أ.د. محمد أمحزون
المترفون هم الرؤساء والعظماء، والجبارون المستكبرون، والملوك الظالمون، والأغنياء، الذين أبطرتهم جميعاً النعمة وسعة العيش.
وهؤلاء هم الملأ والنخبة وقمة المجتمع. وانحدارهم إلى هاوية الفساد والظلم والرذيلة والفاحشة، ومقاومة الإصلاح والعدل، والنظر باشمئزاز وغرابة إلى الفضائل الخُلُقية والاستهتار بالقيم، ينذر بتفتت القمة الاجتماعية في الأمم والشعوب. وفسادُ القمةِ نذيرٌ صارخٌ لإفساد المجتمع، وهذا الإفساد إذا وقع لا يخص مجالاً أو فئة، وإنما ينصبُّ عامّاً وشاملاً ومغرقاً في الآثام والشرور.
والترف عامل من أقوى وأسرع وأخبث عوامل التفتت الاجتماعي؛ لأن الانغماس في مرتع الشهوات وإشباع الغرائز الجامحة يميت الشعور بالنخوة، ويقتل الإحساس بالعزة والغيرة، ويجعـل الرذائل من مألـوفات الحيـاة في المجتمع الذي يقوده المترفون؛ إذ يجعل هؤلاء الرذائل ميـداناً للتنافس الفاجر، فلا يهتم المجتمع برفع رأسه إنكاراً لها، بل يجد المجتمع في كبرائه المترفين من ينكر على من ينكر هذه الرذائل، وتصبح الفضائل الخلقية والقيم الروحية غـرائب في نظر هذا المجتمع المنحل المتحلل، وعندئذٍ تحق عليهم كلمة الله وسنته، وتحل بهم عوامل الفناء[1]. ذلك أن إرادة الله تعالى قد جعلت للحياة البشرية سنناً أو نواميس لا تتخلف ولا تتبدل؛ فحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله عز وجل وتحق كلمته[2].
على أن وجود المترفين في أي أمة هو دليل في ذاته على أن بناءها قد تخلخل، وأنه غابت فيها موازين العدل والقسط، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله تعالى من جراء ذلك سيصيبها جزاءً وفاقاً. فهي التي تعرضت لسخطه وغضبه سبحانه وتعالى بسماحها للمترفين بالوجود والفساد والاستهتار بالقيم، وإشاعة الفاحشة، ونشر الظلم بشتى صوره. ومن ثَمَّ تتحلل عناصرها، وتفقد حيويتها وعناصر قوَّتها وأسبابَ بقائها، فتهلك وتُدمَّر وتطوى صفحتها؛ إما بعذاب الاستئصال وإما بالانحلال والتفكك الذاتي.
لقد وقف ابن خلدون في مقدمته طـويلاً عند ظاهرة الترف، متأثراً بالنظرة القرآنية العميقة عن هذه الظاهرة، فضلاً عن دراساته ومشاهداته للدول والأمم التي قرأ عنها أو عاصرها؛ حيث اعتبر الترف حتمية ترتبط بعملية العمران؛ بانتقال الجماعات البشرية من الفقر والبداوة والتنقل في الصحراء أو الجبال إلى الغنى والعمران والاستقرار في الأمصار. وعالج الظاهرة من شقيها الأخلاقي والاقتصادي؛ فبيَّن في الأولى ما يؤول إليه الترف من تحلُّل في الأخلاق وركود في الهمة ينعكسان بالضرورة على مسيرة العمران، ويأذنان بتـوقف تدفقهـا الإبداعـي، ومن ثَمَّ انحـلالها ودمارها. وبيَّن في الثانية ما يعنيه طغيان الترف في مجتمع ما من اختلال في التـوازن بين الإنتـاج والاستهلاك، ومن تضخم للنزعة الاستهلاكية على حساب التنمية والعطاء، الأمر الذي ينعكس سلباً على التطور العمراني العام[3].
فمن أهم أسباب انحلال الأمم ودمارها الانغماس في الترف؛ إذ حين تعظم الثروة في أمَّة مَّا، يميل أهل الثروة فيها إلى التمتع بوجوه تلك الثروة، وبما تيسره لهم من وجوه النعيم. وهذا ما يدعو إلى انصراف الملأ المنعمين عن الأعمال المنتجة والضرورية في العمران؛ كالزراعة والصناعة ومزاولة التجارة، لأنهـا تتطلب جهداً بدنياً وعقلياً وحرماناً من شهوات النفس، فيميل هؤلاء إلى اللهو وإلى الأعمال السهلة التي تجعل الحياة رخوة مسترخية، فيقل الإنتاج والعطاء[4].
والأمة بعد أن تبلغ هذه الدرجة من الحضارة والرفاهية والقوة؛ حيث تطمئن إلى أنها لا تكون عرضة لهجوم جيرانها، تبدأ بالتمتع بنِعَم السلم والترف التي يمنُّ الثراء بها عليها، فتـذبل فيها المـزايا الحـربية، وتوجب زيادة الحضارة والتنعـم حدوث احتيـاجات جديدة، فتنمـو الأثرة بين أبناء الوطن؛ إذ لا يبقي ذلك من مثال على غير التمتع السريع بالأموال التي تحصل على عجل، فلا يلبثون أن يفقدوا جميع الصفات التي كانت سبب عظمتهم[5].
وما أن يبدأ الضعف العام يسري في الأمة ويتسرب إلى أجهزة دولتها، حتى تنحل عراها، وتتأسن مؤسساتها، وتفقد قدرتها على صنع أسباب العمران، فتضمحل الدولة وتهلك، وينقرض أهلها النافذون فيها، وتزول هي بانقراضهم، فتخلفها دولة أخرى، أو تذوب الأمة المتفرقة الضعيفة في غيرها من الأمم القوية حين تفقد مقومات وجودها واستمرارها، أو يُغِير على الأمة الكثيرة التمدن جيرانٌ ذوو إمكانات ضعيفة إلى الغـاية، لكن مع مثل عالٍ أو قوي جداً، ثم يقيم هؤلاء حضارة جديدة على أنقاض الحضارة التي قلبوها رأساً على عقب[6].
وعلى الصورة الأخيرة هدم البـرابرة الجرمان إمبراطـورية الرومان، وهدم المسلمون إمبراطورية الفرس، مع ما كان لدى تلكما الدولتين العظيمتين من تنظيم هائل[7].
هذا، ومن نتائج الترف الوخيمة: ظلم أفراد الأمة بعضهم بعضاً؛ ذلك الظلم الذي قد يجلب على الأمة عذاب البغتة وهم عنه غافلون، لا يستطيعون دفعه، ولا يقدرون على التخلص من نتائجه، كما حدث للقرون والأمم الخالية:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِـمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ 11 فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ 12 لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ 13 قَالُوا يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِـمِينَ 14 فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 - 15].
والربط ها هنا بين الترف والظلم مرجعه أنه في أثناء الحياة المترفة يسوء السلوك الاجتماعي في الحكام والمحكومين على السواء، ثم يكثر الفساد بكثرة الترف، ويبدأ الظلم في الملأ (أكابر الناس وزعمائهم) المترفين: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]؛ إذ يشعرون بجاههم وغناهم وسلطانهم، فيسعون إلى السيطرة على من يرونهم دونهم، ثم يحاول هؤلاء بدورهم أن يستبدوا بمن تحتهم. ويستمر هذا الظلم من فئة اجتماعية إلى أخرى حتى يعمَّ الظلم في الأمة كلها، فيأتيها الدمار والعذاب.
على أن من يتبع أخبار الأمم والمجتمعات الإنسانية في القرآن الكريم، يجد الحكام والأغنياء والكبراء المترفين هم الذين يواجهـون الدعـاة إلى الله ويؤذونهم ويضطهدونهم، وأن سنة الله في هؤلاء أنهم أبعد الناس عن الإذعان لدعوة الرسل عليهم السلام وأتباعهم، وهم سبب كل خزي وعذاب، وجَلْب كلِّ ويل ووبال على مجتمعاتهم وأقوامهم؛ إذ هم المفسدون المخربون في الطليعة والرائدون لكل زيغ وانحراف. وفيهم قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]، وقال جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام: 123].
فمن عادة المترفين - لِـمَا يفعله فيهم الترف من بطر النعمة وانغماس في الملذات والشهوات والمحرمات - أنهم يسارعون قبل غيرهم إلى تكذيب الرسل الكرام وردِّ الحق الذي جاؤوا به، استدلالاً باطلاً بما هم عليه من كثرة المال والأولاد وسعة الجاه والسلطان وكثرة الأتباع: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35].
وهذه علاقة قائمة بين مقام النبوة والدعوة وبين موقع المترفين المسرفين على مرِّ التـاريخ إلى أن يرث الله جل ثنـاؤه الأرض ومَن عليها. وهذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ، وإلا لما تكررت بهذا الشكل المطرد: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
هناك إذاً علاقة تضـاد بين الأنبياء والمترفين؛ أي: علاقة تدافع وصراع بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية، والموقع الاجتماعي للمترفين المفسدين. وهذه العلاقة ترتبط أساساً بدور النبوة الإصلاحي في تغيير المجتمع، ودور المترفين التخريبي في إفساد المجتمع.
وعلى العموم، فإن الترف ظاهرة اجتماعية خطيرة على سلامة الأمم والمجتمعات الإنسانية؛ إذ من عواقبه: الجمود على فكر الآباء، والتكذيب بالآخرة، وتبلد الحس بكثرة المعاصي والآثام، والتعالي على دعوات الإصلاح، ورفض كل دعوة للتغيير، خوفاً من المترفين على ما في أيديهم من سلطان ومال وجاه.
على أن أسوأ ما في الحضارة المترفة هو تزييف الواقع وقلب الحقائق؛ إذ لا تقتصر على التغاضي عن المساوئ والمفاسد، بل تسوِّغُها وتشجعها، وتجعل منها قاعدة من قواعد الحياة بعد أن تطلق عليها أسماء جديدة براقة[8].
ومن ثَمَّ فإن الترف ممارسة مدمرة للمجتمع كله الذي يسكت عنها ويغض الطرف عنها، أو يغلو في انهزاميته فيتملق ويداهن المترفين أنفسهم، الذين يعمي الثراء الفاحش بصائرهم، ويطمس قلوبهم، ويسحق كل إحساس أصيل في نفوسهم[9].
ولذلك فإن القرآن الكريم لا يكتفي بعرض الظاهرة من جـانب واحـد، ويبين ما في تجربة الترف من قبح وكفر وإنكار، وما سيؤول إليه أصحابها من مصير يوازي بشاعة ممارستهم تلك، بل يندد بالأمة التي لا تتحرك لوقف الجـريمة عند حدها، وبالأكثرية التي تنظر إلى قلة من طغاتها تمارس المنكر، وتقودهم صوب حتفهم بسبب ما تمارس بين ظهرانيهم من فساد ومنكرات، فلا يجتمعون لإصلاح الأوضاع ومجابهة المفسدين: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116][10].
[1] محمد صادق عرجون: سنن الله في المجتمع، ص 38، 39.
[2] سيد قطب: في ظلال القرآن، 4/2217، 2218.
[3] ابن خلدون: المقدمة، ص 167، 169. ومصلح عبد الحي النجار: مآلات الحضارة، مجلة البيان، عدد 183، ص 122، 123.
[4] عمر فروخ: الإسلام والتاريخ، ص 166، 167.
[5] غوستاف لوبون: السنن النفسية لتطور الأمم، ص 172.
[6] المرجع السابق، ص 173.
[7] المرجع السابق، ص 173.
[8] نعمان السامرائي: في التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 134، 136.
[9] عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي للتاريخ، ص 272.
[10] المرجع السابق، ص 116، 117.
إضافة تعليق