يعد الاعتناء بالعملية التربوية من أهم الأصول الفكرية والثقافية التي اتفقت عليها الأمم عبر التاريخ؛ فما من أمة وإلا ولها إسهامات وجهود ونظريات في التربية والتعليم
يعد الاعتناء بالعملية التربوية من أهم الأصول الفكرية
والثقافية التي اتفقت عليها الأمم عبر التاريخ؛ فما من أمة وإلا ولها إسهامات وجهود
ونظريات في التربية والتعليم كانت بمثابة الميثاق والدستور التي سرت عليها أجيال
هذه الأمة، وكلما كانت الأجيال متمسكة بتراثها التربوي وإنتاجها العلمي في هذا
المضمار كانت أشد تمسكًا بهويتها وحفاظًا على خصوصيتها وتميزها بين الأمم.
ولقد تميزت الأمة الإسلامية دون غيرها من سائر الأمم
والحضارات بصياغة محكمة وشاملة وراسخة للفكر التربوي عبر جهود وإسهامات علماء
وفقهاء ومعلمين ومربين امتدت جهودهم الفكرية في العملية التربوية لأكثر من أربعة
عشر قرنًا متصلة من الزمان. ومن أهم الأمور التي ساعدت على وجود هذه الصياغة
المحكمة للفكر التربوي؛ الصلة الوثيقة بين علوم الدين وخاصة الفقه وعلوم التربية.
فالفقه الإسلامي بمدراسه الكثيرة نشأ وثيق الصلة بحركة
الحياة العملية وحياة الناس بكل ما فيها من أحداث وتفاعلات وقضايا كانت محل اهتمام
عموم الأمة، وهو ما أدى إلى توثيق الصلة بين الفقه على وجه العموم وبين العمل
التربوي، خاصة أن الإسلام ليس مجرد معتقدات وأفكار ونظريات علمية جافة مجردة من
واقعها الحي، فحقائق الإسلام وتعاليمه وقيمه لابد أن تتشخص واقعًا عمليًّا حيًّا
في سلوك الناس ومعاملاتهم، والعملية التربوية نفسها لا تخرج عن كونها إجراءً
تنفيذيًّا يسعى إلى أن يحيل الأفكار والتوجهات والمعتقدات القائمة في كل من العقل
والقلب إلى عمليات سلوكية وأفعال إنسانية.
وقد زخرت المكتبة الإسلامية والتراث العلمي بعدد وفير من
الكتابات التربوية المتخصصة التي دونها بعض الفقهاء، فضلًا عما جاء متناثرًا في
عدد كبير من الكتابات الفقهية المتخصصة، بحكم وقوع بعض القضايا التربوية في عداد
المسائل الفقهية، وخاصة ما يتعلق بالولاية والقوامة، وتربية الأولاد وحقوقهم، ومدى
سلطة الآباء عليهم وحضانتهم. منها على سبيل المثال: كتاب (أدب الإملاء والاستملاء)
لعبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني المروزي المولود سنة 506هـ، وكتاب (تعليم
المتعلم طرق التعلم) لبرهان الإسلام الزرنوجي المتوفى سنة 591هـ، وكتاب (تذكرة
السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) لبدر الدين بن جماعة الحموي الشافعي،
المولود سنة 639هـ بحماة، وكتاب (تحرير المقال) لابن حجر الهيثمي المتوفى عام
973هـ، وكتاب (اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم) للشيخ زكريا الأنصاري
المولود سنة 825هـ بمصر، و كتاب (الأخلاق والسير في مداواة النفوس) للفقيه الظاهري
ابن حزم المتوفى سنة 456هـ، وكتاب (أدب الطلب) لمحمد بن على الشوكاني المتوفى سنة
1250 هـ باليمن، وكتاب (إحياء النفوس) للسبكي... وغيرها كثير.
ومن بين المدارس الفقهية التي نشأت في الأمة الإسلامية
تتميز المدرسة المالكية بأنها الأكثر عناية واهتمامًا بالفكر التربوي والعملية
التربوية، والأكثر غزارة وإنتاجًا في هذا المضمار، وجهود وإسهامات علماء المالكية
تعد من أهم ما كُتب في التراث التربوي للأمة، وذلك لباكورية وأسبقية المدرسة
المالكية في الاهتمام بالفكر التربوي والتعليمي، واقتران هذا الاهتمام بمرحلة
التأسيس منذ البداية مع بزوغ نجم الإمام مالك بن أنس في سماء العلم والفضل في
الأمة الإسلامية.
ونحن في هذه السلسلة سنعرض لجهود وإسهامات علماء
المالكية في صياغة النظرية التربوية، ووضع لبنات الفكر التربوي من خلال قراءة لفكر
ونتاج ثلاثة من أهم علماء المالكية في المغرب الإسلامي، وهم الإمام ابن سحنون،
والإمام القابسي، والقاضي عياض، مع الوضع في الاعتبار أننا سبق أن تكلمنا في مقال مستقل
عن جهود الإمام الطرطوشي التربوية ومدرسته العلمية الشهيرة.
أولًا: الإمام ابن سحنون المالكي:
التعريف به: هو أبو عبد الله محمد بن سحنون بن عبد
السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي، ولد سنة 204هـ في أسرة علمية مرموقة؛ فوالده
علاّمة إفريقية -تونس- وأكبر فقهائها؛ الإمام سحنون محمد بن عبد السلام، وهو واحد
من أشهر علماء المالكية في بلاد المغرب، وكان ذا مكانة مرموقة في دولة الأغالبة.
رحلته العلمية: حفظ محمد بن سحنون القرآنَ الكريم وبدأ
في تعلُّم أصول العلوم الشرعية، فسمع من والده وحفظ كتبه، كما سمع من كبار علماء
القيروان، ومنهم عبد الله بن أبي حسان اليحصبي تلميذ الإمام مالك، وكان محمد بن
سحنون ذا عقلية فذة وقدرة فائقة على التحصيل والتأصيل، حتى أصبح يناظر الفقهاء
والعلماء، وعلى رأسهم أبوه علامة تونس وبلاد المغرب وهو في سن المراهقة أول الشباب،
ثم قرر الرحلة إلى الحج وطلب العلم في المشرق.
وصل ابن سحنون إلى مصر في عام 235هـ، وقد سبقته شهرته،
فعقد حلقة علم بجامع عمرو بن العاص، وحلّق عليه العديد من الشيوخ وطلبة العلم وعلى
رأسهم الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي الذي مدحه وقال: إنه لم يجد مثله على حداثة
سنّه. ثم انطلق إلى الحجاز وأدى فريضة الحج، ثم عاد إلى المدينة المنورة والتقى
بأشياخها وعلمائها.
عاد ابن سحنون إلى بلاده بعد رحلة علمية ودينية حافلة
التقى فيها بكبار العلماء والأشياخ في أقطار عدة، وبدأ عطاؤه العلمي بالتأليف
والتصنيف في المذهب المالكي وفي التعليم بجامع عقبة بالقيروان فأقبل عليه طلبة
العلم، لا سيما بعد وفاة والده الإمام سحنون سنة 240هـ، وذاع صيته وبرز نجمه بين
علماء الزمان؛ لأنه كان يجمع مع العلم أدبًا وأخلاقًا عالية، مع معرفة لافتة
وباهرة بآراء المذاهب الفقهية المخالفة لمذهب المالكية، وظل على ذلك حتى وفاته في
عام 256هـ بالساحل، فحملوه إلى القيروان حيث دفن، عن عمر ناهز الـ 54 عامًا -رحمه
الله-.
مؤلفاته: كتب محمد بن سحنون في جملة من الفنون، وهو من
أكثر أهل زمانه تأليفًا، فقد ألّف في جميع فنون العلم كتبًا كثيرة تنتهي إلى
المائتين، ومن أهمها: كتاب الجامع؛ وهو من أشهر تصانيفه، اشتمل على فنون عديدة
كالسير والأمثال وأدب القضاء والفرائض والتاريخ وطبقات الرجال والمسند في الحديث
وتحريم المسكر والإمامة، ومسائل الجهاد والرد على أهل البدع، وكتاب الإيمان والرد
على أهل الشرك والحجة على القدرية والحجة على النصارى وأحكام القرآن، ورسالة آداب
المعلمين، وهي الرسالة التي وضع فيه خلاصة فكره التربوي وصاغ فيه نظريته التربوية
والتعليمية الشهيرة، والتي تعد أقدم نظرية تربوية في التراث الإسلامي.
الدولة ومناهج التربية والتعليم:
ظل ميدان التربية والتعليم لأكثر من عشرة قرون بعيدًا عن
تدخلات الدولة ويد السلطات السياسة في العالم الإسلامي، في المشرق والمغرب، يقوم
على شأنه وتطويره وتوثيقه ووضع قواعده ومناهجه العلماء والقضاة والمدرسون، وهؤلاء
كانوا يعتمدون في استمرار عملهم في تربية الأطفال والمراهقين على الأوقاف
والتبرعات والصدقات والرواتب الشهرية التي كان يُقدِّمها أهل الخير من الخلفاء
والسلاطين والأمراء والأثرياء والوزراء، الذين كانوا يتنافسون في بناء المدارس
ورعاية القائمين عليها مدرسين وطلابًا.
بالجملة لم تكن الدولة تتدخل في وضع المناهج ولا شكلها
ولا طريقة أدائها، ولكنها كانت تحتفظ بحق الإشراف العام والمتابعة الدورية لعمل
هذه المدارس؛ فقد كان المحتسبون يزورون المدارس والكتاتيب بصورة دورية للتأكد من
السلامة المادية والمعنوية للمدرسة والمدرسين، ومراعاة قواعد الشريعة الإسلامية في
تعليم الصبيان، والتحقيق في الشكاوى -إن وُجدت-، ومنع أدعياء العلم والفساق ومنحطي
المروءة من التصدي لتعليم الناس أو علاجهم أو الفتوى لهم في الأحكام أو الجلوس
للفصل في قضاياهم.
أصول نظرية ابن سحنون التربوية:
تميزت نظرية ابن سحنون التربوية بالشمول والابتكار
والتأسيس المعرفي؛ فقد كان -رحمه الله- سبّاقًا في وضع اللبنات الأولى للتعليم
والتربية بصورة منهجية راعت مسؤوليات وحقوق طرفي العملية التربوية والتعليمية -المعلم
والمتعلمين-، ومن أصول هذه النظرية:
أولًا: الإطار المعرفي:
لما كان الغرض من التعليم والتربية في نظر ابن سحنون
إعداد الفرد إعدادًا حقيقيًا للحياة الدينية والاجتماعية؛ فإن هذا الإعداد لا يتم
إلا بشمول معرفي مؤسس لعقلية الأطفال تمكنهم فيما بعد من أداء أدوارهم الاجتماعية
بصورة صحيحة، ومن أبرز العلوم التي يجب أن تلقن إلى الأطفال حسب نظريته:
- القرآن الكريم: باعتبار أن القرآن هو الأساس الأول
لمعرفة العقيدة الإسلامية وأصولها والقيام بالفرائض الدينية، لذلك يؤكد على البدء
به لما له من أثر في تربية الناشئة التربية الدينية الصحيحة.
- الفقه: ابن سحنون كان يرى الغاية الأولى من التربية
والتعليم: معرفة الدين وإقامته، لذلك كان اهتمامه منصبًا على تعليم فرائض الدين
والعلوم اللازمة لتحقيق هذه الغاية، ومن ثم أوجب تعليم الفقه، قال ابن سحنون فيما يرويه
عن أبيه: "ويلزمه أن يُعلِّمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينُهم، وعدد ركوعها
وسجودها، والقراءة فيها والتكبير، وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في
الصلاة، وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويعرفهم عظمته وجلاله؛
ليَكبروا على ذلك".
- اللغة العربية: باعتبارها وعاء العلوم ووسيلة فهم
القرآن، مع التأكيد على معرفة علم النحو والبلاغة، فقد اعتبر أن معرفة إعراب
القرآن ضروري ولازم للأطفال والصبيان.
- قواعد الحساب: وهذا مما تفرد به ابن سحنون عن غيره ممن
كتب في تعليم الصبيان وتربيتهم؛ حيث رأي أن الحساب لازم ومهم في الأدوار
الاجتماعية وممارسة فنون الحياة من البيع والشراء وخلافه، ولازم في الأدوار
الدينية لمعرفة المواريث والوصايا والأنصبة.
تلك العلوم الأربعة اعتبرها ابن سحنون إلزامية وجوبية
بالنسبة للأطفال، أما غيرها من المواد الأخرى التكميلية كالشعر والخط وعلم التجويد
والخطب، فهذه كلها على سبيل الاختيار والتطوع في نظر ابن سحنون.
كما تكلم ابن سحنون أيضًا عن العلوم التي ينبغي تجنيب
الأطفال تعلمها، مثل تعليم الألحان، أو ما نُسمِّيه الآن: "المقامات
الصوتية" فقال: "ولا أرى أن يعلمهم ألحان القرآن؛ لأن مالكًا قال:
"لا يجوز أن يقرأ القرآن بالألحان". ولا أرى أن يُعلِّمهم التحبير؛ لأن
ذلك داعية إلى الغناء، وهو مكروه، وأن ينهى عن ذلك بأشد النهي".
وبهذا يكون ابن سحنون قد سبق غيره من علماء التربية
بأكثر من ألف سنة عندما حذر من العلوم والفنون التي قد تورث الأطفال أفعالًا
مخالفة للشرع والعرف.
ثانيًا: الزمن الدراسي:
يقسم ابن سحنون الزمن الدراسي في كتابه إلى ثلاثة أقسام:
1-زمن الحفظ
2-زمن الفهم 3-زمن الترويح
فيلزم ابن سحنون المعلمين بتخصيص أوقات محددة لكل علم من
العلوم، ثم تقسيم هذا الوقت لثلاثة أقسام للوقوف على قدرة الطفل على الحفظ
والاستيعاب والفهم وتصحيح الأخطاء ثم الاستراحة بين كل علم وآخر، فلا ينتقل من مادة
لأخرى قبل أن يتأكد من استعداد الأطفال لتلقيها. قال ابن سحنون: "ولا بأس أن
يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن ذلك منفعة لهم، وليتفقَّد إملاءهم، ولا يجوز أن
ينقلهم من سورة إلى سورة حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها".
كما أشار ابن سحنون إلى مسألة العطل وأيام الراحة
بالنسبة للأطفال، فقد أقر ابن سحنون عطلة عيد الفطر للصبيان يومًا واحدًا، ولا بأس
أن تصل إلى ثلاثة أيام، وأقر في عيد الأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن تصل إلى خمسة
أيام، إضافة إلى عطلة الأسبوع من عشية يوم الخميس إلى صباح يوم السبت.
ثالثًا: الإلزامية:
نظرة ابن سحنون الدينية للتربية والتعليم جعلته يقول
بوجوب التربية والتعليم للجميع دون تفرقة بين أغنياء وفقراء، سادة وعبيد، رجال
ونساء، فالجميع مطالب بإقامة دينه قولًا وعملًا، وقد أخرج بسنده في كتابة عن ابن
مسعود -رضي الله عنه- قوله: "ثلاث لا بد للناس منهم: لا بد للناس من أمير
يحكم بينهم، ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضًا؛ ولا بد للناس من شراء المصاحف وبيعها،
ولولا ذلك لقل كتاب الله، ولا بد للناس من معلم يعلم أولادهم".
على أن ابن سحنون كان ضد أن يتعلم الفتيان والفتيات في
مؤسسة واحدة؛ لأن التعليم المختلط مفسدة لهم -حسب رأيه- اعتمادًا على ما ذكره
الإمام سحنون: "وأكره للمعلم أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك
فساد لهم".
إن هذا التخوف من نتائج التعليم المختلط كان حاضرًا في
ذهن الكثير من الفقهاء ورجال العلم، وهذا ما جعلهم يخصصون مؤدبًا لتعليم البنات في
البيوت.
رابعًا: معاملة الأطفال:
اهتم الإمام ابن سحنون بقضية "معاملة
الأطفال"، وكان أول ما ذكره في هذه القضية مراعاة المعلم لمشاعر الأطفال عند
معاملته إياهم، وعلى رأسها العدل والسوية، وعدم التفرقة بينهم على أساس العرق أو
الحالة الاجتماعية من الغنى والفقر، ووضع لذلك بابًا عنوانه "ما جاء في العدل
بين الصبيان" ذاكرًا بعض الأحاديث النبوية في هذه المسألة، وناقلاً بسنده عن
الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قوله: "إذا قوطع المُعلِّم على الأُجرة فلم
يعدل بينهم (أي الصبيان)، كُتب من الظلمة".
كما حض ابن سحنون المعلم على الشفقة والرحمة بالأطفال
والصبيان؛ لأنه البديل عن الأب، وهذا يوجب عليه سياستهم في كل ما فيه صلاحهم
وخيرهم، بحيث إذا أمرهم فليكن أمره لهم بمعروف، وإذا نهاهم فليكن نهيه بمعروف،
وهذه السياسة هي التي تجعل الأطفال يطمئنون إلى معلمهم ويأخذون منه.
خامسًا: الثواب والعقاب:
وضع ابن سحنون أسسًا مهمة في قضية ضرب الأطفال أثناء
تربيتهم وتعليمهم أو ما عُرف فيما بعد في النظريات التربوية الحديثة بمبدأ
"الثواب والعقاب"، أسسًا سبق بها غيره من علماء الإسلام وعلماء الغرب،
من أهمها:
1-ألا تكون العقوبة في حالة غضب؛ لأنه ليس من العدل أن
يضربهم وهو في حالة نفسية مضطربة.
2-أن تكون العقوبة لازمة؛ أي إذا كان في ذلك منفعة لهم،
كعدم قيام الطفل بواجباته والتشويش المفرط في الكتاب والانقطاع عن الطلب.
3-أن تكون برفق؛ لأن العقاب ليس انتقامًا من الطفل وإنما
هو تنبيه إلى التقصير الذي حصل منه.
4-ألا يتجاوز المعلم الحد في ضربه للصبيان؛ وقد جعل محمد
بن سحنون الضرب ثلاثًا، ولا يتجاوز ذلك إلا إذا أذن له الأب في الأكثر، خاصة إذا
ألحق الطفل أذى بغيره يقول: "ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يجاوز
بالأدب ثلاثًا إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدًا".
أما في حالة اللعب فإنه يمكن له أن يزيد عن الثلاثة ولا
يجاوز العشرة؛ لأنها غاية الأدب اعتمادًا على الأثر: "لا عقوبةَ فوق عشرِ
ضرباتٍ إلا في حدٍّ من حدودِ الله".
وإذا ضرب المعلم الصبي فأخطأ ففقع عينه أو أصابه فقتله
كانت على المعلم الكفارة في القتل والدية على العاقلة إذا جاوز الأدب أي الضرب
المحدد. أما إذا لم يجاوز الأدب وفعل ما لا يجوز له فلا دية عليه وإنما تضمن
عاقلته ما يبلغ الثلث.
5-أن يقوم المعلم بضرب الصبيان بنفسه ولا يترك هذا الأمر
لواحد منهم؛ حتى لا تجري بينهم الحمية والمنازعة.
وهكذا فإن هذه الشروط التي وضعها ابن سحنون تحيط الضرب
بسياج من الأمن، وحتى لا يخرج عن معنى التأديب الموضوع له.
سادسًا: التشارك الأسري:
وهذا مما تفرد به ابن سحنون عن غيره من المتكلمين في
العملية التربوية، فقد أشار إلي هذا الأمر في حديثه عن عقاب المتعلِّم، وتأكيده
على ضرورة إشراك الأسرة في تحديد عدد الضربات إن أراد الزيادة فوق ثلاثة؛ إذ قال
في هذا الصدد: "ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ويؤدبهم على اللعب والبطالة،
ولا يجاوز بالأدب ثلاثًا، إلا أن يأذن له الأب في أكثرَ من ذلك". وبهذا يكون
ابن سحنون قد دعا إلى التعاون بين البيت والمدرسة لإنجاح التعليم، ويُبيِّن هذا ما
أورده في رسالته؛ حيث قال: "وعلى المعلم أن يُخبر أولياءهم إن لم يَجيئوا،
ولا يُرسل بعضهم في طلب بعض إلا بإذن أوليائهم".
رحمة الله على الإمام ابن سحنون وجزاه خير الجزاء على
رسالته القيمية في تعليم الصبيان والتي تعد باكورة الإسهامات التربوية للمدرسة
المالكية وأئمتها الكبار، والمنهج القويم المختصر الرشيد للمعلمين والمربين من لدن
كتابتها من اثني عشر قرنًا من الزمان إلى وقتنا الحاضر.
إضافة تعليق