يحمل الدعاة على عاتقهم مهمة الأنبياء والرسل، إلا أن الدّعاة بعد مجيء محمّد -عليه الصلاة والسلام- أصبحوا هم حَمَلة الرسالة مهما كانت وظائفهم أو أماكن عملهم وظروف حياتهم.
يحمل الدعاة على عاتقهم مهمة الأنبياء
والرسل، إلا أن الدّعاة بعد مجيء محمّد -عليه الصلاة والسلام- أصبحوا هم حَمَلة
الرسالة مهما كانت وظائفهم أو أماكن عملهم وظروف حياتهم، وهم حملة الرسالة في كلّ
زمان وفي كل مكان، الدّعاة -رجالاً ونساءً- ينشرون ربّانيّة تعلموها من كلام الله؛
ليكون العدل والسلام، وتكون خلافة الإنسان وعمارة الأرض على الوجه الذي يرضي الإله
الخالق ربّ العالمين.
والمنهل الصافي لكل داعية هو القرآن
الكريم، خطاب رب العالمين لعباده، يهديهم فيه صراطه المستقيم، ويدلهم إلى التي هي
أقوم، ويعزز فيهم فطرة الخير التي فطرهم عليها، يحفّز فيهم كلّ خير، ويدعوهم
لاتخاذ الشيطان عدوًّا وتجنّب وساوسه التي تهوي بابن آدم في درك العذاب دنيا وآخرة:
(إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا
كَبِيرًا) [الإسراء: 9].
لماذا سورة النور؟!
وسورة النور تحجب العمى، وتقي المتبصر
التيهَ والضياع، لها من اسمها حظ ونصيب، توسطت بين سورتي (المؤمنون والفرقان)،
وكأن في ترتيبها إعجازًا لأولي الأبصار والأذهان! جاءت لتربط النور المعروفَ حقيقة
ومجازًا بالله نور السماوات والأرض، وكأنها ترسم طريق الهداية وخيطه الرقيق اللامع
بين الأرض والسماوات العلا.. لنعرف قدر المضمون، وقيمة العرض، وأهمية الطرح
الرباني فيها، لعلنا نذكّر وندرك سرّ السعادة وجائزة الاستقامة مع الفطرة: (سُورَةٌ
أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) النور: 1].
آيات سورتنا مدنيّة، نزلت بعد هجرة
المصطفى -عليه السلام-، وإذا ما عرفنا ذلك أدركنا سمات الآيات وبُعد التوجيه فيها
نحو التشريع والمعاملات والآداب الضابطة للمجتمع الإسلامي، الذي هو قدوة لكل تجمّع
بشري يروم التحضّر والسموّ؛ لذا كانت سورة النور منهلاً لكل مربٍّ فطن، يقتنص منها
الموضوعات ويتّبع الوسائل ويبدع في الطرح ليعالج حالات المرض في البيئة المستهدفة،
أو ليغرس القيم ويعزز الفضائل ومكارم الأخلاق، من هنا أرى ضرورة استثمار السورة
وسياق طرحها لتكون محطات تربوية غنية يدركها المربي، ويستشفّها من بين حروفه
المعجِزة ، ويطرحها للمجتمع بالطرق التربوية النبوية، واستخدام التقنيات الحديثة
وكل الوسائل والأساليب المناسبة للمخاطب أو للمقصود بالدعوة والتربية.
تعلن السورةُ في استهلاليتها النادرة أنّ كل ما فيها فرض لازم، بأسلوب قاطع مباشر،
تبسط لموضوعها بطريقة قوية تلفت الأنظار إلى مدى الاهتمام بالقيم والأخلاق،
والتكاليف والحدود، ومدى علاقة ذلك بالعقيدة الحقّة؛ فالمباشرة لون من ألوان
التربية القرآنية: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا
آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)؛ فالداعية المربي ينبّه الناس إلى
معنى اللزوم والفرض، ويربطه بأمثلة من حياة الفرد
والمجتمع، يرهّب من عواقب تجاوز الحد، ويرغّب بالثواب الذي يتجلّى في حياة الفرد
في الدنيا قبل الآخرة.
ولأن النفس البشرية هي اللبنة الأولى في البناء المجتمعي، ولأن الأسرة
هي المحضن الأوّل، وسرّ الجودة لهذا المنتَج الخطير؛ فإن السورة تبدأ بما قد ينتج
عن البيئة المُنبِتة لهذه النفس، والتي فيها تتشكّل الأفكار والصور الذهنية
والمعتقدات، فتكون بعدَها الأفعال والسلوكيات المترجمة لما يجول في الفكر، وهل
أفعالنا إلا نتاج أفكارنا؟! فما وقر في القلب صدّقته الجوارح لا محالة، فإن بدا من
الفرد سوء الخلق والتجاوز للحدود وارتكاب ما يغضب الله، كانت الحدود والعقوبات في
الدنيا وفي الآخرة.
السورة في ظاهرها تشكّل موضوعًا تشريعيًا، لكنه في حقيقته مرتكز على
سلامة القلب، وهو الإيمان بدرجاته، فإن عُمّر القلبُ بالإيمان سلم ونجا، وهنا
يستثمر الداعية هذا المدى الفسيح ليطهّر القلوب ويزكّي النفوس، لتستمتع بالحلال
المتاح، معلنًا أنّ دائرة الحلال أوسع، وأنها أيسر وأطهر، وأنها أطيب وأعذب،
فيرتقي بالناس وهو يتذوق معهم النص القرآني، ويتدبّر حدوده ومراميه.
جهود الإصلاح والتصدي
للمفسدين:
وما حد الزنا، وتبغيض الفاعل، وما سلخ الزناة عن الجماعة المسلمة، إلا
حماية للمجتمع؛ فالحديث في حد الزنا وحد القذف وعلة التشديد، ثم استعراض مسألة استثناء
الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة، ثم التعريج على حادثة الإفك
التي لها قيمة تربوية وازنة، ينبّه الداعية المربي إلى استثمار هذه المواقف
المجتمعية، فيطرق الأذهان بإبداع إلى ردود أفعال الناس عندما تهبّ عليهم ريح
الفساد، وكيف يتعاطون معه، وكيف يتوثقون منه، وأنّ المشاكلة حتمية بقرار إلهي بين الخبيثين
والخبيثات، وكذا المشاكلة بين الطيبين والطيبات، ليصنع الربّ مجتمعًا طاهرًا يليق
بحبه ورضاه، وجميل عطاياه.
وقد يكون لزامًا على الدعاة -وكل
الأمة دعاة- أن يتصدّوا إلى جهود المفسدين في سلخ المجتمعات عن الإسلام والقيم
الإنسانية، والعمل بكل طاقاتهم لنشر الفواحش ورعاية الرذيلة، لغايات بيّنها القرآن
في مواطن كثيرة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور: 19].
ومن خلال السورة بشكل خاص والقرآن بعمومه، يدرك المتدبّر أشكال
الجرائم والفظائع والكبائر والفواحش، ويعلّمه القرآن -إذا ما تأمّل نصَّه وتدبّر- الوقاية
والحماية، فتجنيب النفس أسباب الغواية، والابتعاد عن كل ما قد يعرّض ويقرّب للسوء
هو الفعل الحكيم والتوجيه الرباني لكل ذي لب. وهذا ما على المربي أن يغرسه في نفوس
البشر مستخدمًا المواقف والمحكّات التربوية ومهارات التفكير وأساليب الحوار
والنقاش.
التربية على الخصوصية
والتعفف:
على المربي الفطِن أن يفصّل في تدريب النشء على مهارة الاستئذان، التي
عرضتها السورة لتبيّن للناس خطورة الأمر، وتنير لهم سبل الوقاية، وما مشاكل ومصائب
كثير من البيوت إلا لإخلالهم بهذا الأدب وتقصيرهم في تربية أبنائهم على الهدي
القرآني المنير!!
وما الغضّ من البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم إلا ضرورة بشريّة ملحّةٌ،
سيما في المجتمعات التي بات استعراض المفاتن فيها شيئًا من اللطافة والتحضر والانفتاح
المروَّج له عبر الفضاء الافتراضي الواسع، من غير حدود ولا قيود، يصل إلى كل فرد
دون عائق، وما يمنعه عنه سوى رقابة ذاتية صنعها في النفوس مربٍّ متمرّس، في وقت يغيب
فيه المسؤول التّقيّ والقيادات المخلصة.
والدعوة إلى إنكاح الأيامى وسيلة من وسائل الوقاية، يحمل الداعية إلى
الله همّ بثّها في النفوس ونشرها بين الناس، حتى يألفها الجميع وتصبح ثقافة محمودة
لها شكلها الذي يضمن الحقوق، فلا تُدفع الفتيات إلى البغاء، ولا تنتشر الرذيلة،
ولا تنتهك المحارم.
فكما شخّص القرآن الأحوال المّرضيّة في حال حدوثها، ووضع خطط الوقاية
كمرحلة استباقية؛ فقد عالج ووصف الدواء الذي قد لا يكون محبوبًا للنفس البشرية،
وهذه منهجية التربية القرآنية، يعتمدها المؤمنون لتجاوز الأزمات، ويدرّب عليها
المربي الفطن لتعزيز مهارات التفكير العليا: من إيجاد حلول للمشكلات، واتخاذ
القرارات، وغيرها من مصطلحات راجت على ألسنة أهل التنمية البشرية والتربية
الحديثة.
وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور،
ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين، وهم
يقاومون عوامل الإغراء والغواية.
المزاوجة بين الإيمان
والسلوك:
وتعرّج السورة على أطهر البيوت وتصف لنا عُمّارَها: (رِجَالٌ لَّا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ) النور: 37]؛ لتربط للمتأمل فكرة الإيمان بطبيعة السلوك. فما أجمل
أن يستثمر الداعية هذا النص ليربط أفعال المرء بطبيعة قلبه الذي لا يثبت على حال
إلا بجهد وتعهّد ورعاية!! وما أجمل أن يتفنن المربي في توليد الأفكار العملية
المحفّزة لتدريب القلوب وتوطين النفوس!!
ثم تلفت الآيات نظر الداعية لنهج وأسلوب علمي فذّ؛ كضرب الأمثال
واستعراض النماذج السيئة والتفكّر في مآلاتها للعظة والعبرة، فهو أسلوب تربوي
عجيب، يحاكي العقل الباطن فيرسم له صورًا مستقبلية متوقعة، من واقع ملموس، يصف له
الحال إذا تجاوز الحدود: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا
وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) النور:
39].
وقد يكون لزامًا على الدعاة والمربين الحكماء، أن يعلموا الناس ملامح
شخصية المنافق ليتقيها في نفسه، ومنها عدم التأدّب والتحلّي بأخلاق المؤمنين
وذوقياتهم التي بات العالم ينتهجها بدعوى الإتيكيت والتحضَر؛ فالتأدب مع الرموز
الربانية والشخصيات العلمية والقيادات المؤمنة هو درس مستوحى من الآيات التي تطرقت
للتأدّب الواجب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطاعة والتحاكم. من هنا
لابد أن يستثمر الدعاة هذه المواطن؛ إذ كيف يتأدّب المؤمن الخالص وكيف يطيع وفيم
تكون الطاعة؟! هذا الفهم لن يتحقق إلا بجهد العلماء والدعاة المربين، وأحسب أنّ
أمّة محمد بين هذا وذاك، فإن تحقق الفهم نتج عنه حسن التطبيق، فكان وعد الله حقًا،
وكان الاستخلاف والتمكين في الأرض والنصرعلى الكافرين. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور:55-56].
وفي الختام، فإنّ اسثمار الدعاة لخواتيم السور استثمارًا تربويًا هو مهارة
ذكية، كمهارة الفهم والتدبّر، وقدرتُهم على عرض أسرار السورة وإسقاط النص على واقع
الحياة فطنة وحكمة من لدن حكيم خبير، ليس للدعاة مصدر أغنى ولا أصفى ولا أسمى من
كتاب الله لو أحسنوا واستعانوا بالله وما عجزوا.
إضافة تعليق