لعلّ أعظمُ قصص الصّبر في التاريخ البشريّ قصة أيوب عليه السلام، الذي يُضرب المثلُ به فيُقال: “يا صبر أيوب”، وهو نبي من ذرّية إسحاق بن إبراهيم- عليهم الصلاة والسلام-، وقد ذكر في كتابات المفسرين أنه ربما عاش في منطقة تقع في الشرق الأوسط، وتحديًا في الشام، التي تضم اليوم سوريا وفلسطين ولبنان والأردن.

وثَبَتَ أنّ الله- عزّ وجلّ- أعطى أيوب- عليه السلام- نعمًا كثيرة، حيث أنعم عليه بالعلم والحكمة والنبوة، وأعطاهُ المال الكثير والأنعام والعبيد، والصحة والعافية، والأصحاب، و7 من البنين و7 من البنات، وعلى الرغم من أن الخيرات قد تجمعت له، أرادَ الله أنْ يجعلهُ مثلًا في الصبر، فجاءت الابتلاءات بصور مختلفة ومتنوّعة، حيث بدأت بفقدهِ الأموال والأراضي والعبيد، ثم ابتلي بصحتهِ فأصابتهُ الأمراض حتى أُقعد، وابتعدَ الأصحاب عنه فصارَ وحيدًا، ثم أصبحَ البلاءُ عظيمًا ففقد الأبناء واحدً تلو الآخر، ولم يبقَ له شيءٌ مما كانَ، إلا زوجتُه المُضحية الصالحة التي كانت صابرةً معهُ، واثنين من الأصحاب يسألونَ عنه من بعيد، إلى أن من الله عليه بالشفاء وعوّضه نظير صبره.

مختصر قصة أيوب عليه السلام

وجاءت قصة أيوب- عليه السلام- في سورة الأنبياء، حيث قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الأنبياء: 83-84]، وفي سورة (ص) قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [ص: 41-43].

يُخبرنا الله- سبحانه وتعالى- عن عبده ونبيه أيوب- عليه السلام-، وما كان ابتلاه به من الضّر في جسده، وماله، وولده، حتى لم يبقَ من جسده مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه، ولم يبقَ له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه.

وكان قد رَفَضَه القريب والبعيد، سوى زوجته، التي كانت لا تفارقه صباحًا ولا مساءً إلا لخدمة الناس، لإيمانها بالله ورسوله، حيث ظلت على ذلك نحو 18 سنة، ولما طال عليه الأمر، واشتد به الحال، وانتهى القدر المقدور، وتم الأجل المحدد تضرّع أيوب إلى ربه قائلا: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، وفي الآية الأخرى، قال: {رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}.

عند ذلك استجاب له الله الرحمن الرحيم، وأمره أن يقوم من مقامه، وأن يضرب الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله عينًا، وأمره أن يغتسل منها، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثمّ أمره فضرب الأرض في مكان آخر، فأنبع له عينًا أخرى، وأمره أن يشرب منها، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرًا وباطنا؛ ولهذا قال تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}.

وروى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “بينما أيوب يغتسل عريانًا، خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثو في ثوبه، فناداه ربه، يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عمّا ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك”. ولهذا قال تعالى: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب}، قال الحسن وقتادة: أحياهم الله تعالى له بأعيانهم، وزادهم مثلهم معهم. قال أبو حيان: “والجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شُتِّت منهم”.

وروى ابن عساكر عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما-، قال: سألت النبي- صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم}، قال: “ردَّ الله تعالى امرأته إليه، وزاد في شبابها، حتى ولدت له ستّا وعشرين ذكرًا”.

وقوله سبحانه: {رحمة منا} أي: رحمة به على صبره، وثباته، وإنابته، وتواضعه، واستكانته، {وذكرى لأولي الألباب} أي: عبرة لذوي العقول؛ ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة.

وفي سورة الأنبياء: {رحمة من عندنا وذكرى للعابدين}، أي: أجبنا دعاءه، وفعلنا معه ما فعلنا من ألوان الخيرات، من أجل رحمتنا به، ومن أجل أن يكون ما فعلناه معه عبرة وعظة وذكرى لغيره من العابدين، حتى يقتدوا به في صبره على البلاء، وفي المداومة على شكرنا في السراء والضراء.

وقوله تعالى: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث}، ذكروا أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته، ونقم عليها في أمر فعلته. قيل: إنها باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه، فلامها على ذلك، وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة. وقيل: لغير ذلك من الأسباب. فلما شفاه الله وعافاه، ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تُقَابَل بالضرب، فأفتاه الله- عز وجل- أن يأخذ ضغثا- أي: حزمة أغصان كثيرة- فيه مائة قضيب، فيضربها بها ضربة واحدة، وقد برت يمينه، وخرج من حنثه، ووفى بنذره، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه؛ ولهذا قال تعالى: {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}، أثنى الله تعالى عليه ومدحه بقوله: {إنه أواب} أي: رجَّاع منيب للحق.

دروس من قصة أيوب عليه السلام

وتحتوي قصة أيوب- عليه السلام- على العديد من المعاني والعِبر والدروس التربوية، منها:

  • التوكُّل على الله، والصبر على بلائه سبب لنَيل المؤمن الأجرَ، والثواب. 
  • تقوية الصلة بالله -تعالى- والثقة المُطلقة به. 
  • تهذيب النفس على الصبر على البلاء، والشُّكر في الخير، والشرّ. 
  • صبر العبد دليل قويّ على عُمق إيمانه، وصدق توجُّهه لله -تعالى-. 
  • الرضا بقضاء الله -تعالى-، وقَدَره، واللجوء إليه، وتَرك ما سواه عند اشتداد المِحَن. 
  • الأخذ بالأسباب، والإخلاص في السَّعي، ودعاء الله عند الشدائد؛ للوصول إلى النجاح.
  • اللجوء إلى الله دائماً وأبدا في السراء والضراء، وفي العسر واليسر، وفي المنشط والمكره.
  • الاعتقاد دائمًا أن لا مجيب إلا الله سبحانه، وأن لا كاشف لما نزل من البلاء إلا رب الأرباب، وخالق الأسباب، فهو المعين، وهو المجيب، وهو الذي بيده مقاليد كل شيء، وهذا الاعتقاد يُدْخِلُ الراحة والطمأنينة في قلب المؤمن، ويجعل حياته هادئة مستقرة لا اضطراب فيها ولا قلق، ونفسه راضية مطمئنة، ترضى بما كتبه الله عليها، وتقبل بما قسمه الله لها.
  • تذكرة لمن ابتلى في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوةٌ بنبيِ الله أيوب- عليه السلام-، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك، فصبر واحتسب، حتى فرّج الله عنه؛ وهذا الفرج لمن صدق مع الله سرا وجهرا، واتقاه -عز وجل-.
  • تكفيرُ السيئات، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: “مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (تعب) وَلَا وَصَبٍ (مرض) وَلَا هَمٍّ (كره ما يتوقعه من سوء) وَلَا حُزْنٍ (الأسى على ما حصل من مكروه) وَلَا أَذًى (من تعدي غيره عليه) وَلَا غَمٍّ (ما يضيق القلب والنفس) حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ” (البخاري).
  • رفع منزلة المبتلى عند الله- سبحانه وتعالى-، وتنقية نفسه من شوائبها من الرياء وغيره، وتعلق المبتلى بالله -عز وجل-.
  • إظهارُ الناسِ على حقيقتهم، فمن الناس من يدّعى الصبر وليس بصابر، فالمرض والفقر، والجوع والآلام، وفقدان الأولاد والأصدقاء، وخسارة الأموال، وغير ذلك، أمور لا تطيقها وتتحمل ألمها إلا النفوس الأبية الكبيرة، وهي التي ترضى بقضاء الله وقدره.
  • البلايا والمحن للمؤمن تطهير وتزكية، ومنح وعطية: قال الله -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة:155). 
  • البلاء ليس علامة على هوان العبد على ربه كما ظن صاحب أيوب: فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قُلْتُ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟” قَالَ: “الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ” (أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
  • ليست العافية مِن البلاء علامة على الكرامة، بل قد يكون الأمر على العكس: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: “هَلْ أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قَطُّ؟”، قَالَ: (وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟) قَالَ: (حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ)، قَالَ: “مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ”، قَالَ: (فَهَلْ أَخَذَكَ هَذَا الصُّدَاعُ قَطُّ؟)، قَالَ: “وَمَا هَذَا الصُّدَاعُ؟”، قَالَ: (عِرْقٌ يَضْرِبُ عَلَى الإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ)، قَالَ: “مَا وَجَدْتُ هَذَا قَطُّ”، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
  • البلايا والمحن تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وهكذا الطريق إلى الجنة: قال الله- سبحانه وتعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) (البقرة:214). 
  • الصبر أعظم عطية، وأجره يدل عليه: قال- صلى الله عليه وسلم-: “وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ” (متفق عليه).
  • الصابرون لهم أجر غير ممنون: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
  • الصابرون هم الفائزون: (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون: 111].
  • الصابرون أهل ذكر الله في الملأ الأعلى وأهل رحمته وهدايته: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-157].
  • الصابرون أهل محبة الله: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].
  • نجاح أيوب- عليه السلام- في الاختبار، لأن الله- عز وجل- قال في آخر الآيات: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرا نّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). حيث ابتلاه الله- عز وجل- بأن سلب منه جميع ماله، وأهله، وأصبح مريضاً ضعيفا.

هكذا، فإن قصة أيوب عليه السلام تعد من أهم القصص في القرآن الكريم، التي تذكرنا بالصبر والإيمان والشكر والتواضع والرضا، وهي قصة أملٍ وتفاؤل ويقين بأن بعد العسر يسر.

مصادر ومراجع:

  1. إسلام ويب: قصة أيوب عليه السلام.
  2. د. طارق سويدان: أيوب عليه السلام شعار الصبر.
  3. محمد صالح المنجد: قصة أيوب عليه السلام.
  4. الشيخ عبدالله بن علي الطريف: قصة نبي الله أيوب- عليه السلام- دروس وعبر.
  5. سلام الطائي: النبي أيوب عليه السلام.. أنموذج الصبر والإيمان.
  6. عصام حسنين: عِبَر من قصة أيوب -عليه السلام-.
ما الفرق بين خجل الطفل وضعف شخصيته ؟ كيف أوازن بين تربية ولدي على التسامح وعدم تضييع الحق؟! أفكار عملية لمختلف المراحل.. كيف نرسّخ عقيدة أبنائنا حول فلسطين والأقصى؟ انكفاء النُّخب والقيادات الدعوية معرفة أحوال المدعوين.. طريق المربي للدعوة على بصيرة