من المعارف البشرية مما لابد للداعية من الأخذ منها بسهم، والاستفادة منها بنصيب: تلك العلوم الطبيعية الصحيحة، والمبنية على المشاهدة والتجربة، كعلوم الفلك والفيزياء، والرياضيات والكيمياء، وما يتعلق بالبيئة والأحياء، وشيء من قواعد الطب وأحوال البيئة.
من المعارف البشرية مما لابد للداعية من الأخذ منها
بسهم، والاستفادة منها بنصيب: تلك العلوم الطبيعية الصحيحة، والمبنية على المشاهدة
والتجربة، كعلوم الفلك والفيزياء، والرياضيات والكيمياء، وما يتعلق بالبيئة والأحياء،
وشيء من قواعد الطب وأحوال البيئة؛ إذ إنها -وإن كانت ظنية- إلا أنها علوم صحيحة،
لا تخالف صحيح المنقول، ولا تعارض صريح المعقول: (ففي الإدمان على معرفة ذلك،
تعتاد النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة، والقياس المستقيم، فيكون في
ذلك تصحيح الذهن والإدراك، وتعوّد النفس أنها تعلم الحق وتقوله لتستعين بذلك على المعرفة
التي هي فوق ذلك... وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بعلم
الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة، ونحو ذلك؛ لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو
علم صحيح لا يدخل فيه غلط)[2].
وليس المقصود الإكثار منها، أو الولوج فيها، إلا لمن
كانت أسلوبًا لمعاشه، أو ممن يقوم عن الأمة بفرض الكفاية فيها، وإنما المطلوب منها
ما عمت فائدته، وسهل تناوله، ووضحت مسائله، وتساوقت مناهجه؛ إذ فيها إدراك لفهم
الحياة، ووسيلة لسير العلائق، فتكسب الداعية عقلاً تحليليًا، ومنهجًا استنباطيًا،
يساعد على استعمالها في توسيع العقول والأذهان، وفي كسب القلوب والمشاعر، ويعين في
أمور التخطيط والتربية...
الوعي الحضاري:
إن
هذه العلوم والفنون تقود إلى درجة الوعي الحضاري، والذي هو من مقاصد الشريعة؛ إذ
إن بواسطته يمكن للداعية ما يلي:
-
معرفة ما عند الآخرين من علم ومعرفة، وأنظمة ومعارف، تكون بمثابة الوسائل لخدمة
هذا الدين، تطبيقًا لقاعدة (الحكمة ضالة المؤمن).
-
معرفة الأسباب والعوامل المؤدية إلى سقوط المدنيات أو نشوئها، وتحقق سنن الله
تعالى في ارتباط السقوط بالمعاصي، وصعود الأمم بالطاعات.
-
معرفة التجارب الحربية والصراعات السياسية، الجاهلية منها والدينية، وكيف تؤدي
الجمعيات والمؤسسات العالمية أهدافها وتنفذ رسالتها.
-
معرفة التطبيقات العملية للمفاهيم التربوية، وطرق معالجة القضايا السلوكية،
بالتوسع في رؤية وسائل التعليم ومتاحف العلوم، ومعرفة نقاط الضعف والقوة، وعوامل
البناء والتخريب في المجتمعات المختلفة، ومعرفة مدى تأثير العوامل المختلفة في
ذلك.
كل
هذا ينمى قدرة الداعية على التفكير وعلى القياس المستقيم، وربط المسببات بأسبابها،
والعلل بمقدماتها، ويفهم -على ظروف الواقع- الظواهر وتحليلها، فتنمو عنده ملكة الإدارة،
والمقدرة على التحليل والاستنباط، والتخلص من سذاجة التفكير، أو من سطحية
الاستنتاج، وعدم الجنوح تحت تأثير سلبيات العاطفة، أو الاغراق في مثاليات التأمل؛
ما يجعل العمل في رحلة المسافر أكثر صوابًا وأشد قربًا إلى تحقيق الغايات.
المعرفة
الشمولية.. لماذا؟!
إن
معرفة هذه العلوم النظرية للفنون الميدانية، ثم تشذيبها بالحوار والمناقشة،
وتطويرها بالتأمل والتفكر والسياحة، بعد تصويبها بقواعد الشريعة ومبادئ العقيدة؛
لمن وسائل الدعوة المهمة، يجب على الداعية الأخذ بها، بمقدار ما ترتبط بالأهداف
المتعلقة بها، فهي تأخذ حكمها من حكم غاياتها، وفوق الأهمية التي سوف تتركها على
النفس والسلوك وعلى العقل والإدراك، فهي -في الوقت نفسه- طريق لوسائل أخرى لابد
منها في مناهج التحليل والاستقراء، وطرق الاستنباط والاستخراج؛ إذ فيها وبواسطتها
يمكن الترجيح بين المصالح المرسلة المختلفة، واختيار الفضل منها، وبواسطة تكامل
هذه العلوم وشمول المعرفة، يمكن استعمال الواقع في استقراء الغايات، فتفتح أبواب
المصالح، وتسد الذرائع الموصلة إلى المفاسد، والمقصود طبعًا في كل ذلك مما لم يرد
فيه نص ولا يُعرف بالشرع، بل هو مما يدرك بالعقل والتجارب، أو هو من الوسائل
المناظرة لمصالح الدنيا.
وكتاب
سلطان العلماء العز بن عبد السلام كله في هذا الباب، وفيه يقول: (أما مصالح
الدارين وأسبابها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طُلب من أدلة الشرع، وهي
الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا
وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي
شيء من ذلك، طلب أدلته)[3].
وما العلم الشمولي إلا من أدوات التجارب، ووسائل طلب الدولة، وممهدات التمكين.
تحقيق
المناط:
ومما
يحتم معرفة الفنون المختلفة، تمكُّن الداعية من إنزال الأحكام الشرعية على
الوقائع، ومعرفة تطبيق النصوص على النوازل، وهذا الفن أسماه علماء الأصول (تحقيق
المناط)؛ إذ به يتعرف المكلف على مداخل الشيطان وحظوظ النفس، والداعية - كأي مسلم-
لابد له منه، وهو يحتاج إليه في أمرين: أولهما تخليص النفس من الضرر والحرج، وخلوص
العمل من الشوائب، والثاني يختص بالتكليف غير المنحتم بوجه آخر: (وهو النظر فيما
يصلح بكل مكلف في نفسه، يحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس
ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك.
فرب
عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل
يكون حظ كف النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون
بريئًا من ذلك في بعض العمال من بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورًا
يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل
أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل
على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في
تلقى التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقق)[4].
وبالتالي،
فإن تعلم العلوم المختلفة لهي أداة مهمة عند الدعاة العاملين لتحقيق مناطق الأحكام
الشرعية، وإنزال النصوص منازلها الواقعية، ويتحقق أخيرًا صواب العمل المبني على
العلم الصحيح.
إضافة تعليق