صلاح الدين الأيوبي, شخصية فريدة أحبها المسلمون جيلاً بعد جيل لسيرته العَطِرة وجهادِه في سبيل الله، ومسارعته في نصرة المسلمين وتحرير بلادهم من الأخطار الخارجية,
صلاح
الدين الأيوبي, شخصية فريدة أحبها المسلمون جيلاً بعد جيل لسيرته العَطِرة وجهادِه
في سبيل الله، ومسارعته في نصرة المسلمين وتحرير بلادهم من الأخطار الخارجية, لا
سيّما وهو محرر القدس سنة 583 هـ حيث ارتبط اسمه بتحرير هذه البقعة التي تعتبر من
أكثر الأماكن قدسية عند المسلمين ـ بعد الحرمين ـ ولعلّ الاحتلال الصهيوني الحالي
الذي يقبع تحته الأقصى جعل المسلمين دائمي الحنين إلى صلاح الدين وجهاد صلاح الدين
ودائمي الدراسة لسيرته وجهاده وتجربته.
ـ ولعل أكثر ما يثار عند الحديث عن شخصية صلاح الدين ؛
هو ذلك التساؤل الملحّ الموجع: لماذا لم يظهر صلاح الدين مرة أخرى في الأمة ؟!
إن
أبرز ما يحول دون ظهور مثل تلك الشخصية القيادية الفذة، هو بقاء القيادات الضعيفة
المتعددة المقيدة بقيم العصبية والجاه الفردي والمكانة الاجتماعية، والرغبة في
الهيمنة والتصرف في المقدرات العامة، تماما مثل الذي يحول دون رسوخ فكرة التضحية، وهو بقاء الأفراد والجماعات
مقيدين تجاه الحرص على المكاسب والمتع الدنيوية. فما من مطلب إصلاحي
عام إلا وكان يحول دون تحقيقه وجود فكرة مضادة أو قيمة مناهضة، تقيد عقول الأفراد
والجماعات، وتوجِّه سلوكهم وتشكل علاقاتهم مثل ما يفعل المال والجاه
في وقتنا الحاضر.
ـ فشخصية صلاح الدين بإنجازاتها الجهادية والإدارية
والسياسية شخصية فذة وضعتها هذه الإنجازات في قالب أسطوري عند أعدائه الصليبيين في
الغرب، ولعل رواية (الطلسم)
للأديب الانجليزي والتر سكوت تكشف كيف أصبح صلاح الدين أسطورة شعبية لدى
الأوروبيين. هذه
الشخصية جديرة بأن نضعها تحت المجهر لنتعرف أهم المعالم التربوية والتأسيسية في
حياتها الفذة ، وكيف أن التربية على المسئولية أثّرت في مسار حياته كلها.
الأصل والمولد:
_ ثمة اتفاق بين المؤرخين المسلمين والنصارى على ندرة المعلومات
الخاصة بصدر حياة صلاح الدين، خاصة تلك المتعلقة بمرحلة الطفولة حتى المراهقة،
ولكن ثمة اتفاق على عدة أمور نستطيع أن نضع بها المعالم الرئيسية لحياة صلاح الدين
الباكرة، من أبرزها:
_ أنَّه مِن الأكراد الهَكَّارِيَّة الروادية، وهذا
النسل من أشرف الأكراد.
_ أصل أسرته من بلدة دوين، وتقع في الجنوب الغربي من
بلاد أذربيجان.
_ هاجر والده نجم الدين أيوب مع الأسرة إلى بلدة تكريت، وقد عين مستحفظًا
فيها من قبل الأمير بهروز قائد شرطة بغداد ـ
_ اضطر الأخَوان نجم الدين أيوب، وأسد الدين شيركوه لمغادرة
تكريت إلى الموصل؛ بسبب مروءتهما في مساعدة عماد الدين زنكي ذات مرة، وتسهيل عبوره
نهر دِجلة وتقديم بعض المساعدات له حتى وصل الموصل؛ وقيل إن السبب قَتْل أسد الدين
شيركوه لأحد مماليك الأمير بهروز، لمحاولته الاعتداء على فتاة من بيت نجم الدين، فخرجا
إلى الموصل حيث يقيم زنكي. وربما كان الحادثان معًا قد وقعا، وقد أكرم زنكي مثوى الأخوين
عرفانًا بجميلهما، وفي الليلة التي غادر بها الأخوان تكريت وُلد لنجم الدين أيوب ابنُه
صلاح الدين.
الحركة في ربوع الشام:
_ حظي الأخَوان عند عماد
الدين زنكي، فكان شيركوه من أبرز قواده، كما كان يعتمد على نجم الدين أيوب في عقله
وحكمته، ولما فتح بعلبك سنة 532
هـ عهد بولايتها إلى نجم الدين، ولصلاح الدين سنتين.
_ في بَعْلَبَكّ قضى يوسف بن أيوب نشأته
حتى الفتوة، وحين
كان في الرابعة عشرة من العمر شهد وشارك في عمليات الدفاع عن البلد ومنطقته، في
المعارك مع الفرنج الذين كانوا يغزون السهول حول المدينة، ويخربون الزروع وينهبون، كما حضر سنة 544 هـ، وهو في هذه السن المبكرة
مفاوضاتِ أبيه – بعد
مقتل عماد الدين زنكي – لجيش
دمشق الذي جاء يسترد البلد منه،
ورأى من حكمة أبيه وجَلَده وصبره وحسن سياسته وحلمه، ما أثر على حياته وطريقه في
مواجهة الصعاب وحل المشكلات العويصة.
_ في سنة 547هـ أرسله أبوه كسفارة
إلى عمه أسد الدين شيركوه في حلب حتى يصلح ذات بينهما بسبب تسليم نجم الدين دمشق
إلى (معين
الدين أنر)،
وغضب نور الدين محمود من ذلك التسليم.
وقد نجح صلاح الدين ـ وكان في السادسة عشرة ـ في القيام بمهمته نجاحا لافتا، جذب
به انتباه نور الدين محمود نفسه، فأطلق عليه لقب " صلاح الدين " لإصلاحه الأمور بين
أبيه وعمه.
وقد تترجم نجاح سفارة صلاح الدين في استعادة أسد الدين شيركوه
مكانته لدى نور الدين، بعد أن اقتنع بوجاهة رأي نجم الدين بالبقاء في دمشق، فأضحى
شيركوه نائبه الدائم تقريبًا في حلب، في حين التحق صلاح الدين بنور الدين بعد أن
قدمه عمه إليه، وصار بعضًا من حاشيته بعد أن أقطعه إقطاعا حسنا.
تشكيل
وعي صلاح الدين:
_ كان الجانب الإيماني
والروحي في صلاح الدين أقوى وأشد بعداً وعمقاً من جانبه الثقافي، وهو الذي شكّل
وعيه السياسي والإداري والجهادي، ولهذا غطّى على التحدث عن ثقافته؛ كما غطّت حِطّين
على جوانب شخصيته؛ فليس يذكر إلا لصيقًا بها وبمجدها.
_ نشأ صلاح الدين كما
قلنا في بَعْلَبك حيث كان أول دروسه وتعليمه، وكانت عادة هذا الزمان أن الدروس على
نوعين: القراءة
والكتابة والقرآن الكريم، وشيء من الفقه والعلوم الإسلامية، وتاريخ الرسالة. ثم فنون الفروسية
والقِتال وركوب الخيل واستخدام السيف، والتمرس بفنون الحرب وألعابها. ولا شك أنه بلما كان
صلاح الدين ابن والي المدينة أخذ يلقى عناية ورعاية خاصة، وحين انتقل من بعلبك مع
أبيه إلى دمشق، ومنها إلى حلب، وصار في حاشية نور الدين، جلس إلى علمائها
المشهورين؛ كالشيخ قطب الدين النيسابوري، وتردَّد على دور العلم والشيوخ. كما تمرَّس بفنون
الفروسية وألعابها بحكم معاشرته وقربه من السلطان نور الدين؛ وبرع في لعبة
الجوكان (البولو) وكان يلعبها في مرج
دمشق مع نور الدين بعد فتحِها.
_ ولم
يكن من طموح صلاح الدين أن يكون
من طالبي العلم، ولكنه من أهل الإدارة والحروب، وهو ما جعله يسير في الدرب الصحيح
في حياته، وفي ظنه أن العلماء كثير، وأن طريق أبيه وعمه
في الحياة أنفع لعموم الأمة، وأنسب لفريضة الوقت ـ الجهاد ضد الصليبيين ـ وكان
يغذي مخزونه الديني ويزيده أبعادًا روحية بأمرين:
_ سماع
القرآن الكريم، حيث كان مداوماً على سماعه، حتى إنه كان يستشير
إمامه ويشترط أن يكون عالمًا بعلوم القرآن العظيم، متقنا لحفظه، وكان يستقرئ في
مجلسه العام، وإذا سَمِعَ القرآن يخشع قلبه، وتدمع عينه في معظم أوقاته.
_ سماع
الحديث، فمتى سمع عن شيخ معروف طلبه للسماع منه أو ذهب
إليه بنفسه، وكان
يأمر الناس بِالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له. وقد تردد مرارا إلى
الحافظِ أبي الطاهر السِّلَفِي المحدِّث المشهور المتوفى سنة 576هـ بالإسكندرية وروى عنه أحاديث
كثيرة، وكان يحبّ
أن يقرأ الحديث بنفسه.
_ عاش صلاح الدين القسم
الأول من عمره، حتى السادسة والعشرين، ليس له شغل إلا الدراسة والتعلم والسماع من
المشايخ والتدرب على فنون الفروسية والقتال، أما عمله الرسمي فكان يوافق هذه
التربية، فقد عمل سفيراً بين دمشق وحلب، فاكتسب خبرة عملية كبيرة من العمل مع
عظماء الزمان وأبطاله في أرض الرباط والنزال وقتها، الشام.
_ أما القسم الثاني من
العمر فقد قضاه صلاح الدين في منتهى الإرهاق والعمل المتصل، والتفكير بأمور
السياسة، والجهاد، وحفظ الثغور، ومكافحة الصليبيين، واستئصال الدولة الفاطمية
الخبيثة والفرق التابعة لها في مصر والشام، وإدارة دولة متسعة. قال ابن الأثير عنه: "كان كريمًا،
حليمًا، حسن الأخلاق، متواضعًا، صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه،
يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه".
_ هذه الصفات الخُلقيَّة لا تتوفر إلا فيمن أضحتْ نفسُه كالبحر، أوسع بكثير من أن تعكره السواقي، وقد استغرقت الأحلام الكبيرة كل ذاته، فهو في شغل بها كنسور القمم عن بُغاث الطير، ولا شك أن هذا الاستغراق الفكري الروحي، هو الذي كان يُنسِيه آلامه الجسدية، والأهوال التي لاقاها في حياته العامرة بالجهاد والإصلاح وتوحيد الأمة. فرحم اللهُ صلاحَ الدين رحمه واسعة وجزاه خير الجزاء على ما قدم للأمة من عطاءات وفتوحات وإنجازات وإصلاحات.
إضافة تعليق