نخطئ في توجهاتنا التربوية حين نتعامل فقط مع الكتلة الصغيرة الطافية، تمامًا كخطأ البحَّارة الذين اصطدمت سفينتهم بجبل الجليد، فبينما يطفو السلوك فوق سطح البحر، تقبع في قاعه المشاعر والأفكار والقناعات والقيم.
-ضع حذاءك مكانه!
-
قم صَلِّ ولا تنسَ الوضوء!
-
اجمع ألعابك في الصندوق!
-
راقب سلوكياتك!!
كم
مرة تحتاج لتكرار هذه الأوامر يوميًا؟! وما معدل استجابة طفلك لها؟!
السؤال
الأكثر رُعْبًا: إلى متى سنظل نكرر هذه الأوامر؟! وإلى متى سيستجيبون وينصاعون؟!
أحد
أسباب معاناتنا في تربية أبنائنا وضجرنا من تكرار التعليمات والأوامر هو إصرارنا
على التعامل مع قمة الجبل الجليدي، وتجاهل ما يخفيه عنا سطح البحر..
نخطئ
في توجهاتنا التربوية حين نتعامل فقط مع الكتلة الصغيرة الطافية، تمامًا كخطأ
البحَّارة الذين اصطدمت سفينتهم بجبل الجليد، فبينما يطفو السلوك فوق سطح البحر،
تقبع في قاعه المشاعر والأفكار والقناعات والقيم. التربية إذًا ليست مجرد تعديل
للسلوك فقط، بل هي "ضبط للمشاعر، وتصحيح للأفكار، وتوجيه للقناعات، وبناء
للقيم"[1].
قد
ينضبط سلوك الطفل وقتيًا عندما يشهر المربي سلاح سطوته، ولكننا كمربين لن نتمكن من
فرض السلوكيات المنضبطة على الطفل للأبد، وستذهب توجيهاتنا الكثيرة وأوامرنا سدى
دون مراعاتنا للأفكار والمشاعر والقناعات والقيم.
تستمد
القيم في المجتمعات المسلمة من المنهج الإسلامي الرباني؛ يقول تعالى: (قُلْ إِنَّ
صَلَاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأَنْعَام:162]،
وهي بهذا ثابتة لا تتغير، عكس المجتمعات غير المسلمة التي تتراتب قيمها تبعًا
لتغير أهوائها وتشعب أهدافها؛ ما يؤدي بها إلى ازدواجية المعايير.
وتشكل
القيم الإسلامية حصانة لطفلك، كجهاز ترشيح مركب في وجدانه، يمرر داخله كل ما يستجد
في المجتمع والبيئة حوله من أفكار وسلوكيات، ويحكم بها على الصواب والخطأ.
أدوات
غرس القيم:
يلجأ المربي في رحلة غرس القيم إلى أدوات متعددة، يحتاج أن ينوع بينها حسب طبيعة طفله، وحسب المرحلة العمرية له، وهي كالتالي:
1- الاستعانة بالله والتوكل عليه وطلب العون منه: وهو أقوى أسلحة المربي في غرس القيم؛ فالمعان من أعانه الله، وكان دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت"[2]. ومهما تعددت الأدوات والوسائل في غرس القيم فإنها بيد الله؛ إن شاء أمضاها، وإن لم يشأ عطلها.
2- ثاني هذه الأدوات: القصة: وهي من أنجح الوسائل في غرس القيم، وخير ما يخاطب به وجدان الطفل. والقرآن والسنة زاخران بالعديد من القصص التي يجب على المربي أن يحسّن استغلالها في بيان القيم وتعزيزها، مثل التأكيد على قيمة الصبر في قصة يونس -عليه السلام-، أو قيمة العفة في قصة يوسف -عليه السلام-.
ويمكن للمربي أن يعرض القصة في صورتها المعهودة أو يستخدم عرائس الأصابع أو المجسمات وغيرها، أو حتى يطلب من الأطفال عرض القصة ويناقشهم فيها.
3- ومن الأدوات المهمة في غرس القيم والتي تحتاج إلى يقظة المربي: اقتناص المواقف: يحتاج المربي أن يكون قناصًا للمواقف، يدير حوارًا مع الطفل عنها ويناقشه فيها. ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين استغل رؤية أصحابه لرحمة الأم على ولدها وسألهم: "أترون هذه طارحة ولديها في النار؟!"[3]. ليعز عندهم قيمة الرحمة، ويعلمهم عن رحمة الله -عز وجل-.
4- النصيحة المباشرة: لا يزال تعهد الطفل بالنصيحة أداة ذهبية في يد المربي ما أحسن استغلالها؛ فتكون نصيحته مباشرة المعنى، قصيرة الجمل، دون تفاصيل وسرد، ولاحظ نصيحة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن أبي سلمة حين رأى يده تطيش في الصحفة، فكانت النصيحة: "يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"[4]. بدأها بالتودد إليه، وقدم فيها المطلوب من الطفل في جمل قصيرة، دون توبيخ أو لوم.
5-القدوة: فهي تختصر عليك كثير الكلام، وتوفر عليك سيول النصائح، مجرد غمر للطفل في بيئة ذهنية متشبعة بالقيم، والطفل يحاكي ما يرى أكثر ما يطبق ما يسمع.
ولتفعيل القدوة يحتاج المربي أن يقيم علاقة طيبة مع طفله، ويقوي أواصر الود بينهما ليسهل أن يأخذ الطفل عنه، فالطفل لن يقتدي بمن يعنفه ويتجاهله.
6- وهذا يجرنا إلى أداة الحوار: شارك أولادك اهتماماتك وقيمك، تحدث معهم عن خطتك اليومية واهتمامك بقيمة الالتزام بالمواعيد وضبط جدول اليوم من خلال مواقيت الصلاة، شاركهم رغبتك في التبرع للمسجد بمصاحف وعطور. تُرى ما أثر حديثك معهم عن رغبتك في إهداء صديقك كتابًا تمناه؟! لا تعش في فقاعة وحدك، وتكون مصدرًا للدخل فقط، وروبوتًا للأوامر والنواهي.
وهناك
الكثير من أدوات غرس القيم مثل طريقة السؤال والجواب، التي تدور في قالب حواري لا
قالب إنشائي نملي على الطفل فيه الإجابات، وهناك أيضًا الألعاب والمسابقات وتمثيل
الأدوار وغيرها.
خطة
عملية:
عبارة
(النظافة من الإيمان) المنقوشة على شوارعنا لن تعلي قيمة النظافة وتنقشها في
قلوبنا، فغرس القيم يتجاوز مخاطبة الجانب المعرفي فقط إلى الجانب الوجداني والمكوّن
السلوكي.
وفقًا
للمستويات الثلاثة سالفة الذكر فإننا نستعرض مع القارئ خطة عملية لغرس قيمة -ولتكن
قيمة الصدق-. والخطة يمكن تطبيقها على أية قيمة يحتاج المربي غرسها لدى طفل
المرحلة الابتدائية، ويمكن أن تدار الخطة كما يلي:
الخطوة
الأولى: التوعية بالقيمة وأهميتها:
ونحتاج
هنا بداية إلى جذب انتباه الطفل وعقله وحواسه لأهمية قيمة الصدق، وذلك باستخدام
أدوات غرس القيم المعتادة؛ مثل القصة، تخيّر قصة تحكي موقفًا فقدت فيه قيمة الصدق،
ووقع البطل في ورطة بسبب ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة منها قصة الراعي والذئب، بعد ذلك نجري مع الطفل
نقاشًا وحوارًا حول أثر قيمة الصدق في حل المشكلة التي وقع فيها البطل، وكيف سيكون
مجرى الأحداث لو فقد البطل قيمة الصدق!!
ثم
تأتي آخر مرحلة في خطوة التوعية بالتحفيز وحث الطفل على اكتساب قيمة الصدق ببيان
فضل الصدق في الدنيا والآخرة، مع مراعاة الإشارة لأجر الصادقين، وكيف وصف الله
أنبياءه بأنهم صادقون.
نحتاج
أن نحفز الطفل ونشعره (بالمصلحة) الشرعية التي يحققها جراء التزامه بالصدق، معرفة
أجر الصادقين وفضلهم يحفزه على تبني قيمة الصدق والثبات عليها؛ فهو يرى نفسه في
حال أفضل في الدنيا والآخرة إن التزم الصدق.
وفي
الوقت نفسه نحتاج ألا نغفل الحافز المعنوي المتمثل في محبة الله للصادقين.
الخطوة
الثانية: الفهم العميق:
نظرة
أكثر عمقًا لقيمة الصدق؛ معرفة آداب قول الصدق، كيف يكون المرء صادقًا مع نفسه ومع
الله؟! متى يحسن أن يجهر الإنسان بالصدق؟!
والتأصيل
الشرعي لقيمة الصدق ذو أهمية كبيرة في تلك الخطوة، فنورد للطفل الآيات والأحاديث
التي تناقش قيمة الصدق؛ مثل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدق
يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة..."[5].
كذلك يمكن إيراد مواقف من السيرة تعزز مفهوم الصدق عند الطفل.
وتكمن
أهمية التأصيل الشرعي في أن يتعلم الطفل مصدر استمداده للقيم؛ فلا تقدم له القيم
بعيدًا عن إطار الدين؛ فمن المهم بمكان أن يعرف الطفل أن دينه مصدر لقيمه، وأن
يعتز بدينه الذي يحضه على تبني مثل هذه القيم، ويعرف أن تبنيه لقيمة الصدق عبادة
يؤجر عليها، وليست مجرد خلق مجتمعي.
الخطوة
الثالثة: التطبيق:
ونصل
معها إلى قمة الجبل الجليدي: التطبيق والسلوكيات والممارسة الحقيقية للقيمة،
ومتابعة اعتزاز الطفل بانتمائه إليها، نحتاج أن نرسم للطفل حدود الصدق ونعرفه أي
الأفعال يمكن أن نحكم عليها أنها داخل دائرة الصدق وأيها خارجها.
الخطوة
الرابعة: المراقبة:
ولمتابعة
التطبيق وضمان استمرارية الطفل على تبني هذه القيمة نحتاج دائمًا إلى الخطوة
الرابعة: المراقبة، ومتابعة سلوك الطفل، وتكرار عملية التوعية الدائمة المستمرة
بأهمية الصدق، وحل المشكلات التي واجهها عند تطبيق قيمة الصدق باستخدام الحوار
والمناقشة.
أخيرًا..
أحتاج
أن أذكر نفسي وإياكم بمنة الله علينا حين أمرنا بوقاية أنفسنا وأهلينا من النار؛
فهو سبحانه لم يتركنا هملًا، وإنما أعاننا على ما أوكلنا بنعمتين:
الأولى:
أنه سبحانه وهبنا أطفالنا وخلقهم على الفطرة: "كل مولود يولد على
الفطرة"[6]،
وهذه الفطرة تأنس إلى الله وتهنأ بتبني قيم منهجه الرباني، نحتاج فقط أن نعزز هذه
الفطرة وأن نصونها مما قد يطرأ عليها من الشبهات والقيم الوافدة.
الثانية:
أنه سبحانه أنعم علينا بالقدوة المثلى، والمربي الأعظم، نبي الأمة -صلى الله عليه
وسلم- الذي ربى جيلًا حمل راية الإسلام خفاقة، نحتاج أن نستلهم طريقته في التربية
وغرس القيم في قلوب أصحابه.
فاطلبوا من الله العون، وتمسكوا بحبل الصبر، فالقيم لا تغرس في يوم وليلة، بل تحتاج عناية ودعاية وتكرارًا وتشذيبًا. فاللهم ربّ لنا أبناءنا، واصنعهم على عينك.
Imene Wissal
جزاك الله خير