علي ابراهيم
أسهمت مدينة القدس في الحركة العلمية في العصور الإسلامية المتلاحقة، ونتيجةً لأهميتها الدينيّة ففيها ثالث المساجد التي لا تُشدّ الرحال إلا إليها. تحولت المدينة إلى واحدة من مراكز الحضارة الإسلامية، وكانت محطة مهمة في الخريطة الثقافية العربية والإسلامية في التاريخ الإسلامي، وشهدت المدينة تفاعلاً علمياً ومعرفياً غزيراً، اتسق مع أهمية المدينة الدينيّة، وتراث التشوق القرآني والنبوي إليها، فهي أرض الأنبياء، وميدان البركة والفضيلة، وفي مسجدها الأقصى كانت إمامة النبي -عليه الصلاة والسلام- للأنبياء، إضافةً إلى كونها قلب بلاد الشام، ما جعل الرحلة إليها والمكوث فيها، جزءاً من الرحلات العلمية التي كانت أبرز مظاهر طلب العلم في العصور الإسلامية المتلاحقة.
ومنذ العصر الإسلاميّ الأول تجلت أهمية المدينة في عدد من قصد القدس زائراً لتعليم الناس أو التعلم والعبادة في أرجائها، وتُشير الروايات إلى أنّ عدداً كبيراً من صحابة رسول الله أقاموا فيها، ففي الحديث المرفوع عن يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْس قَال: (شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَة بَيْت المَقدِس، فَجَمَّعَ بنَا، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِد، أَصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم).
والرواية كانت بعد فتح المدينة بزمن، وغالب من يحضر صلاة الجمعة في الأقصى من الصحابة رضوان الله عليهم، وهي دلالة على أهمية المدينة وفضلها، وتحولها إلى نقطة جذبٍ محوريّة، ضمت الجيل الأهم في تلك الحقبة الزمنية وهم الصحابة، الذين قادوا الحركة العلمية والمعرفية.
ومن أبرز الصحابة الذين زاروا القدس في أثناء الفتوح الإسلامية لبلاد الشام وبعد الفتح العمري للمدينة، أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ومعاذ بن جبل الذي كان يأتي يتعبد أياماً وليالي في المسجد الأقصى، وبلال بن رباح الذي أذّن في المسجد الأقصى بعد فتح المدينة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة، وعوف بن مالك الأشجعي، وغيرهم الكثير، ومن التابعين أويس القرني وعبد الرحمن بن غنم الأشعري.
وفي عصر الصحابة الكرام تحول المسجد الأقصى إلى منارة معرفية وعلمية، فبعد تحديد عمر بن الخطاب مكان المسجد وأمره ببناء المسجد القبلي في موقعه اليوم، عيّن من يعلّم القرآن في رحاب الأقصى، وأول من تولى هذه المهمة في القدس هو معاذ بن جبل، ومن بعده عبادة بن الصامت.
وممن درس على يد الصحابيين معاذ وعبادة رضي الله عنهما، وغيرهما من علماء الصحابة، عبد الرحمن بن غنم الأشعري، الذي يعدّ شيخ فلسطين في تلك المرحلة، وأصبح من فقهاء القدس وفلسطين فيما بعد، وتتلمذ على يديه الكثير من التابعين في بلاد الشام عامة وفي دمشق على وجه الخصوص، ومنذ تلك الحقبة بدأت الحياة الفكرية في فلسطين بالازدهار، خاصة بعد إقامة العديد من الصحابة في مدنها، فانتشر فيها القراء وأهل الحديث، والفقه، والمحدثون، والفقهاء.
وبعد عصر الصحابة، ترسّخ دور المسجد الأقصى العلمي والمعرفي، وقد رعى هذا النشاط خلفاء بني أمية، فقد أوردت المصادر أن عبد الملك بن مروان كان يحرص على اللقاء بأم الدرداء -رضي الله عنها-، وكانت واحدةً من عالمات بلاد الشام المبرزات، ويجلس معها قرب الصخرة في الأقصى.
وإلى جانب أم الدرداء درّس في الأقصى في العصر الأموي كلّ من عطاء بن أبي مسلم، ورجاء بن حيوة، والوليد بن عبد الرحمن الجرشي، وغيرهم الكثير.
نشط في الأقصى تلقِّي مختلف العلوم الشرعية وخاصة علم الحديث، وزاره معلماً أو متعلماً عددٌ كبيرٌ من العلماء الأعلام، من بينهم الأئمة الأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد والشافعي -رحمهم الله-، وبزغ من القدس علماء مبرزون في مختلف العلوم الإسلامية، من بينهم محمد بن أحمد المقدسي البشاري مؤلف "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وأبو المعالي وابن تميم المقدسيان، وبرزت أسر علمية كاملة من القدس، أبرزها عائلة ابن قدامة المقدسي صاحب "المغني"، وقد نزحت واستقرت العائلة في مدينة دمشق بعد الاحتلال الصليبي للقدس، ومن العلماء الذين استقطبتهم المدينة الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- الذي اعتكف في المسجد الأقصى وقدم إلى المدرسة النصرية وألّف فيها -أو فوق مصلى باب الرحمة- كتابه الشهير "إحياء علوم الدين"، أو بعض أجزائه حسب المصادر المختلفة.
وبعد التحرير الصلاحي للمدينة، عاد المسجد الأقصى إلى سابق عهده وأهميته بعد انقطاع دام طيلة فترة الاحتلال الصليبي، وتولى جانباً من النهضة العلمية فيه كل من القاضي الفاضل والقاضي بهاء الدین بن شدّاد، وشهدت القدس نهضة علمية مميزة، وتطور التعليم في الأقصى خاصة وفي القدس عامة مع إنشاء العديد من المدارس الوقفية، في العهود اللاحقة الأيوبية والمملوكية، وارتفع عدد المدرّسین والطلبة والفقهاء والعلماء المشتغلين فيها، وأُجريت على هذه المدارس الأوقاف والعطايا من السلاطين والحكام، وتحوّلت باحات الأقصى وأروقته ومصاطبه إلى جامعة حافلة، تشهد عشرات الحلق العلمية في التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، وغيرها من العلوم المتداولة حينها. وفي عهد صلاح الدين الأيوبي كان في القدس أكثر من سبعين مدرسة، إضافة إلى عشرات الزوايا والخوانق. واستقطبت المدينة علماء من اختصاصات متنوعة، فقد أمّها رشيد الدِّين بن أبي الفضل بن علي الصُّوري، وهو من أشهر علماء الصيدلة المسلمين، ومنها انتقل إلى خدمة ملوك الأيوبيين في مصر.
ومع ما عانته المدينة من الاحتلال الصليبي/الفرنجي، شهدت المدينة في أثناء العهدين المملوكي والأيوبي، حركةً علمية مبهرة، يمكن أن نسلط الضوء على واحدة من تجلياتها، وهي الكتب التي عنيت بفضائل القدس والأقصى إبّان هذين العهدين، وهو ما شجع المزيد من العلماء وطلبة العلم على القدوم إلى القدس والإقامة بها، والعمل على تعزيز هذه النهضة العلمية المميزة.
وتظهر أهمية المدينة العلمية في عدد المدارس التي أقيمت في تلك المرحلة، فمن بينها المدرسة النصرية (450هـ/1058م)، والمدرسة الختنية (587هـ/1191م)، والمدرسة الصلاحية (588هـ/1192م)، والمدرسة الأفضلية (نحو 590هـ/1193م)، والمدرسة الميمونية (593هـ/1196م)، والمدرسة النحوية (604هـ/1207م)، ومدرسة الحديث الهكارية (696هـ/1296م)، والمدرسة الطشتمرية (784هـ/1382م)، والمدرسة الجاولية (707هـ/1207م)، وغيرها.
وإضافة إلى المدارس، برزت الخوانق والزوايا كواحدة من المؤسسات الدينية التي يتلقى فيها الطلاب العلوم الشرعية، وخلال العهدين الأيوبي والمملوكي تم تأسيس عددٍ منها، من بينها، الخانقاه الصلاحية (583هـ/1187م) التي أصبحت مستقر طلاب الفقه من المدرسة الصلاحية، والزاوية المحمدية (751هـ/1350م)، وغيرها. ومن الرُّبط أنشئ في هذه المرحلة رباط البصير (666هـ/1267م)، والرباط المنصوري (6811هـ/1282م)، ورباط الكُرد (693هـ/1293م) ورباط المارديني (763هـ/1361م).
وفي عهد المماليك ازدهر التأليف بشكلٍ كبير، خاصة في الفقه والتراجم، وظهر في عهدهم كثيرٌ من العلماء، والأدباء، والفقهاء، والمؤرخين. وشهدت القدس حركة عمرانية نشطة، استهدفت المسجد الأقصى المبارك، وما حوله مما يُعرف اليوم بالبلدة القديمة، فبنيت المدارس والتكايا والزوايا والمنازل والحمامات والخانات التي لا تزال آثارها باقيةً حتى اليوم. ومن أبرز علماء القدس في غير التخصصات الشرعية أحمد بن محمد بن عماد (753-815هـ/1352- 1412م)، الذي يُعرف بابن الهائم الحاسب، من كبار فقهاء الشافعية، وبرع في علوم الرياضيات والفرائض، وابتكر نظريات جديدة في الحساب والجبر والمقابلة، توفي في القدس، ودفن في مقبرة مأمن الله.
ومع دخول القدس ضمن أراضي الدولة العثمانية، لم تقم الدولة بأي تغيير في واقع الحركة العلمية في المدينة، نتيجة العدد الكبير من المدارس آنفة الذكر، حيث لم يشهد العصر العثماني إنشاء أي مدارس جديدة، ولكن المجتمع والدولة ساهما في الحفاظ على هذه المدارس وخدمتها، عبر الحفاظ على أوقاف هذه المدارس المنتشرة في نواحي المدن والقرى الفلسطينية، أو في المناطق الشامية الأخرى.
وفي القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر هجري) ينقل بعض الرحالة أن عدد حجرات المدارس الواقعة حول المسجد الأقصى المبارك بلغ نحو 200 حجرة تدريس، وبلغ عدد المدارس والزوايا في القدس نحو 360 مدرسة وزاوية، وظلت أسماء المدارس الشهيرة كالصلاحية والنحوية والتنكرية وغيرها كما هي.
هذه بعض النماذج من الدور الريادي لمدينة القدس في العصور الإسلامية المتلاحقة، وهو دور علمي وحضاري لا يقلّ أهمية عن دورها الديني وتشكيلها واحدة من أبرز المدن العلمية في المشرق الإسلامي، حتى أصبحت المحطة الأولى لطلاب العلم المغاربة والأندلسيين خلال رحلاتهم إلى المشرق، واستمرت القدس بتصدير العلماء والمتخصصين، في مجالاتٍ عديدة، وإن هذا الدور الذي لعبته المدينة قديماً هو واحدٌ من دوافع كثيرة للاهتمام بالمدينة والعمل لقضيتها العادلة، وإبراز مكانتها وفضلها، وإنّ محاولات طمس تاريخها لن تمحو من ذاكرة التاريخ ما للقدس من مزايا وتفوّق.
إضافة تعليق