ابنى شاب متفوق أنهى تعليمه الثانوي بتفوق، والتحق بكلية من كليات القمة واضطر للعيش في المدينة الجامعية التي تتبع لجامعته، ورغم أنه شاب هادئ ومثالي ومتفوق إلا أن كل من يسكن معه في الغرفة لا يستطيع الاستمرار معه هربًا من قلة النظام والنظافة في الغرفة نتيجة إهماله هذه الناحية في حياته، ورغم أننا كنا ندرك هذه المشكلة معه لكننا كنا نتجاوز عنها نظرًا لتفوقه واجتهاده في المذاكرة، وكنا نحاول جميعنا أن نسدد وراءه وننظم وننظف بدلًا منه، لكننا لم نكن ندرك أن الأمر قد يؤثر على حياته إلى هذا الحد باعتباره ولدًا، لكنه بدا متأثرًا بها لدرجة أنه الآن يفكر في التخلي عن دراسته بسبب ذلك الأمر؟!
مع الأسف ارتبط في مجتمعاتنا تنشئة الفتاة على المهام المنزلية وترك الشباب هكذا هملًا، حتى يقابل الأهل بعد ذلك بواقع لا يفرق بين الولد والفتاة في ذلك الأمر.
هذا، وإن اتخذ عموم الناس ذلك السلوك منهجًا متوارثًا، فأولى بأصحاب الفهم الصحيح أن يفعلوا غير ذلك ديانة، فكان- صلى الله عليه وسلم- وهو من هو = كان في مهنة أهله، فكان لديه من المهام الجسام في تبليغ دعوة ربه، وقيادة الأمة ما يجعله بلغتنا معذورًا إن لم يشارك أهل بيته شيئًا، فيكفيه همومه الخارجية، إلا أنه الرسول المعلم، ما ترك لنا شيئًا إلا وله فيه قول أو فعل، فكان فعله في بيته (التعاون مع أهل بيته).
فعن السيدة عائشة- رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكًا بسّامًا، وما كان إلاّ بشرًا من البشر، كان يكون في مهنة أهله- يعني خدمة أهله- يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته، فإذا أحضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، ولا رأيته ضرب بيده امرأة ولا خادمًا”.
فلمَ نترك هذا الخير، وذلك التأسي بدعوى انشغال أبنائنا في مهمة المذاكرة وتحصيل العلوم؟!
فتعلم مهارات الحياة لا تقل أهمية أبدًا عن تعلم العلم، فمشكلة كهذه، أصبحت تهدد مستقبل ابنكم الدراسي، ويفكر في الانسحاب من دراسته التي أدت به للغربة، لأنه لم يتعلم تنظيم غرفته!
عدم تعلمه في حد ذاته مشكلة، ثم اختيار الهروب من المشكلة، مشكلة أكبر، فمتى يواجه إن تعلم الانسحاب؟!
متى يتعلم إدارة شئونه الخاصة وتحمل مسئوليته إن لم نستفد من ذلك الموقف؟!
يقولون في المثل (الذي لم يتعلم في بيت أهله يعلمه الجيش)، أي حينما يلتحق بالجيش بما فيه من نظامية شديدة، وصرامة وحزم، تجعل من فاته تعلم مثل هذه الأشياء في سعة في بيت أهله، يتعلمها غصبًا في هذه المنظومة، فنرى وجوده في منظومة جديدة هي فرصة لا تعوض لتعلم سلوك فوته على نفسه وفوتوه عليه في بيتكم.
والأمر جله بسيط، إن تعلم المهارات الأساسية لإدارة وقته، سيجد وقتا لكل شيء، فالوقت يتسع لأداء مهمة واحدة إذا أردنا ذلك، كما يتسع للأداء عشرات المهمات أيضًا إذا ما أتقنا بعض الفنون البسيطة، فالشخص الذي لديه الوقت لينجز كل ما يريد فعله، ليس هو الشخص الذي لديه مهام أقل، إنما هو الشخص الذي لديه مهارات إدارة الوقت التي تعينه على إنجاز مهام أكثر في وقت أقل.
وإليكم بعض النقاط المهمة في تعلم إدارة الوقت:
- مهارة ترتيب الأولويات: فنفرق بين الشيء المهم والشيء الملح، فالشيء الملح تأخيره قد يترتب عليه نتائج وخيمة، فقد يعكف مثلًا على حل مزيد من التمارين ليتمكن من المادة العلمية ويتأخر في شحن جهازه الذي سيمتحن عليه، فلا ينفعه حين ذاك فعل المهم وهو المذاكرة وترك الملح وهو شحن الجهاز، فترتيب الأولويات مهارة تقع على قمة مهارات إدارة الوقت،
- يساعد (عمل الجداول )على تنظيم الوقت، فتحديد الأولويات والحكم على المهام وترتيبها حسب أهميتها لا يتم إلا بترتيبه على الورق كتابة، ولو علقت على الحائط أمامنا كانت أكثر فائدة.
- تعد (مهارة التفويض) مهارة مهمة في إدارة الوقت، فإذا كان جل هم ابنكم (تحصيل العلوم) فيجب أن يتعلم التفويض في بعض شئونه حتى يتسع له الوقت للتعلم، فقد يحتاج إلى الاتفاق مع أحدهم يرتب له غرفته كل فترة بشكل جيد حتى تصبح مهمة تنظيفها يوميًا أمرًا سهلًا.
- كما أن بعض الأشخاص الذين يعانون من المثالية المعطلة لا يثقون في أداء غيرهم لبعض المهام، فتجدهم يعملون كل شيء بأيديهم، فلا يتسع وقتهم لأداء مهام عديدة، فيحتاج مثل هؤلاء (المثاليين) إلى تعلم التفويض حتى في المذاكرة، كما من المهم تعلم التفويض في مهام التنظيف سواء بسواء، كأن يعتمد على ملخصات الدفعات السابقة مثلا ولا يلخص بنفسه، ولا يخجل من طلب المساعدة من الآخرين في فهم ما استشكل عليه وهكذا، فالتفويض يوفر الوقت حتى يتسع لأداء المهام التي لا ينبغي أن يقوم بها غيرك.
- تعلم أن ( تحقيق التوازن) بين كونه طالبًا يرجى منه التفوق أمر مهم جنبًا إلى جنب كونه إنسان يعيش في مجتمع يجعل القبول شرطًا لدخول الناس إلى عوالم بعضهم، فيتعلم ألا يحيا في جزر منعزلة، وما كان يقبله في غرفته في البيت من سوء التنظيم، لا يقبله من يشاركونه في السكن، ولهم كامل الحق في ذلك، فتعلم التوازن بين الأدوار المطلوبة منه أمر في غاية الأهمية.
- لو أدركنا أن (الفوضى هي أكبر مشتت يضيع الوقت)، وليس التنظيم هو من يضيع الوقت، نكون قد وصلنا إلى قناعة تغير من سلوكنا كثيرًا، فالبحث عن ورقة في أكوام مكدسة على المكتب، يستغرق وقتًا أطول أم إخراجها من ملفها المخصص؟! وكم سيستغرق إدخالها في الملف المخصص، مقابل الوقت المبذول في البحث عنها وسط أكوام الورق؟! الوعي بهذه النقطة يؤثر في السلوك ويغيره بلا شك.
- لكل شخص ما يعرف بـ(الوقت الذهبي)، أي الوقت الذي تبلغ فيه طاقته ونشاطه مداها، فبعض الناس ينشطون بالليل وبعضهم ينشطون بالنهار، وبعضهم قبل النوم مباشرة ينشط، والبعض ينشط أول الصباح بعد استيقاظه مباشرة، فمعرفة كل منا بطاقاته وقدراته، ووقت نشاطه، مفيد في إنجاز المهمات خاصة الثقيلة منها.
- قد يظن البعض أن عمل أكثر من مهمة في نفس الوقت يعتبر شكلًا من أشكال الاستفادة الأمثل للوقت، لكن المعلوم أن (تخصيص وقت واحد لأكثر من مهمة يكلف عقولنا وقتًا طويلًا لإعادة التركيز مرة أخرى)، فلا ننصحه مثلًا بالاستماع إلى محاضرة وهو يرتب غرفته، فغالبًا هذا سيبطئ من أدائه في ترتيب الغرفة وسيحتاج إلى إعادة الاستماع إلى المحاضرة ثانية لأن الذهن مشتت، بينما بعض الناس يعرف أداء بعض المهام على التوازي، خاصة النساء، فإن وجد في نفسه تلك المهارة فلا بأس في ذلك.
- أثناء ترتيب المهام في الجدول، من المهم كتابة (وقت الراحة )بين المهام، فتحديد عشر دقائق للراحة بين كل مهمة وأخرى، يجدد من الفاعلية والنشاط، وتحديده بشكل مسبق يحفز على إنهاء المهمة لأن لديه راحة مرتقبة. ولا يوصى بأداء المهمات والجسم يحتاج إلى الراحة، فهذا يثقل أداء المهمة ويجعلها تأخذ وقتًا أطول مما لو فعلها الشخص وهو بكامل نشاطه.
- عدم التسويف والتأجيل دون داعٍِ؛ فتراكم المهام يجعل أداؤها على النفس ثقيلًا للغاية، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه في النقطة السابقة وهو التأجيل إذا ما شعرنا بالتعب والحاجة إلى الراحة، فالتعب يعد داعيًا ولا يعد تسويفًا.
- هي النقطة الأخيرة ولكنها الأكثر أهمية بعد فهم الأولويات، وهي (البكور) فعن صخر بن وداعة الغامدي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي- صلى عليه وسلم- قال: “اللهم بارك لأمتي في بكورها”، وكان إذا بعث سرية أو جيشًاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان يبعث تجارته من أول النهار، فأثرى وكثر” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فواقعيًا أكثر الناجحين في حياتهم ينشطون باكرًا.
بارك الله لكم في جهدكم، ونذكركم أنه إذا تأخرنا في تدريب أبنائنا على تحمل المسئولية بشكل جيد في السابق، فلن نجد أفضل من هذا المأزق، فارفعوا أيديكم عن العمل نيابة عنه، وأحسنوا له النصح والتوجيه، سدد الله خطاكم وأقر أعينكم بما يسعدكم من أبنائكم وهداهم إلى ما يحب ويرضى.
إضافة تعليق