يعد قياس الذكاء ومعرفة الخصائص والقدرات العقلية للإنسان من القضايا المهمة التي تسعى لها المجتمعات المتطورة، ولا يمكن أن نتحدث عن أي نهضة حقيقية في أي مجتمع وبقائها مستمرة دون استثمار الطاقات البشرية لأفراده وتوظيفها
يعد قياس الذكاء ومعرفة
الخصائص والقدرات العقلية للإنسان من القضايا المهمة التي تسعى لها المجتمعات
المتطورة، ولا يمكن أن نتحدث عن أي نهضة حقيقية في أي مجتمع وبقائها مستمرة دون
استثمار الطاقات البشرية لأفراده وتوظيفها وفق القاعدة النبوية: "كلٌّ
مُيسَّرٌ لما خُلق له".
من هذا المنطلق ينبغي
على المربين والمعلمين الكشف عن المواهب والقدرات والمهارات التي يمتلكها طلابهم،
وعمل برامج إرشادية نمائية للارتقاء بشخصياتهم، وتنمية ذكاءاتهم وقدراتهم العقلية،
واستثمار هذه القدرات في خدمة المجتمع وتحديثه.
بالإضافة إلى أن
اختبارات الذكاء تستخدم من قبل المربين والمعلمين كوسائل تشخيص لجوانب الضعف لدى
طلابهم، ومن ثم عمل برامج وقائية وعلاجية لها، كما أنها تسهم في التنبؤ بقدرة
الفرد على النجاح في التخصص وفي مهنة المستقبل، مع العلم أن درجات الذكاء تشكل
عاملًا واحدًا فقط من العوامل العديدة والمتنوعة التي تؤثر في كيان الفرد، إلى
جانب عوامل أخرى، كالميول، والاتجاهات، والدوافع، والقيم، والاهتمامات، ومفهوم
الذات، فلكل واحد من هذه العوامل تأثيره المباشر على القدرة العقلية.
وقد ظهرت اختبارات
متعددة لقياس الذكاء العام لدى الإنسان منذ بداية القرن العشرين، إلا أن تلك الاختبارات
كلها كانت قائمة على قياس القدرة العقلية العامة كمؤشر للذكاء، وفي أواخر القرن العشرين
ظهرت توجهات حديثة لقياس الذكاء لدى الأفراد؛ حيث أظهرت أبعادًا متعددة في مكونات
الذكاء، وبينت التمايز بين الذكاء، والموهبة، والتفوق، ومن أهم هذه النظريات
الحديثة نظرية الذكاء الناجح لستيرنبرج، وسنتطرق في هذا المقال إلى عرض أهم
الأفكار التي نادت بها نظرية الذكاء الناجح، وأهم تطبيقاتها في المجال التربوي
والتعليمي، وكيف يستفيد المربون من هذه النظرية في مؤسساتهم التعليمية ومحاضنهم
التربوية.
مفهوم الذكاء الناجح:
قدم ستيرنبرج عام 1985م رؤية ثلاثية جديدة للذكاء
الإنساني، تفسّر الموهبة والتفوق بشكل أشمل مما قدمته النظريات التقليدية. فقد
عرَّف الذكاء الناجح أنه "مجموعة من القدرات اللازمة لتحقيق النجاح في الحياة".
ومن أهم الأفكار الجديدة التي نادت بها أن الذكاء لدى الإنسان يتكون من ثلاث قدرات
هي: القدرة التحليلية، والقدرة الإبداعية، والقدرة العملية. ويرى مؤسس النظرية أنه
لا يمكن تحديد الموهبة أو الذكاء بدرجة يحصل عليها الفرد على اختبار ما. وأكد على
ضرورة التفاعل بين القدرات الثلاث لتكوين الأداء الموهوب. ولا يمكن لأيٍّ من هذه
المكونات الثلاث أن يظهر الموهبة بمفرده. وقد لاقت هذه النظرية قبولًا واسعًا على
مستوى العالم لوضوح فكرتها، وما تحمله من مضامين تربوية من الناحيتين النظرية والتطبيقية.
مكونات الذكاء الناجح:
1. الموهبة التحليلية:
تشير الموهبة التحليلية إلى القدرة على تجزئة المشكلة، وتفكيكها، وفهم أجزائها، والقدرة على استنتاج العلاقات وإدراك التشابه والاختلافات بين الأشياء، والقدرة على استنباط المفاهيم والأفكار من الموضوع. وهذه القدرة يمكن قياسها باستخدام اختبارات الذكاء التقليدية. فالأفراد الذين يمتلكون هذه القدرة يحصلون على درجات عالية في هذه الاختبارات. ويستطيع المربون الاستفادة من الاختبارات التقليدية لقياس هذه القدرة مثل اختبار ستانفورد - بينيه لقياس مستوى الذكاء لدى الأطفال، أو اختبار وكسلر - بلفيو لقياس ذكاء الراشدين، أو اختبار المصفوفات المتتابع لرافن.
2. الموهبة الإبداعية:
تبدو هذه القدرة في
الأفراد الذين لديهم مهارة الاستبصار، أو الحدس، أو المكافحة بنجاح في المواقف
الجديدة وغير المألوفة، وهؤلاء ليس بالضرورة أن يكونوا متميزين في اختبارات الذكاء
التقليدية، إلا أنهم يرون الأشياء بطريقة مختلفة، ويقدمون إنجازات رائعة في مجالات
العلوم، والآداب، والدراما وغيرها. والقدرة الإبداعية تتكون من قدرات جزئية هي
الطلاقة، والمرونة، والأصالة في التفكير، والانفتاح، والفضول، والخيال العقلي،
والحساسية للمشكلات وإدراك التفاصيل، والاحتفاظ بالاتجاه نحو تحقيق الهدف.
فالطلاقة تعني القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الحلول لمشكلة معينة في فترة زمنية محددة، ويقصد بالمرونة قدرة الفرد علـى التفكيـر فـي اتجاهات مختلفة، وإنتاج أنواع متعددة مـن الأفكار، وكذلك إمكانية تحويل تفكيره من مـدخل إلى آخـر. أما الأصالة فتعد من أكثر القدرات ارتباطًا بالإبداع، ويقصد بها القدرة على إنتاج أفكار غير مألوفة. أما إدراك التفاصيل أو الإفاضة فتعني تجميـل الفكـرة، أو العملية العقليـة وزخرفتهـا، والمبالغـة فـي تفـصيلها بحيث تكون أكثر فائدة وجمالًا ودقة. ويقصد بالحساسية للمشكلات الوعي بوجود مشكلاتٍ، أو حاجاتٍ، أو عناصر ضعفٍ في البيئة أو الموقف. أمَّا الاحتفاظ بالاتجاه والمواصلة فهو التركيز لفترات طويلة مصحوبة بالانتباه إلى هدف معين، وتخطي أي معوقات أو مشتتات وعدم الالتفات إليها.
3. الموهبة العملية:
المقصود
بهذه الموهبة هو تطبيق القدرات التحليلية والإبداعية التي لدى الفرد في المواقف
اليومية والعملية. فالموهوب عمليًا هو الذي يحدد ما يفعله للنجاح في عمله ثم يشرع
في تنفيذه. فهناك العديد من الأشخاص يمتلكون قدرات تحليلية وإبداعية عالية، ولكنهم
لا يستطيعون تطبيق هذه القدرات في التفاوض مع الآخرين، أو التسابق في مواقعهم
الوظيفية، أو الفوز في المنافسات مع الآخرين. كما أن الفرد الذي لديه قدرة إبداعية
عالية ولا يستطيع أن يقنع الآخرين بجدارة أفكاره سوف يواجه إحباطًا في كل مرة،
لذلك فإن الجزء المهم في موهبة الفرد هو قدرته على التنسيق والتوازن الناجح بين
الجوانب الثلاثة للموهبة.
لقد طور ستيرنبرج مقياسًا
للقدرات الثلاث يسمى (STAT (، بحيث يعطي درجة منفصلة لكل قدرة. وهناك عدد
قليل يحصلون على درجات مرتفعة في القدرات الثلاث مجتمعة. وفي عام 2000م
أضاف إلى النظرية مفهوم الحكمة، ويقصد بها العناية
بالآخرين، ورفاهيتهم، وتقديم النصيحة الجيدة للآخرين وللنفس.
ومما لا شك فيه أن جميع
القدرات والمواهب ضرورية في المجتمع، فنحن بحاجة إلى ذوي القدرات التحليلية، مثل
حاجتنا لذوي القدرات العملية أو الإبداعية. ولا نستطيع أن نفضل قدرة على أخرى إلا
عند انتقاء الأفراد للقيام بالأعمال والمهام، وفي هذه الحالة نختار القدرة أو
الموهبة أو المهارة التي تتوافق مع طبيعة العمل أو المهمة الموكلة للفرد.
ويرى ستيرنبرغ أن بعض خصائص
الشخصية تساعد علـى ظهور الإبداع أكثر من غيرها، ومن بين تلك الخصائص: القدرة على تحمل
الغموض، والرغبة الجازمة في تخطي المعوقات، والدافعية الداخليـة الذاتيـة، والإرادة
القوية للعمل الجاد. وأن الأفراد يبدعون بفضل التكامل والدمج بـين ثلاثة مظاهر هي:
القدرة العقلية، أو الذكاء، ونمط التفكير، وخصائص الشخصية. كما أن الإبداع يحدث
بصور مختلفة وأشكال متعددة، وليس بالضرورة أن يكون لدى المبتكر القدر نفسه من المظاهر
الثلاثــة؛ لأنهــا تتفاعــل فيمــا بينــها، وبطــرق مختلفــة في إظهــار الأداء الإبداعي.
تطبيقات عملية لتنمية الذكاء الناجح في المحاضن
التربوية:
من التطبيقات العملية لتنمية قدرات الذكاء الناجح في
المحاضن التربوية والتعليمية ما يلي:
1. تنويع
أساليب التدريس، فالطلبة يتعلمون ويفكرون بطرائق وأساليب مختلفة، فبعضهم يتعلم بطريقة
المحاضرة، وبعضهم الآخر بطريقة المناقشة، وآخرون بوسائل التكنولوجيا، وهناك من
يفضل كثرة التفاصيل، وهناك من يفضل التركيز على النقاط الرئيسة. وهذا يتطلب تزويد
الطلبة بمجموعة كبيرة من الأمثلة المتنوعة، ففي الموضوعات التاريخية مثلًا يمكن
مناقشة إسهامات القادة، والأدباء، والفنانين، والأطباء، والعلماء، الذين قدموا إنجازات
عظيمة في الحضارة الإنسانية.
2. التنويع
في أساليب التقويم واختيار طريقة التقييم المناسبة لكل متعلم، وذلك باستخدام
أساليب متنوعة تشمل التحليل، والمقارنة، والتطبيق، وعمل المشروعات، والأسئلة
المقالية، والاختيار من متعدد وغيرها.
3. تمكين
المتعلم من تحديد جوانب القوة لديه، والقدرات التي يملكها، وتصحيح جوانب الضعف،
والتركيز على الإنجازات التي حققها، وهذا يرفع الدافعية، والكفاءة الذاتية لديه،
ويحفزه للاستمرار لمواصلة حياته المهنية في المستقبل.
4. الاستفادة
من اختبارات الذكاء الناجح لتصنيف الطلاب حسب قدراتهم العقلية إلى ذوي القدرات
التحليلية، وذوي القدرات الإبداعية، وذوي القدرات العملية، واكتشاف الموهوبين،
والمتفوقين، والعاديين، وذوي المستويات الضعيفة في الذكاء، ثم عمل برامج لتنمية
هذه القدرات.
5. توفير
أجواء الحرية والمناخ المناسب للطلاب في المحاضن التربوية للتعبير عن أنفسهم وطرح
أفكارهم، وإتاحة الفرص لهم لاكتشاف اهتماماتهم الخاصة، وسمات شخصياتهم وقدراتهم
وطموحاتهم، وتشجيعهم على المخاطرة والوقوع في الأخطاء للتعلم من مواقف الفشل
والنجاح، فالبيئة التي لا تسمح بالوقوع في الخطأ لا تتيح المجال للتعلم.
6.استخدام
الوسائل التعليمية التي تحتوي على الأشكال، والرسومات، والبيانات، والصور،
والألوان، التي تثير لدى المتعلم الربط بين المعلومات واستنتاج العلاقات والمقارنة
بين الأشياء أو المكونات.
7. تصميم
الأسئلة الصفية والواجبات المنزلية في شكل مشكلات تحتاج إلى حلول، وتدريب الطلاب
على استراتيجية حل المشكلات؛ وذلك لتنمية القدرات التحليلية لديهم.
8. مساعدة
الطلاب على إقامة مشروعات ونشاطات عملية تتسم بالإبداع والجدة والأصالة، وتكون
ملامسة لموضوعات اجتماعية وأخلاقية مثل: إعداد الأبحاث، وكتابة المقالات، وتطوير
الفيديوهات، والرسم، والنحت والتصميم، والبرمجة.
9.إنشاء
أندية خاصة بالموهوبين، وإقامة معسكرات صيفية لهم، والكشف المبكر عنهم، وتحديد
قدراتهم، وإدراج مهارات التفكير ضمن مناهجهم الدراسية، والاهتمام بإنجازاتهم التي
حققوها.
10. تجهيز
أماكن صحية للتعلم من حيث التهوية والإضاءة، والبعد عن الضجيج، وتدعيمها بالمكتبات
والمختبرات، وأجهزة الحاسوب الحديثة والإنترنت.
وختامًا؛ فمن خلال عرض مفهوم الذكاء الناجح وأفكاره الأساسية
وتطبيقاته العملية نجد أنه جاء بتصور جديد لمفهوم الذكاء والقدرات العقلية يختلف عن
التصورات التقليدية، هذا التصور قائم على أنَّ الإنسان لديه تنوع وتعدد في القدرات
والمواهب، وهذا يتوافق مع الفطرة الإنسانية والتكاليف الشرعية، قال الله عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...} [البقرة:286]. فالوسع
هنا هو أقصى حدود القدرة. وقال -سبحانه وتعالى-: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ
بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]. فالتكليف
للإنسان على قدر ما أعطاه الله سبحانه ومنحه من قدرات وإمكانات ومواهب. وكان رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يصنف أصحابه وفق قدراتهم وميولهم، فأطلق على خالد بن الوليد سيف
الله المسلول، وأبي عبيدة بن الجراح أمين الأمة، وعبد الله بن عباس حبر الأمة، وكان
يكلفهم بالأعمال والمهام وفقًًا لقدراتهم ومهاراتهم.
yousef alemad
أريد تجربة اختبار (STAT) كيف يمكنني ذلك؟