واحد من أعظم رجالات التاريخ الإسلامي، وأكثرهم كفاءة وصلاحية في القيادة، وفقهًا لشروط النهوض وكيفية إدارة الأزمات، أحد الوجوه السياسية والعلمية البارزة في التاريخ الإسلامي ألا وهو وزير الدولة السلجوقية، الوزير (نظام الملك)،
(إنما الأمم بدينها
ورجالها) عبرة وحقيقة تاريخية تختصر التاريخ الإنساني بعطائه وتفاعلاته الكثيرة والمتشعبة
لقرون وحقب لا يعلمها إلا الله سبحانه؛ فبمجرد أن نتصفح تاريخ أمّة من الأمم نستشف
عمق تاريخها، ونلمس أثره الفاعل محليًا، إقليميًا وعالميًا، حتى ندرك تلك الحقيقة الراسخة،
فالأمم والشعوب الثرية في العطاء والنتاج التاريخي هي التي تتقلد المراتب العليا لذلك
السلم برجالاتها وإنجازاتهم السياسية والعسكرية والعلمية.
وحديثنا
عن واحد من أعظم رجالات التاريخ الإسلامي، وأكثرهم كفاءة وصلاحية في القيادة، وفقهًا
لشروط النهوض وكيفية إدارة الأزمات، أحد الوجوه السياسية والعلمية البارزة في التاريخ
الإسلامي ألا وهو وزير الدولة السلجوقية، الوزير (نظام الملك)، الذي كان له دور بارز
في ظهور السلاجقة كقوة رئيسة مؤثرة على مسرح الأحداث في المشرق الإسلامي، لم تسهم في تغير الأوضاع السياسية وحسب، بل أيضًا ساهمت
بفاعلية في خلق نهضة علمية وتربوية وإصلاحية بالغة الأثر، يرجع الفضل في التأسيس لها
وتنفيذها للوزير الكبير (نظام الملك).
ترجمة
موجزة:
هو قوام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن
العباس الطوسي، الملقب بـ(خواجة بزك) أي (نظام الملك)، ولد في بلدة صغيرة من نواحي
طوس تسمى نوقان في 10 أبريل 1018م - 21 ذو القعدة 408ﻫ. عُني به أبوه فتعلم العربية
وحفظ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشرة، وألمَّ بالفقه على مذهب الإمام الشافعي،
وسمع الحديث بأصفهان وبنيسابور وببغداد، كما جلس لإملاء الحديث ببغداد، وزيادة على
ذلك درس الآداب التي تتعلق بأمور الحكم ، فأبوه كان يعدّه لمعالي الأمور.
وهذا من حسن التربية وذكاء المربي، الذي يختار
لمن يربيه أفضل السبل وأوسط الطرق للوصول إلى معالي الأمور واجتناب سفسافها، فمن
نعومة أظافره يدفع به في طريق العلم والدراسة والإدارة، لا في طريق اللعب واللهو
والبطالة كما هي عادة شباب اليوم من إيثار الدعة واللهو على الجد والدراسة.
رحل في شبابه إلى بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة -في
أفغانستان اليوم- فاتصل نظام الملك بداود بن ميكال شقيق أول سلاطين السلاجقة (طغرل
بك)، وكان يحكم خراسان، وعمل معه فأعجب بكفاءته وإخلاصه، فألحقه بحاشية ابنه ألب أرسلان،
وقال له: (اتخذه والدًا، ولا تخالفه فيما يشير به). فقد كان نظام الملك شخصية تتحلى
بالفطنة والذكاء والحكمة، والقدرة على إدارة الأمور، وكلها مؤهلات ضرورية لمن يتطلع
إلى تولي المناصب القيادية العليا بفاعلية واقتدار، ومن هنا بدأ نجم نظام الملك في
الظهور ثم السطوع.
الظرف التاريخي لظهور المدارس النظامية:
أصبح (نظام الملك) وزيرًا للسلطان العظيم (ألب
أرسلان) بطل معركة ملاذ كرد الشهيرة، والتي أسست الوجود السلجوقي في آسيا الصغرى،
ودفعت بالسلاجقة نحو سدة المجد كأقوى دولة إسلامية سنية في أواسط القرن الخامس
الهجري. وبعد مقتل ألب أرسلان المفاجئ تولى ابنه (ملكشاه) السلطنة خلفًا له بدعم
قوي ومؤثر من نظام الملك، فزاد ذلك من مكانته داخل الدولة؛ بحيث أصبح المتصرف
الفعلي في إدارة شؤون تلك الدولة الكبيرة القوية.
نظام الملك كان رجل دولة من الطراز الأول، حريصًا
على أسباب القوة والبقاء والنهوض، وزيادة على ذلك كانت خصال نظام الملك الشخصية
وصفاته الإيمانية وميوله الفكرية تؤهله للقيام بأعباء أكبر نهضة فكرية وعملية
وتربوية شهدها العالم الإسلامي في منتصف القرن الخامس. قال عنه ابن الأثير: (وأما أخباره
فإنه كان عالِمًا دَيِّنًا، وجوادًا عادلًا، حليمًا كثير الصفح عن المذنبين، طويل الصمت،
كان مجلسه عامرًا بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، كان من حفظة
القرآن، ختمه وله إحدى عشرة سنة، واشتغل بمذهب الشافعي، وكان لا يجلس إلا على وضوء،
وما توضأ إلا تنفَّل، وإذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ
بشيء قبل الصلاة، وكان إذا غفل المؤذن ودخل الوقت أمره بالأذان، وهذا قمة حال المنقطعين
للعبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات، وكانت له صلة بالله عظيمة، وكان يواظب على
صيام الاثنين والخميس).
استراتيجية التخطيط والبناء للمدارس النظامية:
بدأت فكرة المدراس النظامية انطلاقًا من إيمان
الوزير نظام الملك بأهمية التحصين الفكري والعلمي والتربوي، وبناء وتربية الكوادر
العلمية القادرة على هذا التصدي؛ لتكون هي خط الدفاع الأول عن حصون الأمة التي
تعرضت لهجمة عنيفة لأكثر من قرن من الزمان بعدما تسلّط البويهيون الشيعة على
الخلافة العباسية (334ه – 447ه)، وتسلّط الفاطميين العبيديين على مصر وبلاد المغرب
العربي (356ه - 564ه)، فخلال تلك الهجمة الشيعية الشرسة تسربت العقائد الضالة
والأفكار المنحرفة، وتخلخل البناء العقدي والتربوي للمسلمين، وسرت الثقافات
الدخيلة التي حاول البويهيون والفاطميون فرضها على المسلمين فرضًا خلال فترة ضعف الخلافة
العباسية. وظهر أثر ذلك في شيوع البدع والخرافات والاحتفالات البدعية، وما تبعه من
صدامات عنيفة بين المؤيدين والمعارضين، وهي الصراعات التي أحرقت بلاد العراق
والشام ومصر وما حولها، ومهدت بعد ذلك الطريق أمام الحملات الصليبية الشهيرة على
سواحل الشام في أواخر القرن الخامس الهجري.
كان التعليم والتربية الصحيحة القائمة على اعتقاد
أهل السنة والجماعة هي الأداة الرئيسة في أدوات فكر وفلسفة (نظام الملك) الساعية للتصدي
للفكر الشيعي المتنامي مثل الورم السرطاني في جسد الأمة بسبب دولة العبيديين في مصر،
والبويهيين في العراق وفارس، ومن ثم كانت فكرة (المدارس النظامية) التي تميز بها عصر
(نظام الملك) والدولة السلجوقية.
فنظام الملك بفتحه هذه المدارس، والإنفاق عليها بسخاء،
لم يكن يرمي إلى نشر العلوم الدينية فحسب، وإنما كان يهدف في قرارة نفسه إلى تحقيق
إصلاح جذري لأحوال البلاد المضطربة انطلاقًا من التربية والتعليم، ومن ثم فهو لم يكن
رجل سياسة فحسب، بل كان مصلحًا اجتماعيًا، ومربيًا واعيًا. فلقد كان للحركة الفكرية
التي قادها الوزير -بالموازاة مع الحركة السياسية، والاقتصادية، والتعليمية، والعسكرية-
الدور الكبير في القضاء على الفتن وفي استقرار الأوضاع في أنحاء مهمة من العالم الإسلامي.
وكان إنشاء المدرسة النظامية ببغداد سنة 459ه -
1066م، من قبل نظام الملك، فاتحة عصر جديد تبنت فيه الدولة إنشاء المدارس ورعاية التربية
والتعليم. وبدعم من نظام الملك انتشرت بالعراق وخراسان عشرات المدارس النظامية، حتى
قيل: (إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة)، وكان ينشئ المدارس حتى في الأماكن
النائية، وكان كلما وجد في بلدة عالمًا قد تبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفًا،
وجعل فيها دار كتب. وكان التلاميذ يتعلمون فيها مجانًا، وللتلميذ الفقير منحة يتقاضاها
من ميزانية مخصصة لذلك.
وقد بلغت نفقات نظام الملك في كل سنة على المدارس
والفقهاء والعلماء ثلاثمائة ألف دينار، فلما راجعه السلطان (ملكشاه) في هذا الأمر،
قال له الوزير: (قد أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحدًا من خلقه، أفلا نعوضه
عن ذلك في حَمَلة دينه وحَفَظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار!!).
ويمكن إجمالًا تلخيص أهداف المدارس النظامية في النقاط
التالية:
1- نشر الفكر السني ليواجه تحديات الفكر الشيعي ويعمل
على تقليص نفوذه.
2- إيجاد معلمين مؤهلين لتدريس المذهب السني الشافعي
ونشره في الأقاليم المختلفة.
3- إيجاد كوادر سنية لتشارك في تسيير إدارة دواوين
الدولة، وخاصة في مجال القضاء والتعليم والفتيا والتربية.
عوامل نجاح فكرة المدارس النظامية:
وقد نجحت المدارس النظامية نجاحًا كبيرًا لعدة أسباب؛
جماعها: حسن التخطيط والاختيار للمكان والمعلم والطالب والمنهج والتمويل.
فالنسبة للمكان فقد كان يُختار بعناية فائقة
تكشف عن استراتيجية ذكية وممنهجة؛ حيث بُنيت مدرسة ببغداد ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور،
ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة
بالموصل. هذه إذًا هي أمهات شبكة المدارس النظامية، ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها
أُنشئ إما في بعض المدن التي تحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان؛ حيث
كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من المفكرين السنيين
أيضًا، والثانية كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه، وإما في
بعض المناطق التي كانت مركزًا لتجمع شيعي في تلك الفترة كالبصرة، ونيسابور، وطبرستان،
وخوزستان، والجزيرة الفراتية.
وإلى جانب الاختيار المدروس للمكان، فقد تم اختيار
المدرسين بعناية تامة؛ بحيث كانوا أعلام عصرهم في علوم الشريعة، واللغة العربية والنحو،
ويشير الأصفهاني إلى دقة نظام الملك في هذه الناحية فيقول: (وكان بابه مجمع الفضلاء،
وملجأ العلماء، وكان نافذًا بصيرًا ينقب عن أحوال كل منهم، فمن تفرس فيه صلاحية الولاية
ولّاه، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتب له ما يكفيه حتى ينقطع إلى إفادة العلم
ونشره وتدريسه، وربما سيّره إلى إقليم خالٍ من العلم ليحلّي به عاطله، ويحيي به حقه،
ويميت به باطله).
أيضًا من عوامل النجاح: تحديد المنهج الدراسي
وقصره على العلوم الشرعية، ويتضح ذلك مما ورد في وثيقة وقفية نظامية ببغداد من أنها:
وقف على أصحاب الشافعي أصلاً وفرعًا، وكذلك شرط في المدرس الذي يكون بها والواعظ الذي
يعظ بها وأيضًا متولي الكتب.
ومن عوامل النجاح أيضًا: الدعم المادي غير
المحدود، فلم يدخر نظام الملك جهدًا في توفير الإمكانات المادية التي تساعد شبكة المدارس
هذه على النهوض برسالتها على أكمل وجه، ولذا نراه ينفق عليها بسخاء، ويخصص لها الأوقاف
الواسعة؛ فقد حرص نظام الملك على توفير الحياة المعيشية الكريمة لطلاب مدارسه، وأيضًا
تهيئة المناخ العلمي الذي يساعدهم على الدراسة والبحث، حيث اجتهد في توفير المراجع
العلمية داخل هذه المدارس، فكانت في كل مدرسة مكتبة تضم أحسن المراجع، يتولى أمرها
قوّام على شؤونها.
وقد تخرج في هذه المدارس جيل تحقق على يديه معظم
الأهداف التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيرًا من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم
أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار
التي انتقلوا إليها، أو يتولوا مجالس القضاء والإفتاء، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية
المهمة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي -أول مدرِّس بنظامية
بغداد- قوله: (خرجت إلى خراسان، فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها
أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي).
بالجملة كان مشروع نظام
الملك للنهضة السنية عن طريق التعليم والدراسة ونشر روح الدين والعلم في المجتمع السلجوقي
والأمة الإسلامية بأسرها سببًا مباشرًا في تراجع المشروع الشيعي والباطني لقرون؛ بحيث
تأجل ظهور مثل الدولة الصفوية حوالي خمسة قرون بسبب الإحياء السني الذي قام به نظام
الملك في القرن الخامس الهجري.
إضافة تعليق