فقد كان السؤال الرئيسي عن كيف «نُربي» المترفين، لكن قفز إلى رأسي سؤال يعارضه، وهو المترفون في حاجة إلى تربية أم معالجة؟ لنرى ..
الحمد لله، وبعد.
فقد كان السؤال الرئيسي عن كيف «نُربي» المترفين، لكن قفز إلى رأسي سؤال يعارضه، وهو المترفون في حاجة إلى تربية أم معالجة؟ لنرى ..
لقد جاء مصطلح المترفين في النص القرآني تعبيرًا عن صورة نفسية شديدة التلف مما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، نفسيةُ المتخندّق دائمًا في جانب الملأ الفاسدين الذين أطغتهم الدنيا, وغرتهم الأموال واستكبروا علي الحق فقادوا الحملة المضادة لدعوة الرُّسل وأتباعهم. فالمترف بهذا التصور هو: ألهته دنياه, وعمل لها, وتنعّم وتمتع بها، فألهاه الأمل عن إحسان العمل، وهذا هو الترف الذي ذمهم الله عليه ([2]).
والمقصود هنا من المعالجة، هو إدراك الأبناء وتحصينهم ضد هذا المرض الخبيث، فالترف ليس نوعا مجتمعيا سويا يمكن التعامل معه بالتربية والتوجيه، وإنما هو مرض ينبغي العمل على الوقاية منه ابتداء، أو اكتشافه مبكرًا حتى يتم معالجته وتوفير سبل الحماية منه، وكما يقول علماء الأصول: والدَّفع أقوى من الرَّفع.
فلا ينبغي أن يترك الابن حتى يتمكن المرض منه ثم يُبحَث له عن دواء، بعدما يكون المرض قد انتشر وحطم جهازه المناعي وأفسد حصونه الفطرية، وتقل حينها فرص النجاة، في الدنيا والآخرة!.
نعم؛ خطورة الأمر هنا ليس في كونه خبيثا إذ يقضي على حياة الابن الدنيوية فقط كمرض عضوي خبيث، فقد يكون هذا أهون بكثير من «التَّرف» الذي يقضي على حياة الابن لعنصر صالح في المجتمع ثم يؤول حاله إلى مُفسِد كبير يبحث في ترفه وبيئته عما يعصمه من عذاب الله فلا ينبه إلا وهو من المغرقين- نسأل الله العافية والسلامة.
وهنا قد يحمد بعض الآباء والمربين حالهم ويقولوا، لسنا بهذا الثراء الذي يصل إلى التَّرف، فنحن في مأمن إذًا، أليس كذلك؟
أقول: للأسف لا، لستم في مأمن! وإن كان قلة ذات اليد قد تؤخر ظهور المرض، الظهور فقط لا الإصابة .. كيف؟
النفسية المترفة تكون قابعة في داخل الإنسان الذي لم يهذبه الدِّين، وحالت تربيته وبيئته بين وبين التحسينات التي يدخلها التديُّن على نفسيته، فيظل الترف متواريا مستترا حتى يجد البيئة الصالحة التي يظهر فيها، فإذا جاءت الفرصة ظهرت تلك النفسية بصورتها الشرسة التي لم تكن تستطيع إظهارها قبل ذلك لانعدام البيئة.
خذ مثالًا: ابنٌ لم ينل تربية «سوية»، وأعني هنا بغير السوية، كل أنواع التربية السلبية حتى تلك التي تكون في مظهرها «تربية دينية»، إلا أنها ليست على أسس سليمة، لم يتم تحصين نفسه ولا اختبارها، وقد حالت ظروفه المادية عن ظهور تلك النفسية، فتراه يفكر ويعزم في نفسه على أمور قد تظهر في هيئة «طموح» ونحوه !.
حتى يشب عن الطوق، وتخف القيود الآبائية أو تتلاشى، وتأتيه الدنيا في إحدى مراحل حياته فإذا هو يلتهمها وينغمس فيها بكل قوته ويعتبرها فرصته التي تأخرت كثيرًا ولا يمكن تضييعها الآن فتخرج تلك «النفسية الـمُترفة» إلى حيز الظهور..، فإن تدارك - برحمة الله- ما بقي من نفسه، وإلّا انتقل إلى مرحلة «النفسية الملئية»، والتي عندها يبدأ العمل ضمن فريق الإفساد المعادي لدعوات الأنبياء والرسل والمصلحين، هذا كله والمثال عن قليل أو محدود الثراء والترف، وإلا فالبيئة المرفهة تساعد أكثر عن تنشيط هذه النفسية أكثر من غيرها.
وعلى كل حال، فالمجال هنا لا يتسع للتوصيف أكثر من ذلك، ونستثمر ما بقي من نصاب الكلمات للحديث عن العلاج والكشف المبكر للمرض.
يقع الدور الأكبر في الكشف عن السمات الشخصية والنفسية للأبناء على الآباء والبيت بشكل أساسي من خلال ملاحظة التصرفات والقرارات التي تصدر عن الابن في مراحل عمره، وفي التربية السوية يسمح الأبوين للأبناء باتخاذ القرارات والبت في بعض الشؤون الخاصة بهم كنوع من التربية والتدريب على اتخاذ القرار وتحمّل مسئوليته.
وفي البيئة السوية للتربية أيضًا يتم رصد تلك القرارات والتصرفات للأبناء وتحليلها، ومن ثم إمدادهم بما يحتاجون لتهذيب نفسيتهم وتقوية مهاراتهم ومواهبهم من خلال الوسائل التربوية التي تناسب أعمارهم.
ويقع تطوير هذا الرَّصد بشكل أوسع على المخيمات التربوية التي تقام خصيصًا لهذا، إذ يتم محاكاة مجتمع صغير، يسمح للأبناء فيه بممارسة صلاحيات أكبر، في مهام إدارية وتنظيمية وإعاشية، حيث التدبير لشؤون المخيم والإعاشة وتطبيق النظام على الأفراد في المخيم، ويتم منح عدة سُلُطات للأبناء يمارسونها على بعضهم بحُريّة تامة في المخيم بغرض اختبار نفسية الأبناء في مجتمع أكبر من مجتمع الأسرة الصغيرة، وهنا ستكتشف أمور كثيرة كأنك يتعرف المربي على الأبناء ويظهر من سماتهم أمور ربما يتعرف عليها الآباء أنفسهم لأول مرة.
ستكتشف مهارات وسمات نفسية طيبة جدًّا في حاجة إلى التنمية كما ستتعرف على الثغرات النفسية التي يمكن أن يتسلل المرض منها فيبادر المربي بعلاجها مبكرًا، وهذا هو العنوان العريض الذي يمكننا أن نجعله أساس مرحلة الكشف: الاختبار المستمر والرصد والتحليل والإمداد بالتحصينات اللازمة.
أمّا مرحلة المعالجة المبدئية للنفسية المترفة فيُضاف إليها إجراء آخر، وهو ما يمكن أن نسميه «المعالجة بالاستخدام»!.
كيف؟
النفس البشرية تميل عادة للدعة والراحة والتمتع بالشهوات المبذولة كما ذكر الله تعالى أصولها في سورة آل عمران من حُب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، بصورها المطورة في واقعنا المعاصر من وسائل التواصل وأدوات الزينة والسيارات وسائر الملذات.
والنفس المترفة المتنعمة هي نفس أصابها الغلو والإفراط في الأخذ من هذه الشهوات والملذات، وعلاجها يبدأ بإشغال النَّفس عنها وصرفها عن الإخلاد إليها والتقيد بقيودها، ولك أن تعتبر مثلًا بالعزلة المجتمعية التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم على كعب بن مالك رضي الله عنه لما حملته نفسه عن التَّخلُّف عن النفير والجهاد، وكيف انصب العلاج بشدته على النفس وتهذيبها وانحياش المجتمع عنه، ثم اشتد حتى طال الانعزال عن زوجته، في استخدامٍ كاملٍ لطاقة النفس والتخلي عن أحب الملاذ وأشهاها لها ([3]).
وتأمل مثلًا في استخدام مصعب بن عمير رضي الله عنه في الهجرة الأولى حيث البلاد الغريبة، ثم عودته وإرساله سفيرًا للمدينة في هذا الجو المشحون بالصراعات والخلافات ليُعلم المسلمين الجدد وينشر دعوة التوحيد في ظل مجتمع جديد تماما وغريب عنه.
والحاصل أن هذا الاستخدام يُعامل النفس المترفة بنقيض قصدها ويبعث فيها روح النشاط والعمل الذي بدوره يغير البيئة بأكملها فيمنع المرض من الانتشار، وكلما كان النشاط «أخْلَص» لله تعالى، وأصوَب في الطريقة والاتباع كان الانحسار أسرع والتعافي أتم بفضل من الله تعالى.
وختامًا، أحب أن أؤكد على أمر أساسي؛ وهو أن الترف مع خطورته كلها هو أثر من آثار البعد عن الدِّين، وإهمال التديُّن السليم، وإهدار التربية السوية، وكل مناقشة للموضوع بعيدًا عن هذا الأصل هو لأعراض ظاهرية بينما أصل المرض يدمر داخل الإنسان، فالمناقشة التي تَدّعي أن المال والثراء والنعمة هو أصل المشكلة هي مناقشة لموضوعات طفيلية وجريمة قتل بطيء، وهو كمن يأتي إليه إنسان مذبوح يقطر الدم من أعضائه وهو يصر على البدء بعملية تقويم الأسنان! هذه هي الحقيقة، نحتاج أولًا لتربية الإنسان والحفاظ عليه بصورته التي خلقه الله عليها تمهيدًا للقيام بدوره في خلافة الأرض وإعمارها بمنهج الله تعالى، إنسان يُفكِّر بسَويّة، ويُعبّر بحُريّة، نربيه ببذل الحب وتبصيره بالعواقب.
والحمد لله أولا وآخرا .
([2]) تفسير السعدي (ص:834)، تفسير سورة الواقعة. آية 45.
([3]) ينظر للاستزادة : «كعب بن مالك في ظلال التربية النبوية»، للكاتب.
إضافة تعليق