عملية التربية تتكوَّن من مثلَّث أضلاعه: المربِّي والمراهق ومنهج التربية الذي يحتوي على القيم التي نريد تربية المراهق عليها ليصير ذا شخصية سويَّة، مستعليًا بإيمانه على مظاهر الجاهلية..
صار من المسلَّمات في العصر الحديث أن مجرَّد ذكر كلمة "المراهقة"
يعني أزمةً ومشكلة، وأن لفظ "المراهق" يعني الطيش والانحراف، وكأنهم
أهل سوء وشر!
وإن كان ذلك له وجه في المجتمعات المختلفة، فإنه لا يصحُّ البتَّةَ
في المجتمعات الإسلامية؛ إذ إن هؤلاء "المراهقين" كان لهم دور بارز في تاريخ
الإسلام؛ في العبادة والجهاد والدعوة والعلم ورفع راية الإسلام، ولم يكن ثمَّةَ
مشكلاتٌ خاصة منهم؛ بل بزُّوا في كل ميدان، ونصروا الدين والعقيدة؛ كمصعب بن عمير،
أول سفير في الاسلام، والمجاهدين الذين قادوا الجيوش وخاضوا المعارك؛ كأسامة بن
زيد، رضي الله عنهم أجمعين، وما كان ذلك إلا لترعرعهم تحت ظلال الإسلام، وهكذا ترى
شباب وفتيان هذه السنِّ حتى يومنا هذا ممن ترعرعوا تحت راية الإسلام.
كيف نبني الشخصية السَّوية
للمراهق؟
عملية التربية تتكوَّن من مثلَّث أضلاعه: المربِّي والمراهق ومنهج
التربية الذي يحتوي على القيم التي نريد تربية المراهق عليها ليصير ذا شخصية سويَّة،
مستعليًا بإيمانه على مظاهر الجاهلية، وهاك التفصيل:
المنهج:
- لا شكَّ أن أكبر مشكلة في تربية المراهق أنك تربِّيه في مجتمَع تسيطر عليه نفسية العبيد والاستبداد
والوصاية بطريقة هرمية، من رأس المجتمع إلى أخمص قدميه، في كافة طوائف المجتمع،
الصالحة والفاسدة، فيبدو المراهقُ في أسفل هرم الاستبداد والاستعباد والوصاية
هزيلَ القيمة والكرامة والقدْر، فيترعرع تحت ظلِّ هذا المجتمَع خانعًا خاضعًا، غير
مسموح له بالتمرُّد على المجتمع إلا في الأمور السيئة الفاسدة التي تنتشر في
المجتمع، وهذا يمكن أن يُتغاضى عنه من المجتمع، أما التفرُّد وإظهار الهُوِيَّة
والاستعلاء على مظاهر الجاهلية، فهذا ما لا تقبله المجتمعات إلا راغمة؛ بسبب أنها
لم تستطع إخضاعه ومواجهة استعلائه بإيمانه وإظهاره لاعتقاداته، بدايةً من الإرهاب
الفكريِّ حتى الإرهاب النفسيِّ والبدنيِّ، والعقاب الظاهر والخفيِّ المستتِر.
ومن ثمَّ فإن مواجهة ومجابهة ومطاولة المبطلين في هذا المجتمع تحتاج
إلى تربية أجيال قوية مؤمنة ترتوي من ينابيع الإسلام، وتستنير بنوره، وتستقيم على
طريق الهدى، مستعلية على الباطل، غير عابئة بإرهابه، وذلك يكون من خلال التربية على ما يلي:
العقيدة:
إن
العقيدة هي العامل الأساسُ الذي يُبنى عليه، وليس المقصودُ حفظَ الكتب والمتون فقط؛
بل أن تصير مستقرَّةً في القلب والعقل والوِجدان؛ فكم ممن رأيناهم
يحفظون بل يصنِّفون في الولاء والبراء، ولا تجدهم يوالون إلا أعداء الإسلام يبرُّونهم
وينصرونهم في كل موقف، ولا يعادون إلا أهل الإسلام، يظاهرون عليهم دون أن تطرف لهم
عين! فإذا تربَّى الشاب على العقيدة السليمة، صار الإسلام محرِّكه في كل شؤونه،
يستعلي به على كل ما يضاده، مؤمنًا بدينه، معتزًّا بشرائعه، غير عابئ بتجبُّر
الباطل واختياله في صورة المنتصر.
الاستجابة لله ورسوله:
وهذا
من المفاهيم التي لابد أن تقرَّ في قلبه؛ ليُفيدَ منها، فيعظِّمَ كل أوامر الشرع
مهما كانت، ولا يجدَ حرجًا من العمل بها وإظهارها والاعتزاز بها، ويستطيعَ مجابهة
من جعلوا الدين مجرَّد أمور ظاهرية تناسب أهواء البشر وأذواقهم، وكأنها نوع من
التسلية والترفيه و"تغيير الجوِّ"، بتديُّن رَخْوٍ عبارة عن مظاهر
فارغة، تُجِلُّ مظاهر الجاهلية، ولا تعتزُّ من الإسلام إلا بما تستطيع توفيقه مع
الجاهلية!
فإن الله
أنزل دينه للناس ليهديهم إلى طريق صلاحهم، ومكارم أخلاقهم؛ ليعمروا الأرض من خلال
الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، بالمجاهدة والبذل والتضحية.
تحديد الهدف من الحياة:
لابد
أن يُزرع في قلب الشاب الهدفُ الأساس الذي يوصله إلى غايته "رضا الله
تعالى"، وذلك الهدف هو "ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله, ومن ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور
الأديان إلى عدل الإسلام"، ومن ثَمَّ فكلُّ مَن يمكِن أن يغترَّ بهم الشاب سيَنظر
إليهم على أنه مسؤول عن هدايتهم بدرجة ما، بالدعوة أو بكفِّ الظالم عن ظلمه
وطغيانه، فلا يُفتن بأيِّ مظهر من مظاهر الجاهلية أو أهلها مهما عَلَوْا في الظاهر.
فَهم الواقع:
وهذا من أهم العوامل لتربية هذا الجيل؛ ففَهم
الواقع يجعلهم يعلمون كُنْهَ الأمراض التي أصابت الأمة، فيَصِلون إلى الترياق الذي
يخلِّصها من السموم التي تملأ كِيانها، فيعلمون العدوَّ من الصديق، والمحب من
المنافق.
ثانيًا: تطبيق المنهج
بين المربِّي والمراهق:
لبناء شخصية سويَّة للمراهق أساليبُ وقواعدُ وطُرقٌ ينبغي العمل بها
من خلال المربي، وفي مقالنا هذا نخصِّص الحديث للمربِّي في المسجد، ونذكر أهم هذه
القواعد والطرق والأساليب في نقاط كالتالي:
- أهم قاعدة أن يكون المربِّي قدوةً، فالمراهق وإن كان يسعى إلى التفرُّد
والاستقلالية، فإنه دائب البحث عن القدوة، وما لم يتحلَّ المربِّي بالقيم التي
يبثُّها في المراهق، فلن يكون لها أثر يُذكَر، فعلى المربِّي المخلِص أن يكون نموذجًا صالحًا،
تبدو منه الصفات الحسنة التي يريد تنميتَها في أولئك الشباب؛ كالشجاعة والاستعلاء
بالإيمان والترفُّع على الجاهلية والصدع بالحق، وأن يتحاشى وينكر طريقة جُلِّ
المربِّين والدعاة الآن، الذين لن تجدهم إلا في الساحات الهادئة المريحة والآمنة،
أما المواقف التي تحتاج إلى تضحية وجرأة وشجاعة ومجابهة الباطل وما فيه من جاهلية،
فلن ترى إلا من وفَّقه الله، وهو نادر الوجود الآن.
-
العلاقة بين المربِّي والمراهق هي العامل الأساس في عملية التربية؛ فلابد من دراسة نفسيته، والقرب منه،
ومعرفة مفاتيح شخصيته، وإشعاره بمراعاة وتفهم مشاعره وأحاسيسه، ويستطيع المربي بحسن العلاقة وقوَّتها أن يستثمر هذه المرحلة إيجابيًّا،
فيستطيع توظيف وتوجيه طاقات المراهق لصالحه ولصالح مجتمعه وأمته.
-
توجيهه لاكتساب الخبرات بكل السبل الممكنة من قراءة كتب مختارة، وحكاية تجارب توضِّح
مفهوم الاستعلاء الإيمانيِّ والجرأة والصدع بالحق والشجاعة، والفرق بينها وبين
التهوُّر، وأنها ليست ادِّعاء؛ بل إنها تواجَه بصعوبات شديدة المراس، وأنها بحاجة
دائمة إلى العقل والاستعانة بالله والتوكُّل عليه.
- الاستغلال الأمثل لما يميِّز هذه المرحلةَ؛ من الثورة الداخلية، وعلوِّ الهمَّة في طلب الكمال،
وقوَّة العزيمة في تحقيق ما يريده، والتأثُّر بالواقع والأحداث التي يراها، فيلجئه
ذلك إلى التفكير الدائب في تغيير الواقع الذي يحياه، ويحياه مجتمعه وأمَّته، وإن
كان تفكيره غالبًا في التغيير السريع أو الراديكالي؛ ولكنه يتأثَّر بالقدوة
والمربِّي الذي يستطيع تغيير نهجه في التفكير.
- ثمةَ
خصائصُ لهذه المرحلة تحتاج إلى تنميتها في الخير وإلا صارت سلبيَّة تؤدِّي إلى
الشر؛ مثل: الحماس، والإقدام، ونصرة ما يراه الشاب حقًّا – مهما كان - دون خوف أو
وجل أو تردُّد، واستعداده للتضحية في سبيل ذلك.
- إن للشباب "المراهقين" طاقةً واستعدادًا كبيرًا للعمل والانطلاق والإنجاز، يستطيع المربِّي أن يوجِّهه إلى تنمية مهاراته، وتوجيه هذه الطاقة إلى طريق الاستقامة والصلاح وسدِّ الثقوب التي تملأ ثوب الأمة، بإظهار الثقة فيه، وإعطائه الاستقلالية في التفكير وحرية الرأي التي تتطلبها تنمية التفكير الإبداعيِّ والناقد، وإشعاره أنه قد بلغ مبلغ الرجال، وصار يُعتمَد عليه، وتدريبه على مواجهة التحدِّيات، ويستطيع تحمُّل المسؤوليات التي تتناسب مع قدراته وخبراته، وملء وقت فراغه بما ينفعه؛ ممَّا يشعره بأهميته، ويفجِّر طاقاتِه ومواهبَه، فينفع أسرته ومجتمعه وأمَّته.
للشباب "المراهقين" طاقةً واستعدادًا كبيرًا للعمل والانطلاق والإنجاز، يستطيع المربِّي أن يوجِّهه إلى تنمية مهاراته.
- أشدُّ مرحلة يكره فيها الإنسان النصائح المباشِرة هي مرحلة المراهقة،
لا يقبل من أيِّ شخصٍ إذا تعامَل معه بأسلوب فيه أمرٌ ونَهي وفرْض، وينبغي عدم نُصحه
وتوجيهه أمام الآخرين، خاصة إذا كان بذِكر عيوبه وأخطائه؛ فلا بدَّ من الحوار معه بودٍّ.
- على المربِّي مشاركته اهتماماته وهواياته وأنشطته، وتشجيعه على بناء
عقله وجسده وثقافته بالقراءة المفيدة والاطِّلاع والرياضة، وتوجيهه ليكون عاملاً
إيجابيًّا في الأنشطة الاجتماعية والشبابية والأندية، فيُظهر قيمه الإيجابية في
المجتمع، فيؤثِّر في المحيطين به ولا يتأثَّر بالقيم السلبية.
- استغلال نزعة حب الاستطلاع والاستفسار لديه في تنمية قدرته على البحث
وتزويده بالعلوم المختلفة والمعلومات والحقائق؛ ما يوصله إلى العقيدة الراسخة
والإيمان، الذي يحميه مما يمكن أن يثار في نفسه من شكوك وأفكار غريبة كطبيعة هذه
المرحلة.
- إعطاؤه الحرية واستقلالية الرأي يساعده على النضوج العقلي ولغة
الحوار والتفاهم، ومن ثم إثبات ذاته.
- على المربِّي تحديد منهج علميٍّ واضح ومتدرج في شتى مجالات
المعرفة؛ ففي دراسة العقيدة مثلاً يبدأ بالكتب السهلة التي تجعله يفهم عقيدته وتقرُّ
في قلبه، ويتدرَّج فيها، مع ربطها بدروس علمية وكتب تزيد إيمانه بمعرفة الله
وعظمته وأسمائه وصفاته، مثل كتب الرقائق والسيرة، دراسة عملية تزيد إيمانه، فيَفقَه
ويتأثَّر بما يَدرُس، إلى أن يصير مؤثِّرًا.
-وأخيرًا لابدَّ من مساعدته على تحديد أهدافه الدينية والعلمية
والدنيوية، وطموحاته المستقبلية، وكيفية تحقيقها بتخطيط على خُطوات.
وهذه رؤوس أقلام وإشارات تختلف طريقة تطبيقها حسب البيئة والمجتمع،
وهذا دور المربِّي.
إضافة تعليق