محمد الحفظاوي
إن ما سنذكره -هنا- من المبادئ والقِيَم التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء الشخصية الإنسانية في جانب التعبير، ما يُبرز الدور التربوي للسيرة النبوية في تربية النشء، وتربية الناس كافة؛ فقد بذل النبي -عليه الصلاة والسلام- جهودًا كبيرة لتزكية الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بما خلَّفه من إرث نبوي زكي، من أهم معالمه ما يلي:
ففي مقصد ذِكْر الله: كان صلى الله عليه وسلم ، يوجّه الصحابة الكرام إلى ذِكْر الله تعالى.
وفي مقصد البيان: كان من جهوده صلى الله عليه وسلم في تعليم البيان والتحفيز على الكلام؛ الحوار والسؤال، كما في أحاديث كثيرة، مثل حديث سؤاله أصحابه عن المفلس، والحديث عن الشجرة التي لا يسقط ورقها والتي تشبه المؤمن.
وفي مقصد تدبُّر الكلام قبل النطق به: كان يُوصي الصحابة بحفظ اللسان.
وفي تعليمه صلى الله عليه وسلم بالتدريج، وجوابه بحسب حال السائل: كان يتدرج بالمتعلم والمدعو إلى الإسلام، وكان يراعي في ذلك الفروق الفردية بين السائلين، كأجوبته المختلفة عن السؤال الواحد.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم الفكرة، طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، ويتكلم بجوامع الكلم، كلامه فَصْل. كما أُوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكمة البالغة، ووُهِبَ العلوم العالية، ورُزِقَ حفظ الوحي وتلاوته وتعليمه، وتزكية الأصحاب به؛ وذلك سيرًا على هدى القرآن: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36]؛ فقد نهاه ربه -سبحانه- عن القول بلا عِلْم، وبيَّن له مسؤولية الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده. وفي نفس المعنى يقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53].
ونقتبس من هديه صلى الله عليه وسلم ضوابط للكلام، تحكم اللسان وتضبطه عن الوقوع في كثير من الآفات، إن اعتُبرت في تكوين الشخصية، وهي كالآتي:
ذِكْر الله -عز وجل- على الدوام:
من مقومات الشخصية السوية كما نستلهمها من شخصية النبي صلى الله عليه وسلم : الصلة الدائمة بالله. ومن دلائل ذلك: هديه صلى الله عليه وسلم في ذِكْر الله؛ تطبيقًا لقول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا 41 وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 42 هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْـمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 41 - 42].
فقد «كان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس ذِكْرًا لله -عز وجل-، بل كان كلامه كلّه في ذِكْر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذِكْرًا منه لله، وإخباره عن أسماء الرب وصفاته، وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذِكْرٌ منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه وتحميده؛ ذِكْرٌ منه له، وسؤاله ودعاؤه إيَّاه، ورغبته ورهبته؛ ذِكْرٌ منه له، وسكوته ذِكْرٌ منه له بقلبه، فكان ذاكرًا لله في كل أحيانه، وكان ذِكْره لله يجري مع أنفاسه قائمًا وقاعدًا، وعلى جنبه، وفي مَشْيه وركوبه وسيره ونزوله، وظعنه وإقامته»[1].
وكان يُرغِّب الصحابة -رضي الله عنهم- في ذِكْر الله بشتَّى الأساليب؛ فعن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه-: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به. قال: «لا يزال لسانك رطبًا من ذِكْر الله»[2]. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله حَدِّثني بأمر أعتصم به، قال: قل ربي الله ثم استقم، قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليَّ، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: هذا»[3].
ومِن صُوَر هديه بضرب الأمثال: قوله صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ والذي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ»[4]؛ ذلك أن ذِكْر الله حياةٌ، وهَجْر ذِكره مواتٌ. إن الحديث النبوي الشريف يذكر الحياة هنا بمعناها الحضاري بوصفها إعمارًا للأرض بالصلاح والخيرات، فالذاكر معمر للأرض يدفعه ذِكْر الله للعمل بمقتضى الهدي الإلهي. أما الهاجر لذِكْر الله؛ فموته موت لجانب الإعمار في الأرض، وغياب للنفع في مقابل الشر والخراب، وانظر في الميتة، وما تخلفه من ضرر وإضرار للبيئة نتيجة تعفُّنها، والذين لا يذكرون الله يملؤون الأرض خرابًا وتلويثًا للبيئة بأفكارهم المخالفة لقِيَم الدين والحضارة.
اللسان آلة البيان:
قال الله تعالى: {خَلَقَ الإنسَانَ 3 عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ٣، ٤]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ من البيان لسحرًا»[5]؛ فالبيان والإفصاح عما في النفس بعبارات واضحة، تفهمها العقول وتسرّ القلوب؛ محمود ومرغوب، ولذلك كان كلامه -عليه الصلاة والسلام- بيانًا واضحًا يَعيه السامع فيحفظه؛ فعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْرد كَسَرْدكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بيِّن فَصْل، يحفظه مَن جلس إليه»[6].
وكان من عمله في تعليم البيان: التحفيز على الكلام بالحوار والسؤال؛ كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ. فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النّارِ»[7]. فاللسان آلة البيان للشخصية الإنسانية، وعنوان الفصاحة، فلا بد من استعماله على أكمل وجه وأتمه.
حفظ اللسان من الوقوع في الزلل:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بقول الخير والتحفُّظ في الكلام؛ عملاً بالهدى القرآني في ذلك، مثل قول الله -سبحانه-: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53]. وعن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يَكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه»[8]. قال ابن العربي في شرح الحديث: «المعنى في هذا الحديث: أن الكلمة قد تكون مما يُسْخِط الله ومما يُرضيه، ومنها المقولة عند السلطان الجائر، فيتكلم الرجل عنده بالخير للمسلمين وما فيه نَفْع لهم؛ فيُرضي الله، أو يتكلم بالشر والباطل مما يعينه على جَوْره وظلمه؛ فيسخط الله. فإذا كانت الكلمة اليسيرة تُدْخِل صاحبها النار، فمن الحق أن يمسك الإنسان لسانه ولا يتكلم إلا بما فيه رضى مولاه»[9].
ومن ذلك حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-؛ حيث قال: «قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أَمْسِكْ عليك لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ على خَطيئَتِكَ»[10].
لذلك حدَّد البيان النبوي الأسلوب الحسن في الكلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُؤْذِ جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»[11]. إنها الإيجابية التي يتعدَّى نفعها المسلم إلى الآخرين، تهدي إليها السُّنة بما هي تطبيق حيّ للهدى القرآني.
تدبُّر الكلام قبل النطق به:
وذلك بالنظر في مآله وعاقبته قبل التلفُّظ به، ومما يدل على ذلك في القرآن: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 108]؛ قال الشاطبي شارحًا هذا المعنى: «فإنهم قالوا: لَتَكُفَّنَّ عن سبّ آلهتنا، أو لَنَسُبَّنَّ إلهك! فنزلت... ونهى الله -تعالى- المؤمنين أن يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم : «رَاعِنا» مع قصدهم الحسن؛ لاتخاذ اليهود لها ذريعةً إلى شتمه -عليه الصلاة والسلام-. وذلك كثير كله مبنيّ على حكم أصله، وقد ألبس حكم ما هو ذريعة إليه»[12].
ومما يدل على هذا الخُلق في السُّنة النبويَّة؛ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من الكبائر شتم الرجل والديه»، قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم؛ يسبّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسب أمه»[13]، «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابًّا لاعنًا لأبويه، بتسبُّبه إلى ذلك وتوسُّله إليه وإن لم يقصده»[14].
ومن مثل هذه المواقف والنصوص استنبط العلماء واستمدوا -بطريق الاستقراء- أصولاً شرعية عامة؛ مثل سد الذريعة واعتبار المآل؛ قال الشاطبي في هذا المعنى -بشأن المجتهد-: «فتنبّه لهذا المعنى، وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذِكْرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية»[15]. فانظر كيف قيَّد الكلام بتدبُّره، والنظر في عواقبه قبل النطق به! وهذا عامّ في شأن كل مسلم، ومُعتَبر في شخصية المجتهد بالخصوص.
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالتدريج، وجوابه بحسب حال السائل (ربانية التعليم والتربية):
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ مرات كثيرة عن أفضل الأعمال؛ فأجاب إجابات متنوعة، تختلف باختلاف أحوال الأشخاص وحاجاتهم. إذ المقصود هنا تحقيق مراد الله -تعالى- في واقع الناس بتعبيدهم لله -تعالى-، وبيان حكم الله في شؤونهم بما يُفْضِي إلى هدايتهم إلى التي هي أقوم وأحسن. وهذا من خصائص الشخصية الناجحة؛ التي تتصف بالحكمة وتتصرف بمقتضى الربانية؛ إذ الرباني كما عرفه ابن عباس -رضي الله عنهما- هو: «الذي يُربّي بصغار العلم قبل كباره»[16]. فيكون كلامه صوابًا، وجوابه سديدًا؛ عملاً بموجب قوله -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [الأحزاب: 70]، ومن الأمثلة التطبيقية للهدى القرآني في هذا المعنى؛ الأحاديث الآتية:
عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: «مَن سلم المسلمون من لسانه ويده»[17]. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف»[18]. فالسؤال واحد والجوابان مختلفان؛ لاختلاف أحوال السائلين، ومراعاةً لظروفهما.
ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أَمْسِكْ عليك لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وابْكِ على خَطيئَتِكَ»[19]. وورد في باب الإمارة والسياسة الشرعية، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: «فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة. إلا مَن أخذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها»[20].
قال الشوكاني -استنباطًا من الحديث-: فيه «إرشاد للعباد إلى ترك تحمُّل أعباء الإمارة مع الضعف عن القيام بحقها، من أي جهة من الجهات التي يصدق على صاحبها أنه ضعيف فيها»[21]. وقد ذكـر الشاطبي أشباه هذه الأمثلـة سيـرًا على منهجه الاستقرائي؛ للتدليل على صحة الاجتهاد في تحقيق المناط، وقال: «فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِـلَ في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمـال، وخير الأعمـال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال، فأجاب بأجوبة مختلفة، كلّ واحد منها لو حُمِلَ على إطلاقه أو عمومه، لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيـل... جميعها يدلّ على أن التفضيـل ليس بمطلـق، ويُشْعِر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت، أو إلى حال السائل. وقد دعا -عليه السلام- لأَنَس بكثرة المال فبُورِكَ له فيه، ورُوِيَ أنه قال لأحدهم حين سأله الدعاء له بكثرة المال: «قليلٌ تُؤدِّي شُكْره خيرٌ من كثير لا تُطيقه»، وقال لأبي ذر: «يا أبا ذَرٍّ، إنِّي أراكَ ضَعِيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يَتِيمٍ»[22].
ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم: «إنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ على مَنابِرَ مِن نُورٍ، عن يَمِينِ الرَّحْمَنِ عزَّ وجلَّ -وكِلْتا يَدَيْهِ يَمِينٌ- الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأَهْلِيهِمْ وما وَلُوا»[23]، وقال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»[24]، ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصًا في ذلك من الصلاح ... وقال عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «حَدِّثُوا الناسَ بما يفهمون؛ أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله»، فجعل إلقاء العلم مقيَّدًا، فرُبَّ مسألةٍ تصلح لقوم دون قوم»[25].
ومن منهجه في التعليم والتربية: مراعاة التدرج، وتقديم الأهم فالمهم للمتلقي، ليكون أيسر تناولاً وأحسن فهمًا؛ ومن ذلك حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا -رضي الله عنه- إلى اليمن، قال: «إنَّكَ تَقْدَمُ على قَوْمٍ أهْلِ كِتابٍ؛ فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبادَةُ اللَّهِ، فَإِذا عَرَفُوا اللَّهَ، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ قدْ فَرَضَ عليهم خَمْسَ صَلَواتٍ في يَومِهِمْ ولَيْلَتِهِمْ، فَإِذا فَعَلُوا، فأخْبِرْهُمْ أنَّ اللَّهَ فَرَضَ عليهم زَكاةً مِن أمْوالِهِمْ وتُرَدُّ على فُقَرائِهِمْ، فَإِذا أطاعُوا بها، فَخُذْ منهمْ وتَوَقَّ كَرائِمَ أمْوالِ النّاسِ»[26]. وهذا الأسلوب في ترتيب الكلام، ومراعاة الأولويات، هو شأن العالم الرباني، وقد تقدم قول ابن عباس -رضي الله عنهما- في الرباني: «إنه الذي يُعلّم بصغار العلم قبل كِبَاره»... وروي عن الحارث بن يعقوب قال: «الفقيه كل الفقيه مَن فقه في القرآن وعرف مكيدة الشيطان»[27].
[1] مختصر زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية (691- 571هـ)، اختصره الإمام محمد بن عبد الوهاب: (1115- 1206هـ)، ص:94.
[2] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر، حديث رقم: 3375.
[3] أخرجه النسائي في سننه، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، حديث رقم: 2410، وقال محققه: حديث حسن صحيح.
[4] أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث رقم: 6407.
[5] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الكلام، باب ما يُكره من الكلام بغير ذِكْر الله. حديث رقم: 825.
[6] مختصر الشمائل المحمدية لمحمد ناصر الدين الألباني، باب كيف كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث رقم 191. ص: 119.
[7] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، وباب تحريم الظلم، حديث رقم: 2581.
[8] أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الكلام باب ما يُؤمر به من التحفظ في الكلام، حديث رقم: 823.
[9] المسالك في شرح موطأ مالك، للقاضي أبي بكر بن عبد الله بن العربي المعافري، المتوفى سنة 543هـ، المجلد7، الصفحة: 574، 575.
[10] أخرجه النسائي في سننه، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، حديث رقم: 2406.
[11] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، حديث رقم: 6475.
[12] الموافقات: 2/267.
[13] رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، حديث رقم (90).-
[14] إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 3/105. -
[15] إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية: 4/116.-
[16] صحيح البخاري، من ترجمة باب العلم قبل القول والعمل.
[17] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب أي الإسلام أفضل؟ الحديث رقم11.
[18] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب إطعام الطعام من الإسلام، حديث رقم: 12.-
[19] أخرجه النسائي في سننه، كتاب الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، حديث رقم: 2406. وقال محققه: حديث حسن.
[20] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة. حديث رقم: 1825.
[21] نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، المتوفى سنة 1255هـ: 9/157.
[22] رواه مسلم، في كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، حديث رقم: 1826.-
[23] رواه مسلم، في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم. حديث رقم (1827)، والنسائي في كتاب آداب القضاء، فضل الحاكم العادل في حكمه، حديث رقم (5389).
[24] رواه البخاري، في كتاب الطلاق، باب اللعان، حديث رقم: 5304. ورواه مالك في الموطأ، كتاب الشعر، باب السنة في الشعر، حديث رقم: 1768.
[25] الموافقات: 4/58.-
[26] اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم: 11.
[27] الموافقات: 4/58.
إضافة تعليق