العملية التربوية تتعامل مع النفوس والطبائع البشرية، وتشغل فيها العاطفة حيزًا كبيرًا في التوجيه والتقويم والتحفيز وربط الداعية بالمدعوين، كما أنها تتخلل كل مراحل التربية؛ بداية من مراحلها الأولى وحتى الأخيرة
العملية التربوية
تتعامل مع النفوس والطبائع البشرية، وتشغل فيها العاطفة حيزًا كبيرًا في التوجيه والتقويم
والتحفيز وربط الداعية بالمدعوين، كما أنها تتخلل كل مراحل التربية؛ بداية من
مراحلها الأولى وحتى الأخيرة، فهي مُركب أساس في كل المعادلات التربوية. وبما أنها
عنصر مهم في العلمية التربوية وجب ضبطها وتقديمها بشكل متوازن للمتربين دون إفراط
أو تفريط، فهي كالملح في الطعام؛ إن زاد أفسد الأكلة، وإن قل لم تُستسغ.
التربية في جميع مراحلها
تحتاج إلى العاطفة وإظهار المشاعر لتوفير الاستقرار النفسي والاطمئنان الشرعي
للمتربي تجاه مربيه، خاصة في المراحل الأولى التي يتخللها توثيق العلاقة والعناية
بالمتربي سلوكيًا وإيمانيًا: (وهذا الجانب العاطفي يتيح للمربي القرب الهادئ من
المتربين، والإحاطةَ بأمورهم التي يحتاج إلى الإلمام بها؛ ليُحسِن التعامل معهم
وتوجيههم؛ إذ إن المدخل العاطفي والمحبة الأخوية هو أفضل طريق للقرب من المتربي
ومعرفة طباعه وصفاته النفسية والوقوف على خصائص شخصيته؛ فعندما يثق الفرد في مربيه
فإنه يصبح كتابًا مفتوحًا بين يديه، ويبوح له بالعديد من خبايا نفسه وأسراره التي
لا يطلع عليها إلا المقربون، كما أن هذه العاطفة تهيئ المتربين من جانب آخر للتلقي
من مربيهم برضىً وقناعة.
ولذا فإن رصيد العاطفة الكبير الذي تسري نسماته بين المربي والأفراد تظهر دلائله واضحة في أسلوب التعامل الراقي والحرص على مشاعر الجميع، وهو أحد أهم صمامات الأمان التي يركن إليها المربي لاستقرار الوسط التربوي، ولتهدئة أجوائه عند حدوث أي توتر أو أزمات؛ حيث تذوب في أجواء المحبة الصادقة حدةُ الغضب، وتهدأ الأعصاب المتشنجة، وتُدفَع أيُّ خواطر سيئة قد يوسوس بها الشيطان، أو سوء ظن قد يختلج في النفوس في لحظات ضعفها)[1].
رصيد العاطفة الكبير الذي تسري نسماته بين المربي والأفراد تظهر دلائله واضحة في أسلوب التعامل الراقي والحرص على مشاعر الجميع، وهو أحد أهم صمامات الأمان التي يركن إليها المربي لاستقرار الوسط التربوي
إشكالية العاطفة في العملية التربوية تتمثل في
نموذجين وهما (الإفراط والتفريط)؛ فالتفريط يتمثل في المربي المُقيِّد لمشاعره، الحابس لعواطفه
داخل أسوار نفسه، لا يسمح لنفسه بإطلاق سراح مشاعره لتنسج رباط العلاقة الأخوية
بينه وبين من يربيهم، إما ظانًا بالخطأ أن الشدة والجفاء هي الوسيلة المناسبة
للتعامل مع المربين، كي يحفظ معهم هيبته، أو متوهمًا أن تلك الطريقة المُثلى
للتعامل مع المتربين للتوجيه والتقويم.
فالعلاقة بين المربي
والمتربين ليست ذات طبيعة عسكرية تحكمها أوامر جافة، فالعاطفة تساهم بشكل كبير في
ضبط الاستقرار النفسي للمتربين واطمئنانه للمحضن، كما أنها تخفف من حدة التكاليف
والمهام، وتجعل تنفيذها يسيرًا وسهلاً على نفس المتربي دون ضجر أو ملل.
وانظر إلى مؤدب ومعلم
البشرية -صلى الله عليه وسلم- حينما استخدم التوجيه بالعاطفة بقاعدة (املأ القلب
أولاً)؛ فعن معاذ بن جبل أن رسول -صلى الله عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: «يَا مُعَاذُ،
وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّك»، فقال: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ:
لا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ،
وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» [صحيح أبي داود للألباني (1362)].
فتأمل كيف فعل رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-:
1ـ البدء بإمساك يده.
2ـ قول: يا معاذ إني
لأحبك، كانت بمثابة الرصيد الذي يملأ به القلب ليوجه بعدها.
3ـ اختصار التوجيه
وعدم الإطالة.
إذًا فالطريق للتوجيه
لابد أن يكون محكومًا بالعاطفة: (فما لم يشعر المتربي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير،
فلن يقبل منه ولو أيقن أن عنده الخير كله، بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده!!
وأي خير يمكن أن يتم بغير حب!!)([2]).
النموذج الآخر من الاتزان هو الإفراط، ويأتي ذلك في الطرف
المقابل وهو المربي المفرِط في التعبير عن مشاعره والحريص على تدليل المتربين
والقرب منهم بشكل مبالغ، للدرجة التي تفقده هيبته أو تضعف شخصيته.
ويتمثل ذلك الإفراط في
عدة مظاهر مثل: طول الخلطة والمعايشة دون توجيه؛ ما يصيب العلاقة التربوية بالتبسط
الزائد بين المربي والمتربين، والتي تنقلب مع الوقت علاقة ندية بين الطرفين، فتسقط
هيبة المربي بسبب التجاوزات التي تحدث من المتربين، كما أن الإفراط في الخلطة
والمعايشة يصيب المتربي بالزهد في المُربي، والأصل أن تكون العلاقة بين المربي ومن
يربيهم يحفُّها الاشتياق للقيا، وتحيّن الرؤية من أجل تحصيل الفائدة والتقويم
للنفس.
أضف إلى ذلك أن الإفراط
في الخلطة والمعايشة قد ينحرف بالنوايا الخالصة إلى نوايا أخرى دخيلة هدفها إشباع
الجانب الاجتماعي للمُربي أو العاطفي؛ فالعمل التربوي يحمل بين طياته أمورًا تسعد
النفس بها مثل التسلية، توسيع شبكة العلاقات الاجتماعية، والتوجيه وسماع الأوامر،
ومع طول أمد العملية التربوية قد يصير كل هذا شؤمًا على المربي إذا لم يتم ضبطه
بالاحتساب.
من المزالق التي قد
يقع فيها بعض المربين في الإفراط: (تمييز بعض المتربين والتعلق بهم وتقريبهم
وتخصيصهم بمزيد اهتمام يفوق بقية أقرانهم بصورة تثير حفيظة البقية، وقد يكون ذلك
بسبب الجاذبية الشخصية التي تُميز بعض المتربين وتجعلهم محط إعجاب من حولهم بما
فيهم المربي نفسه.
إن الأصل في الجو
التربوي إشاعة روح الثقة لدى المتربين؛ وهذا بالطبع لا ينشأ إلا إذا استشعر
المتربي إنصاف مربيه وعدالته واتباعه للشرع في معاملة الجميع دون تمييزٍ لا داعي له
ولا حاجة إليه)[3].
الخلاصة:
إن العملية التربوية
كالمعادلة الكيميائية، والعاطفة مركب داخلها، ويجب على كل مربٍّ إضافة ذلك المركب
بالقدر الذي يجعل تلك المعادلة صحيحة وتتفاعل المكونات بشكل سليم داخلها دون
إخلال، وكل مربٍّ على نفسه وقلبه بصير.
إضافة تعليق