخلاص في العمل والالتزام ونيل ثقة الآخرين.

وتكون الإدارة في المنظور الإسلامي أكثر عمقا وأقل شكلية وأكثر شمولا، وكل قضية تناقش من حيث صلتها بالقضايا الأخرى وفي ضوء ممهداتها وعواقبها، ويجب ألا يؤثر أي قرار سلبا على ثلاث أولويات: الدين والإنسان والبيئة. 

إن تشرب القيم والأخلاق مع غيرها من المبادئ تجعل الإدارة الإسلامية متميزة عن النماذج السائدة، ويقلل غرس القيم من خرق القوانين وإساءة استخدام الإجراءات والقوانين. بل إنه يقلص الحاجة إلى اللجوء إلى القانون. وهو ما دفع النماذج الإدارية السائدة تحاول الاهتمام بالقيم في العقود القليلة الماضية.

وكان قد لاحظ “سيرجيوفاني” أن القيم الشاملة، قيم الخير غائبة في الفكر الإداري الغربي المعاصر، الذي يؤكد الدقة وكفاءة التشغيل والعقلانية والقابلية للقياس والموضوعية. وهو ما أدى في النهاية إلى “انزياح الهدف” وفقدان البصيرة، والسماح للعمليات التقنية والإجراءات أن تصبح غايات في حد ذاتها.

ويحث الإسلام على التعامل مع فكر الآخر استيعابا وتعديلا ورفضا، والإدارة التربوية وفق المنظور الإسلامي تصل إلى ذروتها عندما تتخطى استيعاب الآخر وإحياء الماضي إلى الإسهام في الحاضر، وهذه هي المهمة الأكثر تحديا وإلحاحاً وتحتاج إلى جهود مضنية. 

ومساهمة الإسلام في الإدارة يجب أن ترى في سياق عالمي، لسد فراغ قائم لم تملأه النماذج الأخرى، فلا بد من أن يلبي حاجة في غاية الإلحاح على مستوى الإدارة التربوية عالميا، وألا يقف عند حدود المسلمين بل يُطرح ليتبناه غير المسلمين في نظمهم التربوية، فطبيعة الإسلام أنه دين عالمي ومنهجه جاء للعالمين.

والإسلام يحذر من إساءة الفهم، لأن أي تصور خاطئ أو تنفيذ غير ملائم للمنظور الإسلامي قد يؤدي إلى عكس الغرض، ومن أشكال ذلك التبسيط والإفراط في الحماسة والشكلية والحرفية والانغلاق الفكري والإفراط في المثالية وفَورة العاطفة والميل لشيطنة الآخر والاستنتاجات التي لا تدعمها الشواهد ولا المنطق وفرض الفهم الشخصي والتفسير الشخصي لنصوص الوحي وكأنها فهوم ملزمة.

ولا بد من وضع المنظور الإسلامي في الإدارة التربوية موضع التنفيذ، حيث لا يزال الأدب الإسلامي الإداري حديثا وأحدث منه المؤسسات التي تعمل في هديه، وبالتالي من الضروري بذل الجهود لإسقاط هذا المنظور على الواقع.. ومن أجل إنضاجه وتنفيذه بحاجة إلى جهود بحثية وباحثين مؤهلين وتراث علمي.

ويفتقر الإنتاج العربي والإسلامي في الإدارة التربوية إلى المثابرة الضرورية لإحداث تراكم معرفي يشكل مع الأيام تراثا وتقاليد بحثية وعلمية لأجيال من الباحثين. كما يفتقر الباحثون العرب والمسلمون إلى الاتصال العلمي فيما بينهم. وعليهم عدم الاكتفاء بإجهاد أنفسهم بإثبات السبق الإسلامي في الإدارة والسعي لشيطنة الآخر.

تعريف بالكاتب: 

هو الدكتور عادل توفيق عطاري، فلسطيني من مواليد الضفة الغربية 1947م، أردني الجنسية، حاصل على الدكتوراه في التربية تخصص (القيادة التربوية) من جامعة درهام، بريطانيا عام 1990م، عمل محاضراً في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لمدة 6 سنوات، وانتقل بعدها ليعمل أستاذناً في قسم أصول التربية والإدارة التربوية، كلية التربية جامعة اليرموك بالأردن.

له مؤلفات قيمة في المجال التربوي، منها: (الإشراف التربوي – اتجاهات حديثة في التربية – التوجيه التربوي اتجاهات معاصرة). ودراسات تربوية تتجاوز (30 دراسة) علمية محكمة ومنشورة في مجلات عربية وأجنبية، فضلاً عن عدد من الأوراق العلمية التي شارك بها في بعض المؤتمرات العربية والدولية.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة