المنتدى الإسلامي العالمي للتربية
يحمل الأطفال براءة وفطرة صافية قد تدفعهم إلى طرح أسئلة تبدو بسيطة لكنها عميقة، كأن يسأل ولد أباه أو أمته “أين الله مما يحدث لأهل غزة؟، ولماذا لا يتدخل الله لإنقاذهم؟”، يأتي ذلك في عالم مليء بالظلم والألم، وفي خِضَم لحظات الفقدان والحزن، وبين مشاهد الألم التي تملأ الشاشات عن معاناة أهل غزة.
وتحتاج الإجابة عن مثل هذه الأسئلة استجماع الطاقة لتقديم إجابة لا تقتصر فقط على التفسير المنطقي، بل تمتزج بالحكمة؛ حتى لا يتسرب الشك إلى قلب الصغير، بل ربما يكون التقصير في الإجابة بابًا للإلحاد وفقدان الإيمان في المستقبل.
أين الله مما يحدث لأهل غزة؟
أول ما يجب أن نبدأ به في حديثنا مع الطفل بشأن سؤاله (أين الله مما يحدث لأهل غزة) هو التأكيد على أن الله- سبحانه وتعالى- عليم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأن ما يحدث في غزة، من قتلٍ ودمارٍ وتشريد، كل هذا ليس بعيدًا عن علم الله، بل على العكس، الله يعلم أدق التفاصيل. يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [المجادلة: 7]، هذا العلم الإلهي ليس علمًا مجردًا، بل هو علم يترافق مع حكمة وعدل ورحمة، وهذا ما يجب أن نشرحه لأطفالنا.
لماذا يترك الله الأبرياء يعانون؟
وقد يمتد سؤال الابن ليتخطى (أين الله؟)، إلى: “إذا كان الله يرى الظلم، لماذا لا يتدخل؟ لماذا يترك الأبرياء يعانون؟” وهنا ما يجب أن أشرح له:
أولًا: الله- سبحانه وتعالى- منح الإنسان حرية الإرادة، فالإنسان مُخيرٌ بين الخير والشر، وبين العدل والظلم، قال- عز وجل-: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 10]. وخلق هذه الحياة الدنيا ليختبر تلك الإرادة، قال- جل وعلا-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]، فمثلا الظلم اختبار للظالم ليتوقف عن ظلمه واختبار للمظلوم ليصبر ويثبت على الحق ويدافع عنه وكذا اختبار لمن شاهد هذا الظلم هل سيصمت أم يتحرك لإزالته.
روى الطبري عن ابن جريج في قوله تعالى (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [البقرة: 218، 219]، ﻗﺎل: أﻣﺎاﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﺘﻌﻠﻤﻮن أنها دار ﺑﻼء ﺛﻢ ﻓﻨﺎء، واﻵﺧﺮة دار ﺟﺰاء ﺛﻢ ﺑﻘﺎء، ﻓﺘﺘﻔﻜﺮون ﻓﺘﻌﻤﻠﻮن للباقية ﻣﻨﻬا”. فالله بيّن للإنسان طريق الخير وطريق الشر، وترك له حرية الاختيار. لكن مع هذه الحرية، تأتي المسؤولية، وهذه المسؤولية تشمل اختيار الإنسان لأفعاله، سواء كانت أفعالًا عادلة أو ظالمة.
ثانياً: الله عندما خلق الدنيا وضع لها سننًا وأسبابًا تجري وفقها يستوي في ذلك المؤمن وغير المؤمن: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [ فاطر: 43] فمن أراد النجاح في هذا الابتلاء عليه أن يبذل وسعه في تحصيل الأسباب. فإذا لم يحصل النصر أو تأخر، علينا أن نراجع تقصيرنا وأن نتهم أنفسنا لا أن نتهم الله- عز وجل-، قال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل العمران: 165].
لماذا لا يقتص الله من الظالمين؟
وإذا كان الله يرى كل شيء، ويترك الإنسان ليتحمل مسؤولية أفعاله، فلماذا لا يقتص الله من الظالمين في الدنيا؟، هذه أسئلة تقودنا إلى فهم عميق آخر وهو أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار وليست دار الجزاء النهائي، وأن الله يختبر الناس في الدنيا ليقيّم إيمانهم وصبرهم وتحملهم، ﻗﺎل الفضيل- رحمه الله-: “الناس ما داموا في العافية مستورون، فإذا نزل البلاء صاروا إلى ﺣﻘﺎﺋﻘﻬﻢ؛ ﻓﺼﺎر اﻟﻤﺆﻣﻦ إﻟﻰ إﻳﻤﺎﻧﻪ، وﺻﺎر اﻟﻤﻨﺎﻓﻖ إﻟﻰ ﻧﻔﺎﻗﻪ”، ويقول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
هذه الآية توضح أن البلاء جزء من الحياة الدنيا، وأن الله يبتلي المؤمنين ليختبر صبرهم وإيمانهم، وليظهر مدى استعدادهم لتحمل المشاق من أجل الحق، وأن الدنيا ليست المكان الذي يتحقق فيه العدل المطلق.. العدل الكامل يتحقق في الآخرة، حيث يحاسب الله كل إنسان على أفعاله، وقد يبدو لنا في الدنيا أن الظالمين يفلتون من العقاب، لكن في الحقيقة، الله وعد بأن العدل سيتحقق يوم القيامة، قال سبحانه: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
لماذا يعاني الأبرياء ويعيش الظالمون في رفاهية؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن ندرك إحدى حقائق البلاء، وهي أن الله- عز وجل- يبتلي الإنسان بالخير والشر، قال- عز وجل-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الانبياء: ٣٥]، فالنعيم الحقيقي والشقاء الحقيقي يكون في الآخرة.
لذلك قد يختلط الأمر على بعض ضعاف الإيمان فيظنون أن الله ليس بعادل أو يربطوا حب الله بحصول النعيم والعكس بالعكس، وقد نبهنا القرآن لذلك الصنف فقال تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر: 15، 16].
فالظالم إذا كان في عافية لا يعني أنه على الحق، بل قد يكون استدراجًا من الله ليزداد إثمًا، والمؤمن إذا نزلت به المصائب قد يكون ذلك رفعة في مقامه عند الله- عز وجل-، روى أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ” (اﻟﺘﺮﻣﺬي).
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ” (مسلم).
هل انتصر أهل غزة مع كل هذه الدماء وهذا الدمار؟
ولا بد أن نغرس في أبنائنا التصور الصحيح للنصر، فكما يقول الشهيد سيد قطب في المعالم: “إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار العقيدة على المادة، وانتصار الإيمان على الفتنة، إن الناس جميعا يموتون وتختلف الأسباب ولكن الناس جميعا لا ينتصرون هذا الانتصار ولا يتحررون هذا التحرر”، فأهل غزة انتصروا بثباتهم في وجه آلة البغي الصهيونية رغم الدماء ورغم الحصار.
وليس هذا انتصارًا على مستوى الروح فحسب بل انتصروا على مستوى المادة، فمن كان يتخيل أن الذي بدأ بالحجارة والسكين وصل إلى هذا التقدم العسكري وتشهد على ذلك آليات الاحتلال التي تنفجر تحت قذائفهم، ودماء الجنود تحت أزيز رصاصهم، وصرخات الهلع تحت سماء صواريخهم. فهم شرف الأمة ورأس حربتها.
إن ما يحدث في غزة هو جزء من سلسلة الابتلاءات التي يمر بها المؤمنون عبر العصور، ويجب أن نتذكر دائمًا قول الله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42]. إن الله سبحانه يرى ويعلم كل ما يجري، ويختبر إيمان عباده وصبرهم على الشدائد. وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ” (البخاري).
لذا، فإن أهل غزة مأجورون على صبرهم وثباتهم، والظالمون لن يفلتوا من عدالة الله مهما طال الأمد، أما واجبنا العملي تجاه أهل غزة فهو يتجاوز الشعور بالحزن والتعاطف، إذ علينا أن نتحرك بفعل حقيقي، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ” (مسلم)، ويقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، فالتعاون من أجل نصرة الحق هو واجب شرعي.
ويُمكننا دعم أهل غزة بالدعاء الصادق في كل صلاة، والتبرع للمؤسسات التي تقدم لهم العون، ونشر الوعي حول قضيتهم في كل المنابر الممكنة، ودعمهم بالغالي والنفيس، كما يجب أن نعلم أبناءنا حقيقة ما يجري في غزة وأن نغرس فيهم روح التضامن مع المظلومين، ليتربّوا على قيم العدل والشجاعة في قول الحق. وكما قال الشاعر:
لا تَحسبِ المجدَ تمراً أنتَ آكلهُ * لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصَّبَرا
إن النصر الحقيقي هو نصر العقيدة والإيمان، وإن غزة بصمودها تثبت لنا أن الكفاح والتمسك بالحق هو السبيل لتحقيق العزة، وأن الظلم مهما طال فإن له نهاية، والله وحده القادر على نصر عباده.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم.
- تفسير الطبري.
- رياض الصالحين.
- معالم في الطريق.
- لمن يسأل: أين الله؟ ولماذا لا ينتقم لغزة؟
إضافة تعليق