يبدأ البناء المعرفي للفرد مبكرًا؛ حيث توضع الأساسات واللبنات الأولى التي تنبني عليها معارفه، هذه المعارف التي تشكل نظرته للحياة وشخصيته ودوره في أسرته ومجتمعه وأمته..
هل سبق أن سمعت من أحد البالغين هذه العبارة: (ليتني
عرفت هذا وأنا صغير)؟!
كثيرًا ما نعض أصابع الندم على أيام ولت من عمرنا لم نكن نعرف فيها الله حق
المعرفة، وكثيرًا ما أمضينا أيامًا طوالًا في محاولات تحصيل علوم ومعارف كانت
متاحة لنا بيسر وقت فراغ الطفولة.
هناك أساسيات ومعارف ضرورية يحتاج الطفل إلى معرفتها قبل
نضجه، لتختلط بلحمه ودمه، ولذلك يبدأ البناء المعرفي للفرد مبكرًا؛ حيث توضع
الأساسات واللبنات الأولى التي تنبني عليها معارفه، هذه المعارف التي تشكل نظرته
للحياة وشخصيته ودوره في أسرته ومجتمعه وأمته.
أهمية البناء المعرفي المبكر:
1- البناء المعرفي المبكر سياج أمان؛ فهناك معارف يحتاج
الطفل إليها قبل أن يشب عن الطوق ويواجه العالم بنفسه ويتعرض للشبهات التي قد
تزلزل كيانه واعتقاده. البناء العقدي هنا ضروري جدًا لتحصين الطفل وتكوين ما يشبه
(المرشح)؛ تمر عبره الأفكار والعلوم، وتتكون عنده القدرة على تنقيتها واختيار ما
يلائمه ونبذ ما لا يلائمه.
2- في زمن تشعب التخصصات تسهِّل البداية المبكرة على
الطفل اتخاذ قراره بالتخصص في مرحلة شبابه، يهيئ البناء المعرفي المبكر الفرصة
لتجربة عملية قبل اتخاذ قرار.
3- توفر البداية المبكرة الوقت؛ حيث يبدأ الفرد من
الخطوة الثانية أو الثالثة بعد أن يكون أسس الخطوة الأولى في طفولته.
مجالات البناء المعرفي:
أولًا: المجال الإيماني:
المجال الإيماني والعقدي أهم مجالات البناء المعرفي؛ فهو البوصلة التي ستضبط كل المعارف التي يتعرض لها الطفل، والمرشح الذي ينقي من خلاله كل المدخلات المعرفية في عالمه.
1-معرفة الله -عز وجل-:
ولأن الإيمان بالله فطرة مركوزة في نفس الصبي: (فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم:30]؛
فإن دعم هذه الفطرة وتعزيزها وصيانتها من أهم المهمات وأيسرها على المربي الذي لا
يستجلب معارف دخيلة على نفس الطفل ويسعى لغرسها، وإنما يجد صدى حديثه عن الله مع
الطفل يسيرًا مقبولًا من الصغير مادام قد التزم الحقائق ولم يحرف.
وأهم وسائل البناء العقدي: وسيلة التربية بالغمر، دون
مبالغة أو تصنع للمواقف ينبه المربي طفله على وجود الله وآثاره ورزقه وبديع صنعه
في الكون.
من الأهمية بمكان أن يعرف الطفل أنه عبد مربوب، محدود القدرات، محتاج إلى خالقه الصمد ليصلح قلبه ودنياه، فيتعلم أهمية العبادة وضرورة الدعاء والالتجاء للخالق في كل كبيرة وصغيرة، ويتقبل كونه إنسانًا يخطئ ويصيب ويستغفر فيغفر الله له.
2- القرآن الكريم:
(قَدْ
جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة: 16].
القرآن الكريم ركيزة أساسية في البناء المعرفي للطفل، يشرح
الله بالقرآن صدره، ويتعلم من خلاله عقيدته وعباداته وقصص الأنبياء -عليهم السلام-.
يقوّم القرآن لسانه، ويرفع قدرته على الحفظ والتذكر، كما يدعم نموه الإدراكي.
وإلى جانب كونه من أهم مجالات البناء المعرفي، فإن
القرآن الكريم يوفر منهجية معرفية للطفل يعرف من خلاله أهمية الاستدلال وغائية الحياة وهدفها الأسمى.
كما ينمي لدى الطفل مهارات المذاكرة؛ حيث يتعلم الطفل
كيف يضع خطة للحفظ، وكيف يكون مرنًا في التعاطي معها، وكيف يقيمها ويعدلها.
كما يتعرف -من خلاله- على اعتقاده كمسلم: يتعرف إلى الله
وإلى رسوله، ويتعلم العبادات المطلوبة منه.
وننوه هنا بأهمية التدبر الذي يشكّل مع حفظ القرآن جناحي
الطائر؛ فيساعد المربي الطفل على معرفة المعاني الإجمالية للآيات والمستفاد منها
دون أن يعطل ملكة الحفظ في سن الحفظ الذهبية.
3- الحديث الشريف:
يمكن للمربي أن يختار أحاديث قصيرة المبنى، وقد أوتي الرسول -صلى الله عليه وسلم- جوامع الكلم ليحفظها ويعرف معناها، ومن الممكن إجراء مسابقات مع الأطفال في حفظ أحاديث يحددها المربي مسبقًا تهتم بجانب العقائد والآداب والأخلاق. وهناك الكثير من المصادر التي تعرض أحاديث صحيحة للصغار.
4- قصص الأنبياء وعلى رأسهم قصة نبينا -عليه الصلاة والسلام-:
وقصص الأنبياء ليست حكايات لتمضية الوقت أو للثرثرة، بل
هي أحسن القصص، وأهم ما يتعلمه الطفل منها انتماؤه لأمة التوحيد من لدن آدم -عليه
السلام- إلى محمد؛ فالأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد.
وكذا قضايا الإيمان والكفر وعاقبة التكذيب والمعصية، ومركزية
التوحيد والعبادة في الحياة، فمهما استطالت الحضارات وارتفع بناؤها -ما لم يكن في
المركز منها توحيد الله- فالهلاك والدمار مصيرها في الدنيا قبل الآخرة.
القيم الأخلاقية المبثوثة في سياق قصص الأنبياء كالعفة
في قصة يوسف -عليه السلام-، والأمانة في الكيل في قصة شعيب -عليه السلام-،
والتواضع للعلم في قصة موسى والخضر، والصبر على المخالف في قصة يونس -عليه السلام-...
كلها معانٍ يستقيم بها قلب الطفل قبل عقله، وتضيء حياته.
أما قصة النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته
وجهاده في نشر الدين، فحري بالمربي أن يتمثلها صبح مساء، وينتفع بالاقتداء بالنبي،
وتنعكس سيرة النبي على حياته.
وهذا يدفعنا إلى القول بأن هناك مدرستين لعرض السيرة على
الطفل: الأولى تفضل التزام السرد التاريخي بالترتيب، بينما تفضل الثانية عرض
الوقائع حسب حاجة الطفل وحسب خطة التعلم، مع إرجاء الترتيب لمرحلة تالية. والحق أن
الطفل يحتاج سماع سيرة الرسول عدة مرات بصور مختلفة.
5- العبادات:
قبل الوصول لسن التكليف يجب أن يتدرب الصغير على
العبادات بعد أن غرسنا في قلبه معاني حب الله ووجوب طاعته، كما يحتاج أن يدرس
الخطوط العريضة لفقه العبادات التي سيحتاج إلى تأديتها؛ فنبدأ بالطهارة وأحكام
الوضوء والصلاة، ثم أحكام الصيام إذا حل رمضان.
والتدريب على الصلاة يبدأ مبكرًا في مرحلة المحاكاة من
عمر ثلاث سنوات؛ حيث يحاكي الصغير والديه، ولا بأس من اصطحابه للمسجد مادام محافظًا
على نظافة المسجد وطهارته ومراعيًا لآدابه.
ومع سن السبع سنوات -بالتقويم القمري وليس الميلادي-
نبدأ في التدريب الرسمي، ويستمر التدريب حتى عشر سنوات، والتدريب المبكر للصلاة
يحتاج مقامًا من الصبر فوق الصبر، وهو مقام الاصطبار: (وَأْمُرْ
أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه:132].
ثانيًا: المجال اللغوي:
وللغة العربية في هذا المجال سلطانها؛ فهي لغة الوحي،
وهي هوية الطفل المسلم، وهي قالب يصيغ فيها أفكاره ومشاعره؛ لذا يجب على المربي أن
يهتم بالتحدث بالفصحى مع الصغير، أو حتى بتخصيص وقت في اليوم لذلك.
كما يحسن إطلاع الطفل على أشعار فصيحة، وديوان الطفل
العربي تضيء فيه نجوم لامعة كأحمد شوقي وسليمان العيسى ومحمد جمال عمرو، يحفظ من
أشعارهم وينشدها.
وفي مرحلة متقدمة يمكن للمربي عرض قواعد النحو والإعراب
التي يضبط بها الصغير لغته، ويقدم له القواعد في صورة رشيقة تعتمد على ضرب الأمثلة
قبل التقعيد، ثم تدريبات خفيفة ترسخ القاعدة النحوية. ولا ننسى هنا دور القرآن
الكريم في ضبط لسان الطفل وتجويد مخارج حروفه ودعم سليقته اللغوية.
ولا بأس بتعليم الطفل لغة أجنبية بعد تأسيس قواعد
العربية وتمكينه منها؛ لينفتح على ثقافة أخرى، ويتمكن من مطالعة العلوم والآداب
بلغة أهلها.
ثالثًا: المجال العلمي:
تتيقظ حواس الصغير في عمر الثلاث سنوات: (وَاللَّهُ
أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78]؛
حيث يحتاج الطفل في هذه المرحلة إلى إمداده بمهارات التجريب والملاحظة وعرض حقائق
العالم عليه، مع إرشاده لحكمة الخالق سبحانه في سلطانه على الكون؛ كتحرك الأفلاك
وسلاسل الغذاء وقوانين الفيزياء والكيمياء،
مع التأكيد على السماح للطفل بالتأمل والإبداع، ومساعدته في الوصول لهذه الحقائق دون
إملائها عليه.
رابعًا: المجال الرياضي المنطقي:
مهارات الحساب الأولى ومعرفة فلسفة العد وعلاقات الأعداد
وعمليات الجمع والطرح، وكذا مبادئ الهندسة والجبر؛ مجال مهم يفتح للطفل الباب على
مصراعيه للتفكير المنطقي وأسس الاستدلال والوصول لحل المسائل الرياضية بطرق مبتكرة.
خامسًا: المجال التقني:
المعارف التقنية، ومهارات استخدام الحاسوب؛ فريضة في
عصرنا الحالي، أثبت الأطفال فيها تفوقهم على الكبار في مجالات التصميم والبرمجة.
وتعليم الطفل تقنيات الحاسوب ليس هدفًا في حد ذاته بقدر
ما هو وسيلة يستطيع من خلالها التعبير عن باقي المعارف، باستخدام الحاسوب في إجراء
إحصاءات أو عروض تقديمية أو مقاطع مرئية يلخص فيها ما تعلمه.
سادسًا: المعارف النفسية:
حين تحدثنا عن دعم الفطرة في بداية كلامنا كان هذا
محاولة لدعم نفسية الطفل ودعم سلامه واتزانه النفسي. ونعود ها فنؤكد ضرورة الوعي
النفسي، أهمية أن يعرف الطفل مشاعره ويستطيع إعطاءها اسمًا ويتفاعل معها ولا
يرفضها؛ فيفهم أنه غاضب يحتاج إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والوضوء، ويفهم
أنه غار من أخيه فيذكّر نفسه بالرضا بقضاء الله، ويعرف كذلك مشاعر الآخرين حوله
ويتعاطف معهم، ويسعى لمشاركتهم مشاركة حقيقية.
محاذير البناء المعرفي للطفل:
ذم القرآن في غير موضع مسألة الاهتمام بالعلم والمعارف
على حساب تزكية النفس وتصفيتها، وحذرنا من مصير بلعام بن باعوراء الذي آتاه الله
آياته وعلمه ولكنه انسلخ منها ولم تزكُ بها نفسه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175-176].
لذا من الضروري أن نولي اهتمامنا -مع البناء
المعرفي- بالتربية النفسية والتزكية التي تثمر عن التقوى التي تحرس العلم وتنفع به
صاحبه.
كما يجب الحذر أيضًا -في سياق البناء المعرفي- من
الاهتمام بالمفضول على حساب الفاضل؛ فالقرآن أولى من الحديث ومن متون الاعتقاد،
واللغة العربية أولى من غيرها من اللغات، فالمربي يحتاج هنا أن يرتب أولويات لبنات
البناء المعرفي.
ولا يصح أن يسلك المسلمون في بناء معارفهم (مسالك
ومناهج علماء التربية والاجتماع الغربيين؛ ويتعلمون ويدرسون في مدارسهم ومعاهدهم
نظريات ومناهج تقدّس المادة ولا تؤمن إلا بالمحسوس الملموس... وشتان ما بين
ثقافتنا وثقافتهم، وأهداف التربية عندنا وعندهم؛ إن أهداف التربية عندنا أهداف
نبيلة، والهدف الأساس هو تكوين الإنسان الصالح المصلح، وهدف التعليم عندنا هو
تكوين العالم العامل النافع لأمته وللبشرية، أما عندهم حيث ثقافة الشهوات،
والعلمانية اللادينية والحياة اللاأخروية فإن الأمور تختلف... ولأن التربية عندنا
عبادة فإن لها أساليب ووسائل وأهدافًا، ونحن متعبدون بالأخذ بالأسباب والأساليب
والوسائل الشرعية المأخوذة من كتاب ربنا وسنة نبينا؛ وصولاً إلى الأهداف المشروعة
المنشودة. أما هُم فالغاية عندهم تبرر الوسيلة في كثير من الأحيان. [أهمية البناء
النفسي قبل المعرفي - أمين يوسف الدميري - مجلة البيان].
أخيرًا علينا أن نحذر من فوضى التلقي المعتمدة على
شبكة الإنترنت كمصدر للمعرفة دون توثيق المصادر وتنقيحها.
إضافة تعليق