رغم أنّ محمد إقبال كان شاعرًا وفيلسوفًا وسياسيًّا وأحد المحامين البارزين في باكستان، فإنه كان يُعدّ- أيضًا- من التربويين المسلمين غير العرب الذين لعبوا دور مهمًّا في الإصلاح التربوي في العالم الإسلامي، حيث دعا إلى تربية إسلامية حديثة تأخذ في الاعتبار التّحديات التي يُواجهها المسلمون في عصره. 

وتمثّلت أهم أفكار شاعر الإسلام كما كان يُطلق عليه، في أنّ الإسلام هو أساس التّربية التي يجب أن ترتكز على مبادئه وقيمه، كما دعا إلى إحياء التراث الإسلامي التّربوي وتجديده بما يتناسب مع متطلبات العصر، ومن أهم أفكاره في هذا المجال الاهتمام بالتربية التكاملية التي تُراعي الجوانب الرّوحية والعقلية والجسدية للإنسان، وكذلك التربية العملية التي تُركّز على المهارات والقدرات، بالإضافة إلى التربية الوطنية التي تُسهم في بناء الأمة، وتُنمّي الولاء للوطن والانتماء إليه. 

نشأة محمد إقبال ومسيرته المهنية 

وُلد محمد إقبال في بلدة سيالكوت بإقليم البنجاب في دولة باكستان (1289هـ = 1873م)، وهو نجل عائلة كشميرية براهمية متوسطة الحال، وقد اعتنقت الإسلام في القرن السابع عشر. و”إقبال” هو الأخ الأكبر بين خمسة أشقاء، أمّا والده فهو الشيخ نور محمد، كان يعمل خيّاطًا، وكانت له سمعة طيبة من الناحية المهنية والخلقية، وحرص على تربية أبنائه تربية دينية ملتزمة. 

وعندما كان محمد طفلًا برزت موهبته الشعرية وإمكاناته العالية في الكتابة، وتعرّف أحد معلميه- وهو السيد مير حسن- إلى موهبته هذه ودعمه وشجعه على تنميتها. وحفظ “إقبال” القرآن الكريم وتلقّى تعليمه الابتدائي في بلدته، ثمّ التحق بمدرسة البعثة الأسكتلندية للدّراسة الثانوية، ودَرَسَ في هذه المدرسة اللغتين العربية والفارسية. 

والتحق “إقبال” بجامعة لاهور، ودرس فيها الفلسفة والأدب الإنجليزي والعربي، وحصل على درجة البكالوريوس في الآداب بتقدير ممتاز، كما حصل على الميدالية الذهبية عن درجاته المرتفعة في الفلسفة، ومن ثم قرر دراسة الماجستير في الكلية نفسها، وحصل على ماجستير في الآداب وعلى المركز الأول في الجامعة. 

واتّصل بالمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد، ثمّ سافر إلى لندن وعمل بها فترة سنة (1323 هـ = 1905م)، وبعدها سافر إلى ألمانيا في عام 1907 وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة ميونخ. 

وعقب عودته إلى بلاده اشتغل بالسياسة والفلسفة، وفي عام 1919 شغل منصب الأمين العام لمنظمة أنجومان هيمات الإسلام، وهي منظمة فكرية سياسية إسلامية اتخذت من لاهور، مقرًا لها، وقبل أن يتولى منصب الأمين العام في المنظمة كان عضوًا نشطًا فيها لسنوات عدة. 

وانتخب عُضوًا بالمجلس التشريعي بالنبجاب، وأخيرًا رئيسًا لحزب مسلمي الهند، وهو يُعد أول من نادى بضرورة انفصال المسلمين في الهند عن الهندوس، وتأسيس دولة خاصة بهم، وكان ذلك في خطاب تاريخي بمؤتمر الله أباد. 

ودعا “إقبال” إلى تجديد الفكر الديني وفتح باب الاجتهاد، وتقدير الذات الإنسانية ومحاربة التصوف السّلبي الاتكالي، وترك تراثًا فكريًّا وأدبيًّا، تُرجم معظمة إلى اللغة العربية، قبل أن يُتوفّى في “20 من صفر 1357 هـ = 21 من أبريل 1938م” بعد معاناة طويلة مع أمراض مختلفة، ودُفن في مدينة لاهور بباكستان. 

الفكر التربوي عند محمد إقبال 

وبجانب شهرة محمد إقبال في ميدان الشعر والفلسفة، فقد كانت له أفكار تربوية مهمة أثرت المكتبة الإسلامية، من ذلك: 

  • إصلاح نظام التعليم الإسلامي: دعا “إقبال” إلى إصلاح نظام التعليم الإسلامي بحيث يركز على تنمية شخصية الطالب الإسلامية وإعداده للمستقبل.
  • تدريس العلوم الإسلامية باللغة الأم: أكد إقبال أهمية تدريس العلوم الإسلامية باللغة الأم حتى يتمكن الطلاب من فهمها واستيعابها بشكل أفضل.
  • تحديث المناهج التعليمية: يرى إقبال أن المناهج التعليمية الإسلامية يجب أن يتم تحديثها بما يتماشى مع روح العصر ومتغيراته.
  • استخدام الأساليب التربوية الحديثة: يرى إقبال ضرورة استخدام الأساليب التربوية الحديثة في التعليم الإسلامي، مثل التعلم النشط والتعلم التعاوني.
  • تربية الطلاب على حب الوطن: دعا شاعر الإسلام إلى تربية الطلاب على حب الوطن والدفاع عنه، والعمل على تطويره وازدهاره، فهو يقول: “حب الوطن هو شعور فطري في النفس البشرية، ولكن يجب أن يتم تنمية هذا الشعور وتعزيزه من خلال التربية والتعليم”.
  • تربية الطلاب على الأخلاق الحميدة: أكد أهمية تربية الطلاب على الأخلاق الحميدة والقيم الإسلامية، مثل الصدق والأمانة والعدل والإحسان، ويوضح إقبال ذلك في قوله: “الأخلاق هي أساس الشخصية، والشخصية هي أساس المجتمع. لذلك، فإن تربية الطلاب على الأخلاق الحميدة أمر مهم لبناء مجتمع إسلامي قوي”.
  • التمسك بالقرآن الكريم: حيث قال، “إنك أيها المسلم لا تزال أسيرًا للمُتزعمين للدين، والمحتكرين للعلم، ولا تستمد حياتك من حكمة القرآن رأسًا، إن الكتاب الذي هو مصدر حياتك، ومنبع قوتك، لا اتصال لك به إلا إذا حضرتك الوفاة، فتقرأ عليك سورة (يس) لتموت بسهولة، فوا عجبًا! قد أصبح الكتاب الذي أنزل ليمنحك الحياة والقوة، يُتلى الآن (فقط) لتموت براحةٍ وسهولة”. 
  • المربي القدوة: فهو يقول “إن تربية النشء تقتضي أن يؤثر الأساتذة في التلاميذ تأثير أشعة الشمس المتجمعة في الأحجار النفيسة”. 
  • التربية والإصلاح رسالة كبرى: فلم يشتغل بالمناصب الدنيوية ومرتباتها، بل كان مهتما بالتربية والإصلاح، حيث يقول صاحب كتاب الشاعر الثائر:”… وضحى إقبال بالمناصب العالية والمرتبات الضخمة ليتفرغ لرسالته الكبرى”.
  • التربية على الابتكار: ومن أبرز الأفكار التربوية لدى “إقبال” تربية النشء على الإبداع في التعليم، والحث على التعلم المستمر، والتعلم التعاوني، والتفاعل بين المعلم والطلاب.
  • العلم لا ينفع وحده: فلا بُد من أن يتصل به القلب ويصاحبه الإيمان، ويهديه العشق.. والعلم والبصيرة أو العقل والقلب كالطل والنسيم لا بد من اشتراكهما في تربية الزهر. يقول: ما يحسن المرج ترتيب الزهور إذا لم تشرك النسماتُ الطل في الزهر، والعلم إن لم يضِف نجوى الكليم إلى رأي الحكيم فما للعلم من قدر.
  • دعوة الحكام والملوك إلى الرجوع للقرآن: قال- رحمه الله-: حينما أهدى القرآن إلى ملك الأفغان: “إن هذا الكتاب رأس مال أهل الحق، في ضميره الحياة، وفيه نهاية كل بداية، وبقوته كان علي- رضي الله عنه- فاتح خيبر”. فبكى الملك ، وقال: “لقد أتى على نادر خان زمان وما له أنيس سوى القرآن…”. 
  • تغذية الروح أهم من تغذية البدن: فقال : “إن الاستغناء ملوكية، وعبادة البطن قتل للروح، وأنت مخير بينهما، إذا شئت اخترت القلب، وإذا شئت اخترت البطن”. 
  • معرفة النفس: يقول “إقبال” في قصيدته: “انزل في أعماق قلبك وادخل في قرارة شخصيتك، حتى تكتشف سر الحياة.. إن الإنسان إذا عرف نفسه بفضل الحب الصادق، وتمسك بآداب هذه المعرفة.. انكشفت عليه أنه أسد من أسود الله أفضل من أكبر ملوك العالم.. إن الصراحة والجرأة من أخلاق الفتيان وإن عباد الله الصادقين لا يعرفون أخلاق الثعالب”. 
  • نشر الإسلام وإحياء اللغة: حيث قال بمناسبة مستقبل المسلمين في الهند: “… أشرتُ على بعض أمراء المسلمين أصحاب الولايات بالعناية بنشر الإسلام في غير المسلمين ونشر الثقافة والآداب الإسلامية في المسلمين وإحياء اللغة العربية”. 
  • التصدي لمكايد الكفار: فله قصيدة بعنوان: (وصية إبليس إلى تلاميذه السياسيين)، يقول فيها: “إن المجاهد الذي يصبر على الجوع ولا يحسب للموت حسابًا أخرجوا روح محمد- صلى الله عليه وسلم- من جسمه فيصبح قليل الصبر جزوعًا من الفقر، شديد الخوف من الموت، وأشغلوا العرب بالأفكار الغربية وانتزعوا من أهل الحرم تراثهم الديني تتمكنون بذلك من إجلاء الإسلام من الحجاز واليمن…”. 
  • الحث على الوحدة الإسلامية: يقول: “نحن المسلمون من الحجاز، والصين، وإيران، وأقطار مختلفة، نحن غيض من فيض، نحن أزهار كثيرة العدد، واحدة الطيب والرائحة…”. 
  • عدم فصل الدين من الدنيا: يقول في قصيدته (الدين والسياسة): “قامت الكنيسة على أساس من الرهبانية فلم تسعها القيادة والسيادة، والحكم والإدارة، فقد كان هناك عداء قديم بين الرهبانية والحكم… حتى خلصت السياسة نفسها أخيرًا من الدين ومرقت منه كما يمرق السهم من الرمية… فلما انفصل الدين عن الدولة، جاءت الشهوة وشاع الهوى، وساد قانون الغاب، هذا الانفصال شؤم على الدولة والدين، هو لا يدل إلا على ضعف بصر هذه الحضارة وفساد ذوقها”. 
  • إيقاظ همة طالب العلم: يريد “إقبال” إيقاظ نفس الطالب وتحريكها وإثارتها للنظر، وحفزها للمطالب العالية، لا تلقينها مسطورات الكتب.
  • أهداف العلم والمدرسة: يقول إن المدارس كانت من أهدافها تقدم الإنسان ورفعته في حياته، لكن تغيرت تلك الأهداف، حيث صارت وسائل إلى الوظائف وسبيل إلى المعايش وهي لا تقدم بالإنسان على الحياة بل تهبط بالفطرة. 

شاعر الإسلام وآثاره الأدبية

وقد كان محمد إقبال أول شاعر يُلقّب بشاعر الإسلام، وأول مناد بقيام وطن خاص بالمسلمين في شبه القارة الهندية، وهو ما تحقق بقيام باكستان بعد وفاته بسنوات. 

ويبدو أنّ آثار النشأة الأولى- في رحاب التصوف والاغتباط بنعمة الإسلام- قد أورثته حبا للرسول- صلى الله عليه وسلم-، جارفًا غامرًا، ملك عليه أقطار نفسه واستبد بهواه، وعصمه من غوائل الحياة الغربية وشرور الحضارة المادية. 

يقول “إقبال” عن نفسه: “لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي ويُعشِيَ بصري، لأني اكتحلت بإثْمِد المدينة”. “إن تربة المدينة أحب إلي من العالم كله”. وقد ظل مشبوب الحنين مستطار اللب هائما بأمجاد المسلمين، يرسل شعره على هذا النحو “إنني هائم في شعري وراء الشعلة التي ملأت العالم أمس نورًا وحرارة، وقد قضّيت حياتي في البحث عن تلك الأمجاد التي مضت، وأولئك الأبطال الذين رحلوا، وغابوا في غياهب الماضي. 

ولقد ألّف الروائي المصري نجيب الكيلاني كتابًا عن “إقبال” بعنوان (الشاعر الثائر)، وخلص فيه إلى أن “إقبال”، “لم يرد للشعر أن يكون فلسفة محضة”، فيُجلب من رياض الزهر وهمسات النسائم وغفوات النجوم إلى مجالس الجدل وصوامع السفسطة، بل يريد له “أن يمتزج بألوان الفكر، وصادق النظرات، وحقائق الوجود، وكُنه الكائنات، وأن يُناجي النسائم، ويصقل العقول، ويسطّر وثائق التحرير والكفاح ويحكم في قضايا الناس والمدنيات”. 

وفي محراب الفلسفة، فقد كان “إقبال” على حظ وافر من علوم الإسلام النقلية والعقلية، وعلى دراية واسعة بتعاريج الفلسفة، قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها، وكان عميق الفهم لحركة التاريخ، شديد الوعي بحقائقه وأحداثه، يلخّص تطور المجتمعات وأعمار الدول.

وكان شديد التطيّر من “سكر القوة” وجنون العظمة، يقول: “انظر كيف مزّق جنكيز خان وإسكندر رداء الإنسانية، وهتكا ستر الحشمة ولباس الكرامة، وفضحا الإنسان مرارًا وتكرارًا”، واعتلجت في فكره وشعره تيارات عنيفة من التصوف الغامر، والفلسفة العاتية، والمعرفة الواسعة، فهو “مريد” جلال الدين الرومي، وهو تلميذ المدرستين الألمانيتين: المثالية العقلية، والوضعية الحسية، وهو ناقد سياسي عميق النظر، نافذ البصيرة.

وفوق كل ذلك، فهو شاعر مسلم قوّام بالقسط- حسب وسعه ووسع زمانه- نزّاع إلى الحركية الإيجابية، وإلى البعث والإحياء، وإلى “إعادة بناء التفكير الإسلامي” وَفق منهج يزدوج فيه العقل والنقل ويصطحب فيه الرأي والشرع.

وكتب “إقبال” تسعة دواوين، تضمنت نحو 12 ألف بيت من الشعر، منها قرابة سبعة آلاف بيت بالفارسية، وخمسة آلاف بيت بالأوردية، ومن أشهر دواوينه: “جناح جبريل”، و”الأسرار والرموز”، و”صلصلة الجرس”، و”رسالة المشرق” و”ضرب الكليم” و”هدية الحجاز”.

وأهم كتبه النثرية “تجديد الفكر الديني في الإسلام”، و”تطور الميتافيزيقيا في بلاد فارس”، وكان من آخر ما كتب وهو على فراش الموت “ليت شعري، هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء؟ هل تعود النفحة الحجازية؟ لقد أظل الموت وحضرت الوفاة، فهل من حكيم يرثني؟”.

إن ما وصل إليه “إقبال” من نبوغ في الشعر والفلسفة والتربية جعله من الشخصيات التي لاقت اهتمامًا عظيمًا، وكُتب عنها كتابات كثيرة في العصر الحديث، فهو المناضل بالكلمة والرأي والجهد في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي سبيل الدعوة الإسلامية، وهو صاحب أكبر مدرسة شعرية في الهند، وصاحب النظريات التربوية المعتبرة.

يقول عنه الشيخ أبو الحسن الندوي: “لا أعرف شخصية ولا مدرسة فكرية في العصر الحديث تناولها الكتاب والمؤلفون والباحثون مثلما تناولوا هذا الشاعر العظيم”، وجاء في مقال في مهرجان إقبال المئوي الذي انعُقد في مدينة (لاهور) وتحت إشراف حكومة باكستان: “إنّ عدد ما صدر عن إقبال من الكتب والرسائل في لغات العالم قد بلغ ألفين، ما بين كتاب ورسالة، هذا عدا ما نُشر عنه من بحوث ومقالات”. 

مصادر ومراجع: 

  1. أبو الحسن الندوي: روائع إقبال ص 28-40. 
  2. محمد بن عبد الرحمن مدني: الشاعر محمد إقبال وأفكاره التربوية. 
  3. ميريه جراح: كل ما يهمك عن محمد إقبال.  
  4. الدكتور أحمد عبد الحميد عبد الحق: الشاعر محمد إقبال مصلحا تربويا. 
  5. شاعر الإسلام محمد إقبال.. المجاهد بالفكر والوعي. 
  6. موقع الجزيرة: محمد إقبال.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة