أصابَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ  يَسْتَأْمِرُه( ) فيها، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنفَسَ عِنْدِي مِنْهُ؛ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟

أصابَ عُمَرُ بن الخطاب رضي الله عنه أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ r يَسْتَأْمِرُه([1]) فيها، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنفَسَ عِنْدِي مِنْهُ؛ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ فقال r: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُرضي الله عنه؛ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الفُقَرَاءِ، وَفِي القُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ...([2]). بهذا الحديث؛ قد شرَّع النبيُّ r سُنة "الوَقْف" في الإسلام. والوَقْف شرعًا هو: «حَبْسُ مالٍ يُمْكِن الانتفاع به مع بقاء عَيْنه، بقَطْعِ التصرُّف في رقبته على مَصرَفٍ مُباحٍ موجودٍ»([3]). وقيل هو: «تَحْبيس الأصل وتَسْبيل المَنفَعة»([4]).

وتلك الفكرة المُلهِمة التي سنَّها رسولُ الله r أَبدَعَ المسلمون في تطبيقاتها حتى صارت من أرْوَع إضافات أُمة الإسلام للحضارة الإنسانية كافةً؛ فتأسَّسَت أوقاف كثيرة في كثير من المجالات؛ مثل: (الصحة - العبادة - التعليم - السفر)؛ حتى وَصَل إلى الوَقْف في (تجهيز العرائس - مساعدة المَكفوفين - تمهيد الطُّرُق)؛ لينتفع بها المسلمون وغيرهم، ما داموا يعيشون في دولة الإسلام.

وميزة الوَقْف تَكْمُن في أنه يَضْمَن دَيْمُومَة العمل الخيري دون توقُّف، بعكس صدقات المرة الواحدة؛ بسبب وجود مَصدر تمويلٍ مُتجدِّد لفكرة العمل الخيري، ولا يجوز لصاحب الوَقْف التصرُّف فيه ببَيْعه ولا بهِبَته ولا بتَوْريثه؛ لذلك عُدَّ الوَقْف أفضل سُبُل تمويل العمل الخيري.

الأوقاف التعليمية:

على مَرِّ تاريخ الدول الإسلامية كانت هناك أوقاف كثيرة للمدارس والتعليم([5])؛ وقد أَوْرَدَ الإمام محمد عبده ~ كلامًا عن تنافُس الأمراء والسلاطين في إنشاء المدارس وإعلاء مكانة العِلْم والعلماء؛ فقال ~: «إنَّ وُلاة الأقاليم والوزراء كانوا يُنافِسون الخلفاء في إعلاء مقام العِلْم والعلماء، وبَسْط اليد في الإنفاق على بيوت العِلْم ومساعدة الفقراء على طَلَبه؛ فانتشر من ذلك ذَوْق العِلْم، ووُجِدَت اللَّذة في تحصيله بين الناس. وقد أنفَقَ الوزيرُ "نِظَام المُلْك" مِائَتَيْ أَلْف دينارٍ على بناء مَدرَسةٍ في بغداد، وجَعَلَ لها من الرِّيع ليَصْرِف في شئونها خمسةَ عشرَ أَلْف دينارٍ في السَّنة»([6]).

وقد شَهِدَ ذلك ابنُ جُبَير في رحلته؛ حيث قال: «وَجَدتُّ في بغداد نَحْو ثلاثين مَدرَسةً، كلها كالقصر البديع، وأَعْظمها وأَشْهرها "المدارس النظامية" التي بناها الوزيرُ "نِظَام المُلْك"، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات مُحبَّسَة تَصِير إلى الفقهاء المُدرِّسين وإلى الطلاب. ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس شَرَفٌ عظيمٌ وفَخْرٌ مُخلَّدٌ؛ فَرَحِمَ اللهُ واضِعها الأول، وَرَحِمَ مَن تَبِعَ تلك السُّنة الصالحة»([7]).

وممَّا يُضرَب به المثل في استمرارية فعالية الوَقْف في التعليم؛ الكتاتيب؛ حيث إنه «لمَّا كان تعليم الأولاد يُعَدُّ أمرًا شرعيًّا وواجبًا دينيًّا تَقَع مسئولية القيام به على عاتق الآباء؛ تَوَلَّي أولياء الأمور والمُحسِنون من المسلمين أمرَ إنشاء الكتاتيب والإنفاق عليها، وشارَكَ في هذا الفضل المُعلِّمون الذين كانوا يقومون بمهنة التدريس احتسابًا، ولا سيَّما في العهد الأول للإسلام. ثم انتشرت الكتاتيب العامة الموقوفة بعد ذلك عبر العصور، حتى أصبحت الكتاتيب تَضُمُّ الأطفال اليتامى والفقراء والمساكين، حتى أصبحت كتاتيب "الضَّحَّاك بن مُزَاحِم"([8]) عام (105هـ) تحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف طفلٍ، كما أصبحت بالشام كتاتيب موقوفة لتعليم أبناء المسلمين حول الجامع الأموي بدمشق. ثم تَلَا بعد ذلك الكتاتيب في مصر وفي عهد المماليك ثم الدولة العثمانية، وخصوصًا الكتاتيب التي أقامتها في مكة المكرمة والمدينة المنورة، حتى جاء عهد المَلِك "عبد العزيز" فتَمَّ الاستغناء عنها بالمدارس النظامية المجانية»([9]).

«وقد أَنشأ السلطانُ "قايتباي"([10])  المدرسةَ الأشرفيةَ في مكة المكرمة عام (882هـ)، وأمَرَ بدريس المذاهب الأربعة فيها، ووَقَفَ عليها أوقافًا كثيرة من مصر. كما أَنشأ في المدينة المنورة -بعد الحريق الثاني للمسجد النبوي عام (886هـ)- رِباطًا([11]) يُشْرِف على المسجد النبوي والمدرسةَ الأشرفيةَ عام (887هـ)، وأرسَلَ إلى المدرسة خزانةً كبيرةً من الكتب والمصاحف وجَعَلها وَقْفًا على طلبة العِلْم، كما خَصَّص لطلابها مُخصَّصات مالية»([12]). وقد ذَكَرَ السَّمْهودي  أنَّ السلطان "قايتباي" قد اتخذَ أوقافًا عظيمةً بَلَغَ مُتَحَصَّل ريعها من الحَب (7500) إرْدَب([13])([14]).

الوَقْف أَم الصدقة؟

من أكثر التحديات التي تُهدِّد أي مشروعٍ دعويٍّ أو تربويٍّ؛ قِلَّةُ الموارد المالية أو انعدامها -أحيانًا-. ومن خلال ما ذُكِرَ؛ يتضح أنَّ الوَقْف وسيلة عملية ومثالية لتمويل المشاريع الخيرية عامةً والمشاريع التعليمية خاصةً، وهذا ما أَوَدُّ الإشارة إليه في هذا المقال؛ بأن تَتَّجه الكِيَانات الدعوية والتربوية إلى تأسيس أوقافٍ لها قَبْل البدء بإنشاء العمل نفسه، وذلك لضمان استمرارية العمل دون توقُّف.

إنَّ اعتماد الكِيَانات على "صدقات المرَّة الواحدة" يَضَع العمل الدعوي والتربوي تحت تهديدٍ دائمٍ بالتوقُّف؛ بسبب عدم ثبات مصدر التمويل، بالإضافة إلى كثرة القيود والوصايات المشروطة من صاحب الصدقة، فكل صاحب صدقة له شرط في العمل وله مزاج مُستقِل عن المُتبرِّع الذي قبله والذي بعده؛ مما يَضُرُّ بالكِيَان ككل.

قد تستصعب بعض الكِيَانات تأسيس وَقْفيات بحجة ضخامة التكاليف، والعجيب أنك لو حَسَبتَ تبرُّعات الصدقة الواحدة التي جمعها ذلك الكِيَان؛ سَتَجِدُ أنها تُغَطِّي تكاليف الوَقْف وزيادة، ولكن هناك فَرْق بين قائمٍ على كِيَانٍ ينظر تحت قدمَيْه ويكتفي بـ"السمكة"، وآخَر ذي نَظَرٍ بعيدٍ يريد تعلُّم كيفية "الصيد" لِئَلَّا يُكرِّر احتياجه إلى السمكة كل مرة!

إنَّ خطوة تأسيس الوَقْف خطوةٌ مُهِمَّةٌ قبل تأسيس أيِّ عملٍ دعويٍّ أو تربويٍّ، والشواهد التاريخية التي ذَكَرتُها سابقًا دليلٌ على أنها ليست فكرةُ مُستجَدَّةً على المسلمين، بل هي مُتأصِّلة فيهم بقِدَم وجود حضاراتهم، فنحن أَوْلَى بإعادة تطبيقها، وتفعيل تلك الوسيلة التي تَرَكَها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَن تَبِعَه من السلف الصالح رضي الله عنهم.

ما من كِيَانٍ إلا وله تبرُّعاتٌ أو صدقاتٌ للإنفاق على عمله، والواجب على القائمين على العمل تخصيص جزء من تلك التبرُّعات أو الصدقات إلى تأسيس الوَقْفيات؛ لكي يعتمد الكِيَان على نفسه ويتخلَّص من تحدي التمويل المُزعِج، وليس من اللازم أن يكون الوَقْف ضخمًا أو يُقدَّر بالملايين، وإنما يكفي البدء بوَقْفٍ قليل التكلفة ثم تكبيره مع الوقت، فالمهم أن تكون الفكرة حاضرةً في ذهن القائمين؛ للاستغناء عن "صدقات المرَّة الواحدة" وسؤال المُتبرِّعين.

 

وَجْه المُقارَنة

الوقف

الصدقة

شروط المُتبرِّع

واحدة

عديدة

استمرارية العمل

مُستمِر

مُتقطِّع

إمكانية توفُّره

صعب

سهل

 

نصائح في إنشاء الوقف:


وفقًا للواقع الذي نعيشه، والتجارب التي شاهدتُّها في الكيانات الدعوية والتربية؛ يُمْكِنني اختصار النصائح في النقاط الآتية:

1- يجب أن يَتَحَرَّز الكِيَانُ الدعويُّ عند تأسيسه الوَقْف إذا كان تحت حُكمٍ استبداديٍّ؛ لأنَّ الحُكم الاستبدادي لا يتورَّع -لحظةً واحدةً- عن مُصادَرة تلك الأوقاف وضَمِّها إليه؛ وبالتالي ستَضِيع جهودُ أعوامٍ من بَذْلٍ بقَطْع التمويل عنه؛ مما يعني بالضبط: قَطْع الحَبْلِ السُّرِّيِّ للكِيَان! والحل في ذلك هو عدم الإفصاح عن العلاقة بين الوَقْف والكِيَان، لا بإشهارٍ ولا بتعيين مُسمَّى يدل على التَبَعِيَّة؛ وذلك لتجنُّب أي محاولة رَبْطٍ بين الكِيَان والوَقْف، وإبعاده عن المُناوَشات، وإن تَمَكَّن الكِيَانُ من جَعْل الوَقْف خارجيًّا بحيث لا يجتمع الوَقْف والكِيَان في نفس الدولة؛ لكان ذلك أفضل.

2- يجب تنويع الأوقاف، وذلك في حال تَوَفُّر سيولة مالية؛ فالتاجر الماهر هو مَن يُنوِّع تجارته ويضعها في مجالات مُتعدِّدة، بحيث إذا تعرَّض لخسارةٍ أو كَسَادٍ في قطاعٍ مُعيَّنٍ؛ يتحمَّل الخسارةَ قطاعٌ واحدٌ فقط ولا تتأثر بقية القطاعات؛ عَمَلًا بالحكمة الصِّينيَّة الشهيرة: «لا تَضَع كُلَّ البَيْض في سَلَّةٍ واحدةٍ».

3- يجب أن يُسنَد أمر الوَقْف إلى مُختصٍّ كُفْءٍ، ويتفرَّغ لهذا العمل -إذا اقتضى الأمر-؛ ليحقِّق الوَقْف أفضل نتيجة وأقصى فائدة ربحية. وقد كان أصحاب الوَقْفيات -فيما مضى- يُعَيِّنون شخصًا كُفْئًا مُختصًّا لرعاية الوَقْف، كان يُسمَّى بـ"ناظِر الوَقْف"، وكان يقوم على شئونه، وتنظيمه إداريًّا وماليًّا، وتنفيذ شرط الواقف عليه.

 



([1]) يستشيره.

([2]) رواه البخاري. باب: الشروط في الوقف. حديث رقم (2737). واللفظ له. ومسلم. باب: الوقف. حديث رقم (1632).

([3]) البكري الدمياطي. إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق. ط1، 1418هـ. 3/186.

([4]) الحجاوي. زاد المستقنع في اختصار المقنع. تحقيق: محمد عبد الله الهبدان. دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية. ط2، 1428هـ. ص257.

([5]) اكتفَيْتُ بذِكْر بعض الأوقاف الخاصة بالمدارس والتعليم لأنها محل حديثي، لكن الأوقاف في التاريخ الإسلامي لم تنحصر في هذا المجال فحَسْب؛ إذ إنَّ التاريخ الإسلامي يزخر بالمدارس الوقفية، والأربطة الوقفية -سيأتي معناها-، والمستشفيات الوقفية، والمرافق العامة المدنية الوقفية.

([6]) الإمام محمد عبده. الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية. دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت. ط3، 1988م. ص107. بتصرف يسير.

([7]) ابن جبير. رحلة ابن جبير. دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت. ط1. ب.ت. ص205. بتصرف واختصار.

([8]) هو التابعي والمُفسِّر المعروف.

([9]) طارق عبد الله حجار. تاريخ المدارس الوقفية في المدينة المنورة. الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة. العدد العشرون بعد المائة. 1428هـ. ص476، 477. بتصرف واختصار يسير.

([10]) من سلاطين المماليك، وهو أيضًا مَن أنشأ قلعة قايتباي بالإسكندرية.

([11]) جمع رِباط "أربطة"؛ وهو مأوى لإقامة الفقراء وغيرهم من رُوَّاد العِلْم (مُعلِّمين ومُتعلِّمين).

([12]) أحمد هاشم بدرشيني. أوقاف الحرمين الشريفين في العصر المملوكي: دراسة تاريخية حضارية وثائقية من واقع دور أرشيف القاهرة. رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي. جامعة أم القرى، المملكة العربية السعودية. 1421هـ. ص100-102. بتصرف واختصار.

([13]) الإرْدَب: يساوي (150) كيلو جرامًا.

([14]) السمهودي. خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى. تحقيق: محمد الأمين الجكيني. ب.ط. ب.ت. 2/194.

ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة