تشمل الآية الكريمة “رب أرني كيف تحيي الموتى” على حوار تعليمي بين الخالق- سبحانه وتعالى- وخليله إبراهيم- عليه السلام- الذي طلب فيه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فهو حوار يكشف عن ملامح المنهج الرباني في التعليم وأدب المتعلم في التلقي والسؤال وحكمة المُعلم في الجواب والبرهان.
ويُبيّن هذا الحوار الذي دار بين الله- جل وعلا- وبين نبيه إبراهيم عليه- السلام- أنّ القرآن الكريم هو أعظم نهر ينهل منه المربون والمعلمون الدروس والعبر والمناهج والوسائل ليسلكوا ضرب الله تعالى وأنبيائه- عليهم الصلاة والسلام- في البلاغة و التربية وغرس المعاني والقيم.
حوار تعليمي في آية (رب أرني كيف تحيي الموتى)
- يوضح قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة البقرة:260]، أن إبراهيم- عليه السلام- وهو المتعلم، جاء باحثًا عن إجابة سؤال دار في ذهنه وجال في خاطره والله- سبحانه وتعالى- هو المعلم الذي سيتكفل سبحانه بالجواب عن هذا السؤال.
- وقد كان الحوار هو الوسيلة التعليمية المقررة للإجابة عن سؤال “كيف يحيي الله الموتى؟” وبذلك تمت أركان الموقف التعليمي من المعلم والمتعلم والمنهج أو المحتوى والوسيلة التعليمية التي من خلالها يسعى المعلم إلى تحقيق هدفه.
- ومَن تدبّر الموقف التعليمي الذي دار بين الله- سبحانه وتعالى- وخليل الرحمن إبراهيم- عليه السلام- وبالتركيز على ما جرى من المتعلم يمكنه استخلاص مجموعة من الدروس المهمة في العملية التعليمية، ويمكن الإشارة إليها في النقاط التالية:
- دافعية وجرأة المتعلم: بدأ الموقف التعليمي بسؤال من سيدنا إبراهيم- عليه السلام- لربِّه: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)؟، فهو الذي بادَر بطلب التعلُّم، مما يَنِمُّ عن رغبته في التعلم، ودافعيَّته لطلب العلم، كما يَنِمُّ عن الجرأة في الطلب، وعدم الخوف من أن يسأل ربه، ورغم أن موضوع السؤال من أجل مواضيع العقيدة الإسلامية ومجرد السؤال عنها يُوهم بعدم كمال الإيمان، ولكن إبراهيم- عليه السلام- يعي أن الخواطر والعوارض الشيطانية تعرض على كل البشر مهما علت منازلهم وأن دواء تلك العوارض في السؤال بشجاعة وعدم الخوف.
- التأدب والعاطفة في سؤال المتعلم: كان طلب إبراهيم- عليه السلام- بأسلوب فيه تأدُّب مع ربِّه- سبحانه وتعالى بقوله: (رَبِّ)، كما أن فيه عاطفة الحب والود في هذا الخطاب؛ أي أن هناك جوًّا من الحرية والمحبة والدفء العاطفي، الذي يسود الجو التعليمي، والذي هيَّأه الله لسيدنا إبراهيم- عليه السلام- ونقل هذا الأدب عن كثير من السلف الصالح.
- مشاركة المتعلم في موضوع العملية التعليمية: حدَّد سيدنا إبراهيم- عليه السلام- موضوع التعلُّم الذي يريده بنفسه، ولم يُفرض عليه، وهو (رؤية كيفية إحياء الله الموتى)، وذلك لأن فرعون هذا الزمان وهو النّمرود، كان يدعي أنه يُحيي ويُميت، ونشر هذا الادعاء في أرجاء أهل البلاد، وكان هذا الموضوع محل اهتمام الجميع؛ حيث يمس العقيدة، وكان إبراهيم- عليه السلام- رسول الأمة الذي يهتم بتصحيح العقيدة.
- مشاركة المتعلم في تحديد كيفية التعلم: ولذلك جاء السؤال بطلب رؤية كيفية إحياء الله الموتى، لذا يتَّضح وظيفية موضوع التعلم لكل من المتعلم إبراهيم- عليه السلام- ولمجتمعه.
موقف المعلم في حوار (رب أرني كيف تحيي الموتى)
ومن تدبر هذا الموقف التعليمي بين الله- سبحانه وتعالى- كمعلم وخليله إبراهيم- عليه السلام- كمتعلم مع التركيز على سلوك المعلم- سبحانه وتعالى- يمكنه استخلاص العديد من الدروس التربوية منها:
- تحديد مستوى المتعلم وتشويقه للتعلم قبل بدء الموقف التعليمي: حيث استجاب الله- سبحانه وتعالى- لسؤال سيدنا إبراهيم- عليه السلام- وهو (رب أرني كيف تحيي الموتى) ولم يعطه الله الإجابة فورًا، بل سأله: (أَوَلَمْ تُؤْمِن)؟ [البقرة: 260]، وهو سؤال ليس استنكاريا، بل هو من المنظور التربوي يُثير في المتعلم التشوُّق أكثر والتحمُّس لتلقِّي الإجابة، ويعمل على تحديد مستوى التعلم الذي عند المتعلم (مستوى علم اليقين)، وهذا ما أوضحته إجابة سيدنا إبراهيم- عليه السلام- بقوله: (بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة: 260]، وفي ذلك دَلالة على رغبته في الوصول إلى مستوى أعلى من التعلُّم، وهو مستوى عين اليقين، وهذا واضح من سؤال سيدنا إبراهيم في قوله في بداية الموقف التعليمي: أرِني.
- الحكمة في تقدير الزمن المطلوب في أداء المتعلم المهام: وفي هذا الموقف التعليمي يمكن ملاحظة حكمة المعلم في تقدير الأزمنة المطلوبة لأداء المتعلم المهام سواء بالعجلة في الاستجابة أو التأني فيها، ومن ذلك استخدام حرف الفاء في الفعلين: فَخُذْ، وفصُرهنَّ، يفيد سرعة تلبية المعلم للمتعلم في الاستجابة له. أما استخدام (ثم) قبل الفعلين: اجعل، وادعهنَّ، يفيد تمهُّل المعلم على المتعلم في أداء الأفعال، خاصة وأنه سيصعد على الجبال ثم ينزل من عليه، وفي هذا رأفة ورحمة من المعلم بالمتعلم، رغم وجود الدافعية الذاتية لدى المتعلم، وزيادة تشويق المعلم له من قبلُ.
- صناعة مناخ من الحرية فى العملية التعليمية: تقع مسؤولية كبيرة على المعلم في صناعة المناخ المحيط بالعملية التعليمية والحرية أحد المعاني والقيم الهامة التي لا بد أن تحيط بالعملية التعليمية لأنها تجرئ المتعلم على السؤال وتشجعه على البحث عن الحقيقة وإلا آثر المتعلم إخفاء ما يدور في نفسه من خواطر وعوارض وأسئلة وسيظل الشك يملأ قلبه ولن يتقدم إلى الأمام في تلك العملية التعليمية المهمة ولولا مناخ الحرية التي صنَعه الله- سبحانه وتعالى- لأنبيائه وفي القلب منهم إبراهيم- عليه السلام- ما تجرأ إبراهيم في سؤال ربه عن كيفية إحيائه الموتى لأن هذا السؤال من جوهر أمور العقيدة التي لا يتجرأ أغلبنا على الخوض فيها.
- توجيه المتعلم إلى التركيز على استنباط النتائج: ويمكن ملاحظة ذلك في السلوك الإلهي التوجيهي حيث إن استخدام واو العطف في الفعل الأخير (واعلم)، تفيد إرشاد المعلم للمتعلم بضرورة إمعان التفكير في كل فعلٍ يقوم به المتعلم في الأفعال السابقة؛ مما يشير إلى إعلاء قيمة العقل في عملية التعلم، ودوره في كل خطوات التعلم، وكذلك تدل على أهمية استخراج القيم النهائية والأهداف الكلية للموقف التعليمي ورصد تحققها بوضوح وكأن الله تعالى يقول إنه تم تصميم هذا الموقف لأجل أن تعلم يا إبراهيم أن الله عزيز حكيم ولذا لا بد أن تتأكد من تحقق هذا.
وسائل العملية التعليمة
وهذا الموقف التعليمي يشمل على وسائل تعليمية استخدمها الله- سبحانه وتعالى- في تعليم إبراهيم- عليه السلام-، ومن هذه الوسائل:
- الحوار من أهم وسائل العملية التعليمية: حيث تضمنت عملية التعليم والتعلم أسلوبَ الحوار الهادف الذي يكشف لكل من المعلم والمتعلم عما يريده كلٌّ من الآخر، فتنكشف مكنونات المتعلم للمعلم، ويحدِّد المتعلم ما يريده من المعلم، وهنا يسود التفاهم والإقناع في عملية التعلم للمتعلم، دون الإجبار والقمع والتسلُّط من جانب المعلم للمتعلم.
- تجسيد الهدف التعليمي في وسيلة تفاعلية وتجنب التلقين ما أمكن: حيث إن الله- سبحانه وتعالى- بعد أن يطمئن إلى يقين إبراهيم في قدرته سبحانه على إحياء الموتى بدأ الله- سبحانه وتعالى- بتوجيه إبراهيم بوسيلة تفاعلية يشارك فيها المعلم كما المتعلم في الوصول إلى الهدف التعليمي المستهدف فلم تكن إجابة الله سبحانه عن سؤال إبراهيم (رب أرني كيف تحيي الموتى) إجابة مباشره تلقينية ولكن الله كلَّف سيدنا إبراهيم- عليه السلام- بعدة تكليفات يقوم بعملها بنفسه: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” وكذلك فإن استخدام الحقائق الكونية في هذه التجربة فى محاولة تجسيد المعنى للتوصل إلى الأمور المجردة، تكون أجدى في مخاطبة العقل البشري.
- وعليه يمكن ملاحظات مجموعة من السمات التي نشأت عن هذا النمط التفاعلي في هذا الموقف التعليمي، فالمعلم قد فعَّل المتعلم وجعَله نَشِطًا بقيامه بهذه الأفعال، وأن تنوع هذه الأفعال تجدد من نشاط المتعلم وتُبعد عنه الملل والخمول، وكذلك فإن استخدام أكثر من حاسة أو جارحة: اللمس، والسمع والبصر والأيدي، والأرجل، واللسان، والعقل، يزيد من فعالية عملية التعلم.
- ولقد تَمَّ استخدام الطريقة العملية في عملية التدريس، وهي من أكثر الطرق إقناعًا للمتعلم؛ حيث أجرى المتعلم التجربة بنفسه خطوة بخطوة، وشاهد نتائج كل خطوة، ثم توصل إلى النتيجة النهائية، وكل هذا من خلال مشاهدة الحقائق التي لا يستطيع أحد إنكارها، كما أن هذه الطريقة تفيد كثيرًا في تنمية التفكير، وهو ما يتمشَّى مع الهدف المنشود من عملية التعلم في هذا الموقف.
إن القرآن الكريم مليء بمواقف تعليمية يجب التوقف عندها واستلهام الدروس التربوية والتعليمية والمناهج والوسائل والطرق، والعديد من الفوائد على مستوى أطراف العملية التعليمية من المعلم والمتعلم.
المصادر والمراجع:
- فايز بن سعيد الزهراني: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ}.
- إسلام أونلاين: طلب إبراهيم إحياء الموتى.
- الطبري: تفسير الطبري 5/492.
- الدكتور عادل المغذوي: أساليب التقويم في ضوء استراتيجيات التدريس الحديثة، ص 8.
إضافة تعليق