الإمام أبو بكر الفهري الطرطوشي واحد من هؤلاء الأعلام الربانيين الذين كان لهم مدرسة متميزة في الإصلاح والتربية، وضع بها حجر الأساس لعلم كان هو أول من كتب فيه، ألا وهو علم أصول الحكم.
من أكثر الأسئلة التي تدور بأذهان الناس وقت الأزمات
وتتابع الفتن ونزول الحوادث الكبرى: أين علماء الأمة الربانيون؟! أين الذين يقودون
سفينة الأمة في هذا البحر المتلاطم من النوازل والمستجدات؟!
وتظل الإجابة على هذا السؤال تؤرق بال الغيورين
والمهتمين بأحوال الأمة، والذين تذوب قلوبهم كمدًا مما نزل بها وأحاط، وخاصة وهم
يرون أن علماء الأمة الرسميين وشيوخها النظاميين كثيرون وفي كل بلد، ولكنهم بعيدون
تمامًا عن الأحداث، ويؤثرون الصمت أحيانًا والمهادنة أحيانًا والمداهنة أحيانًا
كثيرة.
والفارق بين العلماء الربانيين وغيرهم ممن تراهم وتمتلئ
بها ساحات الإعلام اليوم، أن العلماء الربانيين يدركون واقع الأمة الإسلامية أكثر من
غيرهم، ويشاركون الجماهير في مشكلاتهم ونوازلهم؛ فالعالم الرباني هو عالم عامة المسلمين،
وليس خاصتهم، هو العالم الذي ينصح ويرشد ويوجه ويشارك، ويكون له في كل ما يستجد بالأمة
من نوازل ومستحدثات قول ورأي وعمل، العالم الرباني ليس هذا العالم الذي يقبع خلف كتبه
وأوراقه، بين جدران داره أو مدرسته، يعيش في نظريات جدلية، وفرضيات وهمية، وتفريعات
جزئية، بل هو العالم الذي يتابع أحوال المسلمين، ويرى مواطن الخلل عندهم، ويكون له
سعي حثيث، وجهد كبير من أجل نصح الأمة، والدفاع عن حياضها، وتربية وتعليم أبنائها،
وإصلاح الخلل الذي يصيب الأمة، ويتصدى لمصالح المسلمين، ويجعل شغله الشاغل إحياء معالم
الدين التي اندرست تحت الطغيان والفساد.
والإمام أبو بكر الفهري الطرطوشي واحد من هؤلاء الأعلام
الربانيين الذين كان لهم مدرسة متميزة في الإصلاح والتربية، وضع بها حجر الأساس
لعلم كان هو أول من كتب فيه، ألا وهو علم أصول الحكم.
التعريف به:
هو الإمام العلامة، القدوة الزاهد، العالم العابد، فخر الأندلس،
وشيخ المالكية: أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي،
فقيه الإسكندرية وعالمها، وناشر السنة، وقامع البدعة في مصر أيام الفاطميين الأشرار،
ولد في عام 451هـ بمدينة طرطوشة الأندلسية ثغر مملكة سرقطسة التي تتمتع في ظل أمرائها
من بني هود بالرخاء وسعة العيش، وفي الوقت نفسه كانت من حواضر العلم في الأندلس، وتموج
بالعلماء وحلقاتهم التي تمتلئ بطلبة العلم، وكان أبو الوليد الباجي أحد علمائها الكبار
الذين تُشدّ إليهم الرحال، وعُدّ إمام عصره في الفقه وفي مسائل الخلاف.
رحلته العلمية:
قرر الطرطوشي أن ينهج نهج أستاذه الباجي؛ فخرج في رحلة علمية
إلى المشرق، لم يكن الطرطوشي يعلم أنه لن يعود إلى بلاده أبدًا من تلك الرحلة، وإن
كان أستاذه الباجي قد مكث في رحلته العلمية ثلاثة عشر عامًا، فإن أبا بكر الطرطوشي
قد مكث في رحلته عمره كله!!
غادر الطرطوشي وطنه سنة (476 هـ - 1083م) وهو فتى غض الإهاب
في السادسة والعشرين إلى المشرق العربي، فنزل مكة، وأدى مناسك الحج، وألقى بعض الدروس،
ثم قصد بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وملتقى أئمة العلم، ومحط طلاب المعرفة من أرجاء
الدنيا، وكان الوزير نظام الملك قد أنشأ المدارس التي سميت باسمه (المدارس النظامية)،
وكان أول من أنشأ معاهد مستقلة للعلم، يتفرغ فيها المعلمون للتدريس والتلاميذ للتعلم،
وأوقف عليها أموالاً طائلة حتى تنهض برسالتها السامية، وقد شهد الطرطوشي نظامية بغداد
وهي في أوج تألقها وازدهارها، وتتلمذ بها.
وفي بغداد تفقه الطرطوشي على عدد من أعلام بغداد، فتتلمذ
على كبير الفقهاء من كل مذهب، وسمع الحديث وأسمعه، ثم رحل إلى الشام، وطوّف في مدنه،
فزار حلب وأنطاكية، ونزل بمدينة بيت المقدس، وكان لزهده وورعه أثر في ذلك فاجتمع عليه
الناس أينما حل.
الطرطوشي في الإسكندرية:
اتجه الطرطوشي بعد إقامته في الشام فترة من عمره إلى الإسكندرية
تسبقه سمعته الطيبة وتهيئ له مكانًا في القلوب، فاشتاق طلبة العلم إلى رؤيته، ونزل
الثغر في سنة 488هـ، وكانت مصر في تلك الفترة تحت حكم الدولة الفاطمية، فلما وصل الإسكندرية
وجدها قفرًا من العلم والعلماء، ومن أية مظاهر دينية، والمساجد خالية، والمدارس مغلقة
بسبب ملاحقة الفاطميين لعلماء أهل السنة، وتشريدهم وقتلهم وإيذائهم، فقرر الطرطوشي
استيطان الإسكندرية، ونشر العلم والسنة بها، وكان الطرطوشي يقول في ذلك: إن سألني الله
تعالى عن المقام بالإسكندرية -لما كانت عليه في أيام العبيدية: من ترك إقامة الجمعة،
ومن غير ذلك من المناكر التي كانت في أيامهم- أقول له: وجدت قومًا ضلالاً؛ فكنت سبب
هدايتهم.
وقد ظل الإمام مقيمًا بالإسكندرية معلمًا ومربيًا وواعظًا
وخطيبًا وناصحًا حتى توفاه الله سنة 520ه.
المنهج التربوي للإمام الطرطوشي:
الطرطوشي -كما قلنا- خرج في رحلة علمية استغرقت عمره كله،
فلم يعد للأندلس حتى مات -رحمه الله-، فطاف البلاد، وجالس العلماء، وشاهد
المجتمعات، ورأى العادات والسلوكيات، وتعامل مع الناس في الشرق والغرب، رأي العرب
والعجم والفرس والترك والمغاربة، ورأى المدارس الفقهية وجلس إلى شيوخها وحمل العلم
عن أئمتها، كما رأى وتأثر بتجربة المدارس النظامية في العراق، وقد عاصر قيامها
وذروة قوتها، فحدّث نفسه متى حانت الفرصة لاستنساخ تجربة المدارس النظامية في
الغرب فعلها مع إضافة ما كان يراه نقصًا في عمل هذه المدارس.
بالفعل لاحت للطرطوشي فرصة لتنفيذ حلمه في الإسكندرية، حيث
لم يمض وقت على مجيئه حتى تزوج بسيدة موسرة من صالحات نساء الإسكندرية، فتحسنت أحواله
ولانت له الحياة، ووهبته دارًا من أملاكها، فاتخذ من دورها العلوي سكنًا له معها، وجعل
طابقها السفلي مدرسة يلقي فيها دروسه، ويجعلها منصة لترويج منهجه التربوي.
ما أن شرع الطرطوشي في بدء الدراسة في مدرسته العلمية
حتى انهال عليه طلبة العلم من كل مكان للمنهج الفريد المتبع في هذه المدرسة
الطرطوشية؛ فقد اصطنع الطرطوشي طريقة جديدة في التعليم هي أقرب ما تكون للتربية والتعليم
بالنظم الحديثة؛ حيث لم تقتصر علاقته مع طلبته وتلاميذه على حلقة الدرس فقط، ثم ينفضون
من حوله، بل كان يصطحبهم، ويخرج معهم في رحلات خلوية إلى البساتين والمنتزهات خارج
المدينة، وهناك يقضون عدة أيام على غرار المعسكرات الكشفية، يلقى دروسه في الهواء الطلق
على تلاميذه، ويذاكرهم ما حفظوه ودرسوه، وقد شاقت هذه الطريقة تلاميذه فأقبلوا عليه،
وكثر عددهم، حتى كان يخرج معه في رحلاته تلك أربعمائة طالب، وبذلك يكون الطرطوشي قد
سبق الأوروبيين وغيرهم من أصحاب النظريات الحديثة في التربية.
أهم المعالم التربوية في مدرسة الطرطوشي:
1 – التأسيس العقدي: كان الإمام الطرطوشي معنيًا بالبناء
العقدي السليم لطلبة مدرسته العلمية، فقد طاف البلاد ورأى أثر الفساد العقدي في
تسلط الصليبيين على الشام، وعندما استقر في مصر وجدها عامرة بالبدع والمخالفات
والمنكرات العقدية التي تصل لحد الكفر تحت حكم الدولة الفاطمية ذات العقيدة
الفاسدة والمعادية لأهل السنّة وعقيدتهم، فعمل الإمام على تربية تلامذته على
العقيدة الصحيحة الخالية من البدع.
وللإمام الطرطوشي عدة مصنفات مهمة في التحذير من البدع
والخرافات، من أهمها: رسالة (البدع والحوادث)، ويعد أول من كتب في هذا الباب ثم
كتب الناس بعده، كما كان مشهورًا بقدحه الدائم لبدع وضلالات الطرق الصوفية
المنحرفة، وله رسالة في تحريم السماع والمعازف ورقص الصوفية في مجالسهم، وألف
رسالة شهيرة في نقد كتاب (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي، وكان معاصرًا له شديدًا
عليه في مواطن كثيرة، ويسمي كتاب الغزالي (إماتة علوم الدين).
2 – التفاعل مع الأحداث: فقد عمل الطرطوشي على بث روح
الإيجابية والتفاعل مع الأحداث والوقائع الجارية في المجتمعات، فالطرطوشي لم يكن
حبيس جدران مدرسته أسير كتبه وأوراقه ومحاضراته، بل كان متفاعلًا للغاية مع أحداث
الأمة خاصة، والإمام قد نشأ في عصر شديد الالتباس ومليء بالتحولات السياسية في
المشرق والمغرب، فقد عاصر حقبة ملوك الطوائف في الأندلس والدولة الفاطمية في مصر
والسلاجقة في الشام والعراق، وكل ذلك أثر في تشكيل وصياغة نظرية الطرطوشي ومنهجه
التربوي والإصلاحي الذي نقله لتلاميذه في مدرسته، وقد تمثل تفاعله مع الأحداث
ومشاركته في الحياة العامة في مواطن ومؤلفات وفتاوى كثيرة.
3 - الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد ألح
الطرطوشي على الحاكم وزير الفاطميين الأفضل بن بدر الجمالي في إطلاق يد الرعية في النصح
له والتعبير عما يجيش في خواطرهم وما يجول في أنفسهم مقابل الطاعة له في المعروف، حتى
يسكن الناس وتستقر أحوال معاشهم. وأمره بالتقرب إلى الرعية وتقبل اعتراضاتهم والسماح
لهم بمراجعته في أمور الحكم والسلطنة بما يخدم مصالح الجميع حكامًا ومحكومين.
4 - النصح للجميع: فقد كان لا يكف عن نصح عموم الناس
وخاصتهم، حكامًا ومحكومين، ويخرج للأسواق بنفسه لنصح الناس، وله رسالة شهيرة في
حرمة بيع وشراء جبن الروم الذي كان يتم شراؤه من المناطق التي احتلها الصليبيون في
الشام، وقد بنى عليها أهل العلم بعد ذلك في حرمة التعامل في كل شيء مع الكيانات
الصليبية في الشام، وقد تعرض لمضايقات ومؤامرات بسبب هذه الفتوى ليعود عنها، ولكنه
ثبت على الحق ولم يبال.
5 - الثبات على الحق: فقد تعرض الإمام لمضايقات كثيرة من
وزير الفاطميين (الأفضل الجمالي) وقاضي الإسكندرية (ابن أبي حديد) بسبب نشاطه
العلمي وتصديه للبدع والخرافات ونشره الوعي الديني والأخلاقي في مجتمع الإسكندرية،
الذي كان قفرًا من العلماء والدعاة والمصلحين. وقد تم اعتقاله وتحديد إقامته طيلة
عشرة أشهر في مسجد بالإسكندرية، ومُنع الناس من الصلاة في هذا المسجد، ومُنع
تلاميذه، وتعمدوا إهانته بجعل عطائه من جزية اليهود، فكان لا يقبلها أبدًا، وظل
صابرًا محتسبًا في معتقله حتى أظهر الله تعالى كرامته بإهلاك عدويه في آن واحد.
6 - الوعي السياسي: يعتبر الطرطوشي أول من كتب مصنفًا
مستقلًا في السياسة الشرعية بطريقة مختلفة عن طريقة الفقهاء المحضة، فقد كتب قبله
ابن قتيبة الدينوري كتاب (عيون الأخبار)، وكتب الماوردي (الأحكام السلطانية)، ولكن
طريقة الطرطوشي كانت أكثر عمقًا ووعيًا وتأصيلاُ، ويعتبر كتابه (سراج الملوك) الذي
أودع فيه خلاصة آرائه السياسية بتأصيل شرعي، أهم مصنفات الإمام وأكثرها شهرة.
فقد تميز المصنف عن غيره من السابقين واللاحقين بتقسيم الحكم
إلى عام وخاص، ومحاولته وضع بعض الضوابط الدستورية لتصرفات الحاكم، الأمر الذي استفاد
منه ابن خلدون بشكل كبير في وضع نظريته في علم الاجتماع السياسي المبسوطة في (المقدمة).
ورغم أن كثيرين كتبوا في الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية غير أنهم لم يلامسوا بعض
ما لامسه الطرطوشي ونص عليه.
رحم الله تعالى الإمام الطرطوشي وأجزل له المثوبة على ما
تركه من علم وفقه ووعي ونظريات تربوية وإصلاحية مازالت أصداؤها تتردد في قاعات
العلم والبحث حتى اليوم.
إضافة تعليق