عقل المراهق فيه جزء أساسي لم يكتمل بعد: المركز المسؤول عن التحكم في التصرفات؛ فالمراهق لديه المعلومة: هذا صواب وهذا خطأ وهذا خطر. ولكنه لا يملك بعد القدرة الكاملة على ضبط سلوكه وفقًا لما لديه من معلومات..
تعد قضية التربية الفكرية للمراهق من أكثر القضايا
الشائكة، في ظل تلاحق الشبهات الفكرية والأفكار المنحرفة التي صارت تتبدل وتتكاثر
بشكل يصعب حتى ملاحقتها للحصر والاطلاع فضلاً عن الرد والمناظرة والتفنيد. وبهذا
يصير من المستحيل تقريبًا أن يسعى المربي لإبعاد المراهق الشاب عن الأفخاخ الفكرية
التي تواجهه، ويظل الأمل أن تتم توعيته وتمتين فكره مبكرًا بحيث يكون قادرًا ذاتيًا
على مقاومة تلك الأفكار المنحرفة وغيرها، وأن يصبح عند المراهق مناعة فكرية ذاتية
تحوله من فريسة لتلك الأفكار إلى مقاوم لها ومنافح ضدها عند عرضها عليها.
لكي تتم التربية الفكرية أو التحصين الفكري
للمراهق، يجب أولاً أن يدرك المربي الحالة النفسية والعقلية الخاصة للمراهق،
فمرحلة المراهقة من المراحل المربكة للمربي عادة في التعامل مع الناشئ الذي ودع
الطفولة ولكنه لم يتأهل بعد ليكون كامل الأهلية تام النضج. فالمراهق شكليًا لم يعد
طفلاً، وعقليًا بدأت تظهر عليه ملامح الفهم العميق وإدراك بواطن الأمور، ولكن ما
يربك المربي عادة هو أنه لا يزال سلوكيًا يتصرف بطرق تنم عن قلة العقل والطيش
والنزق.
المراهق يمكنه جيدًا أن يعرف الصواب من
الخطأ، ولو سألته بينك وبينه لأخبرك عن عواقب أي تصرف برؤية ثاقبة لا تفترق كثيرًا
عن بصيرة الكبار، بل قد تفوقها أحيانًا. ولكن العلم الحديث قد أنبأنا أن عقل
المراهق فيه جزء أساسي لم يكتمل بعد: المركز المسؤول عن التحكم في التصرفات؛
فالمراهق لديه المعلومة: هذا صواب وهذا خطأ وهذا خطر. ولكنه لا يملك بعد القدرة
الكاملة على ضبط سلوكه وفقًا لما لديه من معلومات، فيتصرف أولاً ثم يفكر لاحقًا،
كما يميل إلى تحكيم عواطفه وما يحبه بدلاً من تحكيم ما يراه صوابًا أو خطأً أخلاقيًا.
يشبه الأمر كما لو أن سائقًا ماهرًا يقود سيارة جديدة ولكن دون مكابح إيقاف،
فالتحكم بها يكون متروكًا للطريق والعقبات أمامه، وهو بالكاد يمكنه تحريك المسار
يمنة ويسرة.
كما أن تلك المرحلة تمتاز أيضًا بالاعتمادية
الكبيرة على قبول الأقران والزملاء والتمرد على اختيارات المربي، والرغبة في إثبات
النفس بالرفض والبحث عن المختلف عن المألوف، وكل هذا مرجعه إلى التغيرات الجسمانية
والهرمونية الكبيرة التي يمر بها المراهق، والتي تجعله يشعر أنه صار كبيرًا ويريد
أن يمارس حقه في تسيير حياته، ولكنه في ذات الوقت لم ينضج ليمكنه أن يختار تسيير
حياته في الاتجاهات البناءة بعيدًا عن تمضية الوقت المرح مع الرفاق.
يبدأ هنا الصراع بين المربي والمراهق، والذي
غالبًا ما يحتوي على الكثير من الجدل والعناد لاختلاف الرؤية والقيم بينهما، فمثلاً
المربي يرى أن التعلم أقيم من اللعب مع الأقران، بينما المراهق يرى أنه لا يريد أن
يشعر بالملل، وأن قيمة علاقته برفاقه أكبر بكثير من فائدة لن تظهر قيمتها إلا بعد
سنوات طويلة.
ونظرًا لتطور قدرة المراهق على التفكير
المجرد وإضفاء المنطق على حججه، وزيادة حصيلته اللغوية والكلامية، فإن المربي يجد
نفسه أحيانًا مذهولاً من كل هذا الجدل والحجج الغريبة التي يسوقها المراهق من أجل
الوصول لما يريد. وقد يسقط المربي في فخ التربية القهرية، ظنًّا منه أنه بذلك
يتعامل بحزم ولا يدلل المراهق، بينما هو في الحقيقة لا يصنع إلا فجوة بينه وبين
المراهق تزيد من حدة الخلاف من جهة، وتقلل من ثقة المراهق به ورغبته في النقاش معه
والإفضاء له بما في نفسه من أفكار أو مشكلات.
حين نضع كل هذه العوامل في الاعتبار عندما نسعى
لتربية المراهق فكريًا، فإننا نجد أن أهم ما يمكن به بناء المراهق فكريًا هو هذه
الممارسات الآتية:
1- بناء الثقة:
يجب أن يثق بك المراهق، ويعرف أن بوسعه أن
يكلمك أو يفضي إليك بما يدور في ذهنه دون أن تشيعه عنه أو تعاقبه عليه. كن دومًا
واسع الصدر جاهزًا لسماع أي موضوع. قد يأتيك المراهق مثلاً بفكرة شائكة أو شبهة
مستعصية، فلا يكن رد فعلك أن تنصب بالهجوم عليها بعنف وعلى من يصدقها (غالبًا لن
يقول لك: إنه صاحبها أو يميل لها، بل سيكلمك عن صديق وهمي قالها له ليرى رد فعلك
أولاً).
اجعل ردودك متزنة دائمًا ومباشرة، واعتمد
على المنطق المجرد أولاً وعلى العلم والأدلة ثانيًا. فهذه الأمور يتقبلها المراهق
أكثر بكثيرًا من الكلام الحماسي الغاضب. فكر قبل أن تتكلم واسأل نفسك: هل يمكن أن
يؤدي كلامي إلى ندم المراهق على سؤالي ومصارحتي؟!
2- عرض المناظرات:
كما قلنا: لقد تطور المراهق في قدرته على
الجدال والنقاش، ولديه الآن قدرة كلامية ومنطقية عالية. يمكنك أن تحول هذا إلى
سلاح تعتمد عليه في التربية الفكرية. انقل إلى المراهق المناظرات الفكرية التي تبيّن
الحق بالحجة والمنطق، واحكِ له عن مشاهير المناظرين في الإسلام، الذين أظهروا الحق
ببراعة ودون التفاف وكلام طويل، بل قاموا بوضع الأفخاخ لمن يريد أن يسقطهم في
الخطأ. يمكنك الرجوع مثلاً إلى أجوبة إياس بن معاوية علي شبهات بعض اليهود وغيرهم،
ومن المعاصرين يمكنك الرجوع إلى مناظرات قامات مثل الشيخ أحمد ديدات أو الدكتور ذاكر
نايك أو غيرهما من المناظرين المفحمين.
انتقِ من المناظرات ما لا يكون طويلاً أو
معقدًا، بحيث أولاً ترد على الشبهة التي هي موضوع المناظرة من جهة، وأيضا تدرب
المراهق على كيفية الدفاع عن الحق ومناقشة الحجج الباطلة من جهة أخرى، وهذه هي
الأهم.
3- مطالعة سير العظماء:
كما أسلفنا فإن المراهق يكون شديد التأثر
بالرسائل العاطفية، كما أنه يتطلع للقيم المثلى والكفاح الذي يثبت النفس. ولهذا من
المفيد جدًا أن نستعرض مع الطفل السير العطرة للأشخاص الذين مروا بالصعاب وضحوا من
أجل القيم العليا السامية. يمكن الآن عرض تلك السير بطرق أكثر عمقًا وتبيين أنواع
المخاطر والأزمات التي مرّ بها الشخص، وكيف تغلب عليها وقاوم من أجل فكرته
ومبادئه. كما يمكنك أن تعرض له العوامل المعقدة المختلفة التي تحكم بيئة هذا الشخص
(عوامل اجتماعية، سياسية، اقتصادية)، وكيف أثرت على رحلته وما أضافته من عقبات أو
يسّرت له من مقومات.
4- النقاش:
يمكن للمربي أن يستفز هو عقل المراهق ويبدأ
في طرح بعض المواضيع الشائكة أو المغالطات الفكرية ثم يسأل المراهق: كيف تجيب عن
كذا؟ قد يفيد أيضًا أن تطرح عليه السؤال في شكل تحدٍ له أو حتى لك شخصيًا: طرح عليّ
شخص هذا السؤال، فكيف أجيبه؟ ما رأيك؟ ثم استمع للمراهق وتدرج معه في نقاش الفكرة
من جوانب مختلفة.
هذا التدريب العملي يعطي المراهق ثقة في
قدرته على التعامل مع أصحاب المغالطات والشبهات؛ فهو لن يفاجأ إذا طرح عليه أمر
وطلب منه شخص أن يرد عليه، فقد سبق له مرارًا أن أجاب على أفكار ومغالطات مع
المربي.
5- المنطق والمغالطات:
كذلك مما ينمي المناعة الفكرية عند المراهق،
أن يبين له المربي كيف يكون منطقه محكمًا، وكيف تكون حجته مرتبة بشكل سليم،
ومعتمدة على الأدلة والعلم. وفي المقابل يجب أن يلفت نظر المراهق إلى المغالطات
المنطقية التي يقوم أصحاب الشبهات بالتخفي خلفها، مثل: التعميم المبالغ فيه (كل الناس
تعرف كذا وكذا أو تقول كذا وكذا)، التطرف إلى الجهة القصوى (إما أن يكون الشخص
متفوقًا في كل شيء أو هو فاشل تمامًا)، حصر الخيارات (إما عداوة أو محبة ولا يوجد
خيار آخر)، مهاجمة الشخص وليس الحجة (فلان صاحب الكتاب فيه كذا وكذا وبالتالي
فكتابه خطأ بالكامل)، هذه المغالطات المنطقية وغيرها تكون دائمًا هي الباب الذي
يتسلل منه أصحاب الحجج المريبة إلى عقول الأبناء وأفكارهم.
وأخيرًا فقد استعرضنا في عجالة ضرورة وأهمية
التربية الفكرية للمراهق وسقنا بعض الطرق التي يمكن أن يتم من خلالها بناؤه فكريًا
وتحصينه من الشبهات والأفكار المغلوطة، وتقوية قدرته على التفكير والتحليل، وبقي
أن نقول: إن التربية الفكرية لا تحدث في يوم وليلة، بل هي جهد متواصل يُبنى بعضه
على بعض، ويجب ألا يغفل المربون أهمية العمل عليه بسياسة النفس الطويل والمثابرة،
فالنتيجة بعد العناء تستحق حين ترى من قمت بتربيته فكريًا ينهض بفكره وعقله ويدافع
عن مبادئه في وجه التيار الجارف.
إضافة تعليق