من أكثر الشخصيات الإسلامية إثارة للجدل عبر التاريخ الإسلامي: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ذاك العالم الموسوعي الكبير الذي ترك أثرًا بالغًا في الحياة العلمية والسياسية بآرائه وفتاواه ومواقفه العلمية والعملية في القرن الثامن الهجري
من أكثر الشخصيات الإسلامية إثارة للجدل عبر التاريخ
الإسلامي: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ذاك العالم الموسوعي الكبير الذي
ترك أثرًا بالغًا في الحياة العلمية والسياسية بآرائه وفتاواه ومواقفه العلمية
والعملية في القرن الثامن الهجري، وجهاده في شتى الميادين، وجهوده التربوية
والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية، التي تبلورت في شكل مدرسة متميزة وخاصة جدًا في
التراث الإسلامي عُرفت باسم "مدرسة ابن تيمية"، والتي صار لها أتباع
وتلاميذ وأنصار في شتى بقاع العالم، تخرجوا على تقريراته العلمية، وتحقيقاته
التراثية، واختياراته العقدية، ومنهجه التربوي والسلوكي في إصلاح المجتمع والحفاظ
على هويته وانسجامه، وكانوا في المحصلة النهائية ترجمة حية لفكر ابن تيمية وعلومه،
أبقت مدرسته ومنهجه حيًا حاضرًا متفاعلاً مع وسطه وبيئته ومؤثرًا فيها حتى اليوم،
ما يعد من وجهة نظر محبي الشيخ وخصومه -على حد سواء- قمة النجاح التربوي والعلمي
لشيخ الإسلام.
ونحن في هذا المقال سنحاول إلقاء الضوء على جهود الشيخ
التربوية وأثرها في تأسيس أجيال متعاقبة من التلاميذ النجباء، الذين كان لهم أعظم
الأثر في الحفاظ على المجتمعات الإسلامية في مواجهة تيارات التغييب والتغريب.
قبل ظهور شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كانت هناك
ثلاثة مدارس تربوية تهيمن على الحياة الثقافية والاجتماعية في العالم الإسلامي:
مدرسة الفقهاء والمحدثين، المدرسة الصوفية، المدرسة الكلامية. وقد نشبت بين
المدارس الثلاث خلافات عميقة في الرؤى والاستراتيجيات والأدوات تعدت إطار الخلاف
العلمي إلى التنازع والحطّ والتشنيع والتسفيه المتبادل، وقد استعان كل فريق
بالسلطة في فترة من الفترات، فقد كانت الدولة لمدرسة الفقهاء والمحدثين في القرون
الأولى، ثم ما لبثت أن فقدت قدرًا كبيرًا من بريقها وجاذبيتها بسبب التعصب المذهبي
الذي أوجد الجمود وضيق الأفق.
ثم انتقلت الدولة للمدرسة الصوفية التي استحوذت وهيمنت
على الساحة في العالم الإسلامي ابتداءً من أواخر القرن السادس وما تلاه من القرون؛
بفضل الجهد غير المسبوق الذي بذله الإمام الغزّالي الذي عمل على إصلاح المنهج
الصوفي وتهذيبه وتنقيته من الشطحات والغلو، فأوجد بذلك قبولًا شعبيًا طاغيًا
للمدرسة ورموزها؛ ما جعل الغزّالي صاحب منهج تربوي فريد امتد أثره حتى الآن.
أما المدرسة الكلامية فقد ظلت على مر العصور مدرسة
للخاصة والمهتمين بالأعمال المترجمة والفلسفة اليونانية، وكان عمادها التربوي من
خلال إسهامات الفكر المعتزلي وكتابات إخوان الصفا وابن سينا.
تأثر ابن تيمية بعصره وتفاعل مع مشكلاته وأزماته العميقة،
فأبت عليه نفسه الوثابة المتقدة حمية وغيرة على الدين وأهله أن يقنع من علمه
وخبراته بالدرس وكفى، فشرع في مواجهة أزمات عصره بعلمه وبيانه ومواقفه العلمية
والعملية القوية والجريئة، وقد وضع يديه على مكامن الداء وأصل البلاء، فجعل من
دعوته شعارًا جامعًا ودواءً شافيًا لعلل الأمة بالعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة
من عقائد ونظم وسلوكيات ومجتمعات، وهذا بطبيعة الحال قاد ابن تيمية لصراع مرير مع
سدنة التقليد والجمود وحرّاس الخرافة وأرباب الكلام والنظر والفلسفة.
وقد بنى ابن تيمية منهجه التربوي والإصلاحي اعتمادًا على
علمه الواسع وشعبيته الجارفة ومشاركته الفاعلة في مواقف الأمة الحاسمة، وتصديه
الجريء للمفسدين والمنحرفين، بحيث صار ابن تيمية المحتسب المقدم في بلاد الشام له
أتباع وتلاميذ ورجال يأتمرون بأمره، فكان له صولات وجولات في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
ومع انشغاله بقضايا الأمة الكثيرة، كان لا ينفك عن
التدريس والتأليف والردّ على المعضلات بالإجابات الشافية الباهرة؛ فابن تيمية جمع
بين جهاد التتار، وافتكاك الأسرى، والردّ على النصارى والمعتزلة والباطنية والفرق
الكلامية، وردع من تعرض للجناب النبوي، وزجر الأمراء والسلاطين عن الظلم، ومواجهة
التقليد والجمود المذهبي، وتعرض في سبيل ذلك لشتى صنوف الابتلاء والاضطهاد.
أهم لبنات المنهج التربوي لابن تيمية:
1 – العلم النافع أساس الحياة الفاضلة السعيدة، وهو
العلم القائم على تحقيق التوحيد ومعرفة معنى شهادة التوحيد، ومعنى الإسلام
والإيمان، وتحقيق العبودية بمعانيها الواسعة، وتنقية المجتمعات من شوائب الشرك
والخرافة، والحرص على تعلم العلوم النافعة الرافعة لشأن الأمة بين الأمم.
2 – معرفة الطبيعة الإنسانية وموضع الإنسان في هذا الكون،
ومعرفة عيوب النفس البشرية وطبائعها وأدوائها ودوائها، وذلك اعتمادًا على المصادر
الأصلية للدين من قرآن وسنة وإجماع الأمة.
3 – إعداد وتربية الفرد المسلم الذي يعيش من أجل دينه
وعقيدته، ويقتدي برسوله – صلى الله عليه وسلم – ومن سار على دربه.
4 – تحرير المجتمع المسلم من أسر الأفكار الغريبة
والعادات المستوردة والمناهج الدخيلة التي تسربت للمجتمعات المسلمة من خلال ترجمة
كتب الفلسفة اليونانية والهندية والاحتكاك مع الصليبيين، الذين مكثوا أكثر من
قرنين من الزمان بسواحل وأطراف العالم الإسلامي.
5 – بيان الخلل في المدارس التربوية والإصلاحية القائمة،
وكشف مواطن العوار والضعف فيها وما أورثته في الأمة من علل وأدواء.
أبرز تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية:
أثمرت دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية مدرسة كان روادها تلاميذه
الأوائل، وسارت تلك المدرسة على نهج زعيمها من تحمل المصاعب في سبيل المبدأ، والاستمرار
في إصلاح المجتمعات، والتصدي للمنكرات، ومحاربة الصوفية والفرق الكلامية والجمود
والتعصب المذهبي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لهم أثر في الحياة
العلمية والعامة في العالم الإسلامي، وذلك على مر العصور، تعرضوا لمثل ما تعرض له
شيخهم من الابتلاء والأذى، من أبرزهم:
الإمام ابن القيم، وهو أنجب تلاميذ ابن تيمية وأكثرهم
عملًا بمنهجه، والتزامه بطريقته، جهوده العلمية التربوية معروفة، مصنفاته في هذا
المجال مشهورة، بل فاقت كتابات ابن تيمية نفسه، وقد اعتقل مع شيخه في المرة
الأخيرة وظل في المعتقل حتى وفاة ابن تيمية.
ومنهم الحافظ المزي، المحدِّث الذي تعرض للضرب مرارًا
بسبب تأييده لمواقف ابن تيمية العلمية والعملية.
ومنهم الحافظ ابن كثير صاحب التاريخ والتفسير، وقد تعرض
للأذى والعزل من وظيفته بسبب تلمذته واقتدائه بابن تيمية.
ومنهم الحافظ الكبير الإمام الذهبي الشافعي، الذي سار
على نهج ابن تيمية العلمي والفكري، وإن كانت جهوده قد انحصرت في الجانب العلمي،
إلا أنه ترك إرثًا ضخمًا من المصنفات والكتب النافعة.
ومنهم ابن مري البعلبكي، وكان منحرفًا عن ابن تيمية -بادئ
الأمر- بسبب الشائعات والأباطيل التي روجها خصومه عنه، ثم اجتمع به فأحبه وتتلمذ عليه،
وكتب مصنفاته وبالغ في الانتصار له، وقَدِم القاهرة فتكلم على الناس بجامع الأمير حسين
وبجامع عمرو وهاجم الصوفية، فأراد الصوفية قتله فهرب، فطلبه القاضي المالكي الإخنائي
– وكان شديد العداوة لابن تيمية وأحد الساعين فيه -، ومنعه من الوعظ، وعقد له مجلسًا،
وتعصب عليه الصوفية بالباطل، وكادت تقوم فتنة، وآل الأمر إلى تمكين المالكي منه، فضربه
بحضرته ضربًا مبرحًا حتى أدماه.
ومنهم ابن البرهان المصري الذي غلب عليه حب ابن تيمية بحيث
صار لا يعتقد أن أحدًا أعلم منه، وقد قام بأكبر محاولة للإصلاح السياسي سنة 785هـ،
واستنفر الناس لردع المماليك عن الظلم والمفاسد، ولكن حركته باءت بالفشل بسبب
تأليب الصوفية العامة عليه.
ومنهم ابن سعد الشافعي الذي تبنى آراء ابن تيمية فتألم منه
قاضى القضاة تقي الدين السبكي ونازعه عدة مرات ولم يرجع.
ومنهم يوسف بن ماجد الذي سجن بسبب تبنيه لمنهج ابن تيمية،
ورغم ذلك لم يرجع.
ومنهم أبو بكر الهاشمي نزيل القاهرة، يميل إلى مذهب ابن تيمية،
وامتحن بسبب ذلك مرة وكان يحفظ كثيرًا من كلام ابن تيمية.
ومنهم ابن أبي العز الحنفي صاحب شرح العقيدة الطحاوية،
وقد نقل كثيرًا من كلام الشيخ في كتبه.
وضمت مدرسة ابن تيمية بعض المثقفات المتدينات مثل الناسكة
فاطمة بنت عباس التي كانت تحضر مجلس ابن تيمية، وكانت تنكر على الفقراء الأحمدية مؤاخاتهم
النساء والمردان، وتنكر أحوالهم، وتفعل من ذلك ما لا يقدر عليه الرجال.
ومن أشهر تلاميذ ابن تيمية في القرن التاسع: الإمام
البقاعي صاحب التفسير والتصانيف الماتعة النافعة، والذي تصدى للصوفية الاتحادية
والحلولية في أواخر القرن التاسع، وكان قوي الحجة، ثابت الجنان، بارع البيان، أعاد
للأذهان سيرة شيخه ابن تيمية حتى وافقه أعيان الزمان مثل قاضى القضاة ابن الشحنة وولده
عبد البر ونور الدين المحلي وقاضي القضاة عز الدين المحلي، وتبعهم جماعة كثيرة من العلماء
يقولون بنفس منهج وطريقة ابن تيمية.
كما اجتذبت مدرسة ابن تيمية لصفها بعض أمراء المماليك، كالأمير
بران أمير أخور، الذي كان كثير الحب في ابن تيمية وأصحابه.
ومنهم الأمير جنكلي، وكان معروفًا بالمحافظة على العبادات،
والميل لابن تيمية، والرد على من يهاجمه.
ومنهم الأمير سيف الدين قديدار، الذي لازم ابن تيمية في مقامه
بمصر، فتأثر به، وظهر ذلك في ولايته على مصر، فكان شهمًا؛ فأراق الخمور وأحرق الحشيشة
واستقامت به أحوال مصر والقاهرة.
ومازالت مدرسة ابن تيمية الفكرية تجتذب أنصارًا
وأفرادًا جددًا كل يوم، ومازال تأثيره فيهم ممتدًا حتى اليوم وإلى ما شاء الله -عز
وجل-.
إضافة تعليق