جاء الإسلام ليهدم قِيَم الجاهلية السلبية ويغرس مكانها الأخلاق الحسنة من خلال آيات القرآن الكريم التي منها: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهي قيمة تؤكد ضرورة مقابلة الإساءة بالإحسان، لذا اهتم بها النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، وجعلوها شعارًا لهم في الحياة هُم ومَن جاء مِن بعدهم وسار على دربهم القويم.
وقد جاء ذلك في وقتٍ كان منطق العرب مقابلة الإساءة بإساءة أشد، وتمثل ذلك في قولهم:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا ……… فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
أي لا يسفهن أحد علينا فنسفه عليهم فوق سفههم، أي: نجازيهم بسفههم جزاء يُرْبِي عليه، وهو البيت الذي دفع جهابذة فقهاء اللغة والمعاجم في تفسير الجهل بمعنى الغضب، واشتقوا منه تفسيرهم “مفهوم العصر الجاهلي”.
قيم تربوية في (ادفع بالتي هي أَحسن)
وتحمل الآية الكريمة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} العديد من القيم التربوية، منها:
- مقابلة الإساءة بالإحسان: وهذه قيمة عظيمة ومركبة تحتوي على مجموعة من القيم الكبرى وهي قيم العفو والتسامح والإحسان وضبط النفس فهي ترتقي عن مجرد العفو أو التسامح أو الإحسان أو ضبط النفس لتشملهم جميعا.
- العفو: إسقاط العقوبة أو الرد السلبي على الشخص الذي أساء أو أخطأ، بمعنى آخر: يعني التجاوز عن الخطأ دون المطالبة بالعقاب أو الانتقام، إنه قرار بعدم الرد على الإساءة وإغلاق الموضوع تمامًا، وكأن الشخص الذي أساء لم يفعل شيئًا.
- التسامح: يتجاوز العفو ليشمل عدم الاحتفاظ بالضغينة في القلب، فيمكن للشخص أن يعفو عن الآخرين، ولكن التسامح يتطلب ألا يحمل في داخله مشاعر الغضب أو الكراهية تجاه الشخص الذي أساء إليه، فالتسامح يعني القبول بأن الناس قد يخطئون وتجاوز ذلك نفسيًا وروحيًا.
- الإحسان: تقديم الخير للآخرين، ويشمل العطاء فوق ما هو مطلوب.
- ضبط النفس: التحكم في المشاعر السلبية مثل: الغضب أو الرغبة في الرد بالمثل، والتصرف بحكمة وهدوء بدلاً من الانفعال.
- فما لها من قيمة عظيمة لا يحسن في تطبيقها إلا القليل، لذلك قال الله بعدها: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35]، أي لا يقبل بهذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، وسيكون ذا نصيب وافر من السعادة في الدنيا والأخرى.
- وفسر السعدي قول الحق سبحانه: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [34 فصلت]، أي إذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام.
- وقال الطبري في قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم-: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم.
- إن القدرة على ضبط النفس والعفو عند المقدرة ومقابلة الإساءة بالإحسان تعكس عمق الإيمان وقوة الشخصية، وتُسهم في بناء مجتمع تسوده المحبة والاحترام المتبادل، والآية تدعو إلى الرد على الأذى والمعاملة السيئة بالخير واللطف، وهذه الدعوة لا تعني فقط الامتناع عن الرد بالمثل، بل تعني السعي للرد بما هو أفضل وأجمل، مما يمكن أن يقلب العداوة إلى محبة.
- وقيمة العفو التي هي من أعظم القيم والتي تعد جزءًا من قيمة مقابلة الإساءة بالإحسان، اختصها الله بإعطاء الجزاء عنها ومكافأة عباده بها، فقال عن العفو: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى: 40]، فما بالنا أن تتعدى العفو إلى مقابلة الإساءة بالإحسان.
تطبيق شعار (ادفع بالتي هي أحسن) في السنة
والسيرة النبوية تفيض بالمواقف التي تترجم قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} حيث عفا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المسيئين، ودعا لهم بالصلاح والهداية، وترك لنا- صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة في كل من القول والفعل، فهو خير من طبق القرآن في كل أقواله وأفعاله، حيث كان- صلى الله عليه وسلم- خلقه القرآن.
قال أنس بن مالك- رضي الله عنه-: “كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أَثَّرَتْ به حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مَالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطَاءٍ” (رواه البخاري ومسلم)، هذا الحديث يظهر حلم النبي- صلى الله عليه وسلم- في مقابلة الإساءة بالإحسان، حيث لم يغضب من الأعرابي بل استجاب له بلطف وأعطاه ما طلب.
ولنا في رفيق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العبرة والعظة، فهو خير من اتبع الرسول وسار على دربه، فحينما أراد أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- أن يقطع المساعدة عن مسطح بن أثاثة الذي خاض في عرض ابنته عائشة- رضي الله عنها-، عاد وواصل الإحسان إليه بعد نزول قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) [النور: 22]، وهذا يُعد مثالاً قويًّا عن مقابلة الإساءة بالإحسان رغم الإساءة.
سنقابل في حياتنا اليومية مواقف كثيرة، سواء في مدرستنا أو في جامعتنا أو في بيئة العمل أو في علاقتنا الأسرية التي قد تتعرض فيها لمن يسئ إلينا، لذا من المهم اتباع مبدأ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فهو كفيل بأن يحدث تغييرًا إيجابيًّا كبيرًا، سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي، لأنه عندنا نتسامح ونتعامل بالأفضل مع الآخرين، ونساهم في نشر روح السلام والمحبة وبناء مجتمع متسامح ومتراحم، ونخلق بيئة تسودها الرحمة والتفاهم تقل مستويات التوتر والقلق، وتتحسن الصحة النفسية، ويتمتع الجميع بحياة أكثر سعادة واستقرارًا، وفوق ذلك تنمو الروابط الاجتماعية وتقوى العلاقات، مما يؤدي إلى بيئة مجتمعية أكثر تماسكًا وسلامًا.
ويمكن البدء بالتطبيق العملي لهذا المبدأ من خلال ممارسات بسيطة في حياتنا اليومية، فعند مواجهة أي إساءة نُحاول التنفس بعمق والسيطرة على مشاعرنا، والتفكير لثوانٍ قبل الرد، ويمكن تطبيق حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “إذا غضبَ أحدُكم وَهوَ قائمٌ فليجلِسْ فإن ذَهبَ عنْهُ الغضبُ وإلَّا فليضطجِعْ” (رواه أبو داود)، فهذا الحديث يظهر نصيحة النبي- صلى الله عليه وسلم- بضرورة تغيير الوضعية عند الغضب، فالجلوس أو الاضطجاع قد يساعد في تهدئة النفس والسيطرة على الغضب، ثم نتذكر دائمًا أن تقديم الخير لمن أساء إلينا يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير علينا وعلى الآخرين، ثم نجتهد أن نجعل ذلك عادة يومية نتبناها في جميع تعاملاتنا.
المصادر والمراجع:
- أبو عبد الله الزوزني: شرح المعلقات السبع، ص 226.
- الطبري: تفسير الطبري 21/469.
- إسلام ويب: التسامح النبوي.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص 749.
- أبو الهيثم محمد درويش: مع القرآن (من لقمان إلى الأحقاف) – ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم.
إضافة تعليق